كان صعود الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى السلطة ووصوله إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، بمثابة علامة تشير إلى انتصار القومية المتطرفة، على تراث أمريكي قديم من العولمة. لقد فرض ترامب منذ وصوله إلى مؤسسة الرئاسة، معايير صارمة مناهضة للسوق الحر، وفي حين أنه فرض مجموعة من القيود الجمركية على دول عديدة، انقلب أيضًا على المؤسسات الأممية الكبيرة، وبدا وكأنه يتخلى عن الدور الأمريكي التقليدي والإستراتيجي في هذه المنظمات، الذي تكتسبه الولايات المتحدة بطبيعة الحال من تمويلها، وفي نفس الوقت، وجه انتقادات لاذعة للتحالفات الإقليمية، وتهجم على حلفاء تقليديين.
مع اقتراب دونالد ترامب من إتمام عامه الثاني في رئاسة الولايات المتحدة واقتراب شي جين بينغ من إتمام ست سنوات في رئاسة الصين، يبدو أن العالم يشهد تغيرًا في ملامح القوى العالمية
في ظل هذه الإدارة الأمريكية القومية والمركزية، التي تتعزز بالنزعة نحو العلاقات الثنائية، يبدو أن وجه العولمة القديم ولى نحو الشرق. حيث تعزز الصين من دورها في أسواق التبادل الحرة، وتستثمر بمبالغ غير مسبوقة في آسيا وأوروبا وإفريقيا وأمريكا الجنوبة. وهو ما يبدو معه السؤال ملحًا، عن مستقبل الهيمنة العالمية، أكثر من أي وقت مضى. يطل ألترا صوت في هذا التقرير البحثي المترجم عن موقع "تروث آوت"، على هذا النقاش الصاخب داخل أوساط الخبراء الاقتصاديين في هذه الفترة.
مع اقتراب دونالد ترامب من إتمام عامه الثاني في رئاسة الولايات المتحدة واقتراب شي جين بينغ من إتمام ست سنوات في رئاسة الصين، يبدو أن العالم يشهد واحدًا من هذه الصدامات التاريخية التي يمكن أن تغير ملامح القوى العالمية. وتمامًا مثلما أنتجت الصراعات بين الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون ورئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، سلامًا فاشلًا بعد الحرب العالمية الأولى، ومثلما أشعل التنافس بين الديكتاتور السوفيتي جوزيف ستالين والرئيس الأمريكي هاري ترومان فتيل الحرب الباردة، ومثلما وضعت الخصومة بين الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف والرئيس جون كينيدي العالمَ على حافة حرب نووية؛ فإن الرئيسين المخولة إليهما سلطة قيادة الولايات المتحدة والصين يواصلان الآن رؤاهما الجريئة والشخصية للغاية لنظامٍ عالميٍ جديدٍ، يُحتمل أن يعيد تشكيل مسار القرن الحادي والعشرين، أو يطيح بكل شيء.
تشكل البلدان، مثل قائديهما، حالة دراسية للتناقضات. فالصين قوة عظمى صاعدة، وتمتطي موجةً من التوسع الاقتصادي المتسارع مع بنية تحتية تكنولوجية وصناعية مزدهرة، وحصَّة متنامية من التجارة العالمية، وثقة زائدة في النفس. فيما تشهد الولايات المتحدة تراجعًا في هيمنتها، وانهيارًا في بنيتها التحتية، وفشلًا في نظامها التعليمي، وانكماشًا في حصتها من الاقتصاد العالمي، وحالةً عميقةً من الاستقطاب، وانقسامًا بين مواطنيها.
اقرأ/ي أيضًا: نعوم تشومسكي: إسرائيل رأس حربةِ قتل الديمقراطية
بعد أن قضى عمره ضمن الدوائر الداخلية السياسية العليا، صار شي جين بينغ رئيسًا للصين في عام 2013، وأحضر معه رؤية أممية جريئة من التكامل الاقتصادي لآسيا وأفريقيا وأوروبا من خلال الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية، التي يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى توسعة وامتداد نطاق الاقتصاد العالمي الحالي. بعد فترة قصيرة من امتهان السياسة ضمن مصاف متبني نظرية المؤامرة، تولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة باعتباره قوميًا متحمسًا لمبدأ أمريكا أولًا وعازمًا على عرقلة، بل وتفكيك، نظام عالمي صنعته أمريكا وهيمنت عليه، فيما ازدراه هو لأنه يقيّد قوة بلاده، حسبما افترض.
بالرغم من أنهما بدآ هذا القرن على أساس شروط سلمية وودية في العموم، تحركت الصين والولايات المتحدة، في الأعوام الأخيرة، نحو تنافس عسكري وصراع اقتصادي مفتوح. عندما سُمح للصين بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، كانت واشنطن واثقة من أن بكين سوف تلعب وفقًا للقواعد المقررة وسوف تصبح عضوًا ممتثلًا لما يمليه مجتمع دولي تقوده أمريكا. ولم يكن هناك تقريبًا أي وعي حول ما يمكن أن يحدث عندما تنضم دولةٌ تضم خمسَ سكان العالم إلى النظام العالمي، لتكون نظيرًا اقتصاديًا للبقية لأول مرة منذ خمسة قرون.
وفي الوقت الذي أصبح فيه شي جين بينغ الرئيس السابع للصين، فإن عقدًا من النمو الاقتصادي المتسارع الذي يبلغ 11% سنويًا واحتياطي عملة يتجه نحو رقم غير مسبوق يقدر بـ 4 تريليون دولار، قد خلق إمكانيات اقتصادية لتحولٍ جذريٍ متسارع في ميزان القوى العالمية. بعد أشهر قليلة في المنصب، بدأ شي جين بينغ بالاستفادة من هذه الاحتياطات الهائلة لإطلاق مناورة جيوسياسية جريئة، وتحدٍ حقيقي للهيمنة الأمريكية على منطقة أوراسيا وما وراءها من العالم. وبعد أن صارت الولايات المتحدة مبتهجة بمكانتها كونها القوة العظمى الوحيدة عقب "الانتصار" في الحرب البادرة، وجدت واشنطن صعوبة في البداية حتى في استيعاب مثل هذه الحقائق العالمية النامية حديثًا وكانت بطيئة في ردة فعلها.
لم تكن لمحاولة الصين أن تكون أكثر حظًا مما هي عليه من حيث التوقيت. بعد ما يقرب من 70 عامًا لعبت فيها دور المهيمن على العالم، بدأ نجم سيطرة واشنطن على الاقتصاد العالمي في الأفول، وبدأت قوتها التي كانت متفوقة من قبل في فقدان ميزتها التنافسية. وفي الواقع بحلول عام 2016، تسببت الاضطرابات التي جلبتها العولمة الاقتصادية، التي ذهبت مع هيمنة أمريكا، في إشعال ثورة من جانب المحرومين في ديمقراطيات العالم وفي قلب أمريكا، وهو ما صعد بدونالد ترامب، الذي أعلن نفسه شخصية "شعبوية"، إلى سدة الحكم. ولما كان عازمًا على تفقّدِ التراجع الذي شهدته بلاده، تبنى ترامب سياسة خارجية عدائية وانقسامية عكرت صفو تحالفات راسخة في آسيا وأوروبا، فهو بلا شك يعطي ذلك التراجع زخمًا جديدًا.
بعد أن قضى عمره ضمن الدوائر الداخلية السياسية العليا، صار شي جين بينغ رئيسًا للصين في عام 2013، وأحضر معه رؤية أممية جريئة من التكامل الاقتصادي
وخلال شهور من دخول ترامب إلى المكتب البيضاوي، كان العالم يشهد فعليًا خصومة حادة بين تبني شي لشكل جديد من التعاون العالمي، ونسخة ترامب من القومية الاقتصادية. وفي هذه العملية، يبدو أن البشرية على أعتاب لحظة تاريخية نادرة عندما تتزامن القيادة الوطنية مع الظروف العالمية ليخلقا استهلالة لتحولٍ رئيسيٍ في طبيعة النظام العالمي.
سياسة خارجية تخريبية ينتهجها ترامب
بالرغم من نقدهم المتواصل لقيادة دونالد ترامب، أدرك قليل من بين فيالق خبراء السياسة الخارجية في واشنطن، تأثيره الكامل على الأسس التاريخية للقوى الأمريكية العالمية. يستند النظام العالمي، الذي شيدته واشنطن في أعقاب الحرب الباردة، على ما أطلقت عليه "ازدواجية دقيقة": إمبراطورية أمريكية من العسكراتية الصريحة والقوة الاقتصادية في حالة تزاوجٍ مع مجتمع من الدول السيادية، متساوين بموجب حكم القانون وتنظمهم مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية.
على جانب السياسة الواقعية للازدواجية، أسست واشنطن جهازًا ذا أربع طبقات - عسكرية، ودبلوماسية، واقتصادية، وسرية - كي ترتقي إلى مرتبة الهيمنة العالمية بثروة ونفوذ غير مسبوقين. استند هذا الجهاز إلى مئات القواعد العسكرية في أوروبا وآسيا، مما جعل الولايات المتحدة أول قوة في التاريخ تهيمن (إن لم تكن تسيطر) على أوراسيا.
وحتى بعد نهاية الحرب الباردة، حذر مستشار الأمن القومي السابق زبغنيو بريجنسكي من أن واشنطن لن تستطيع أن تظل القوة العالمية البارزة، إلا مع استمرار الحفاظ على هيمنتها الجيوسياسية على أوراسيا. بيد أن العقد السابق لانتخاب ترامب شهد إشارات فعلية على أن هيمنة أمريكا كانت تتخذ مسارًا هابطًا في ظل انخفاض حصتها من القوة الاقتصادية العالمية من 50% في عام 1950 إلى 15% في عام 2017. ويتنبأ عديد من التوقعات المالية الآن بأن الصين سوف تتجاوز الولايات المتحدة في مكانة الاقتصاد الأول في العالم بحلول عام 2030، إذا لم يكن قبل ذلك التاريخ.
في هذا العهد من التراجع، برزت على نحو مفاجئ، من خلال سيل تغريدات الرئيس ترامب وتصريحاته العفوية، رؤيةٌ قاتمةٌ ومتسقةٌ لمكانة أمريكا في النظام العالمي الحالي. بدلًا من بسط السيطرة الواثقة على المنظمات الدولية، والتحالفات متعددة الأطراف، والاقتصاد المعولم، يرى ترامب بكل وضوح أمريكا تقف وحيدة ومحاصرة في عالم تتزايد إشكالياته، ويستغلها حلفاء مُعظِّمون لذواتهم، وتضرّها شروط تجارية مجحفة، ويهددها أمواج من المهاجرين، وتخونها نخبة تخدم مصالحها وتنتقص للغاية من أهمية الدفاع عن مصالح الأمة وتخجل من هذا المسعى.
اقرأ/ي أيضًا: ترامب في وجه العاصفة.. القصة كاملة
بدلًا من الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف مثل نافتا، أو اتفاقية دول الشراكة عبر المحيط الأطلنطي، أو حتى منظمة التجارة العالمية، يفضل ترامب الاتفاقيات الثنائية المعاد صياغتها لمصلحة (حسب المفترض) الولايات المتحدة. وبدلًا من الحلفاء الديمقراطيين الاعتياديين، مثل كندا وألمانيا، يحاول ترامب نسج شبكة من العلاقات الشخصية مع قادة مجاهرين بكونهم استبداديين وقوميين من نوعٍ يعجب به بكل وضوح: فلاديمير بوتين في روسيا، وفيكتور أوربان في المجر، وناريندرا مودي في الهند، وعبد الفتاح السيسي في مصر، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان في السعودية.
وبدلاً من التحالفات القديمة التي على شاكلة حلف الناتو، يفضل ترامب الائتلافات الفضفاضة التي تتكون من الدول ذات التفكير المماثل. إذ يرى أن نسخة متجددة من أمريكا سوف تحمل العالم على كاهلها، بينما تسحق الإرهابيين وتتعامل بطرق شخصية بصورة فريدة مع الدول المارقة التي على شاكلة إيران وكوريا الشمالية.
وقد جدت نسخته من السياسة الخارجية البيان الأكمل لتوصيفها عبر استراتيجية الأمن القومي لإدارته، والصادرة في كانون الأول/ديسمبر 2017. عندما تولى المنصب، كانت الأمة - حسب البيان - تواجه "عالمًا شديد الخطورة، ممتلئًا بمجموعة كبيرة من التهديدات". ولكن بعد أقل من عام في المنصب، أصرَّت الاستراتيجية على: "أننا جددنا صداقاتنا في الشرق الأوسط… كي نساعد في اقتلاع الإرهابيين والمتطرفين… ويسهم حلفاء أمريكا الآن أكثر في دفاعنا المشترك، ويعززون تحالفاتنا الأقوى بالفعل". سوف تستفيد البشرية من "الرؤية الجميلة" للرئيس التي "تضع أمريكا أولًا" وتعزز "توازن القوى التي تخدم الولايات المتحدة". سوف يصبح العالم كله، باختصار، "ناهضًا من خلال تجديد أمريكا".
على الرغم من هذه المزاعم الهائلة، باتت جميع جولات الرئيس ترمب الخارجية مهمة تدميرية من ناحية القوة الأمريكية العالمية. تسببت كل جولة من جولاته، عن قصد على ما يبدو، في عرقلة وربما الإضرار بالتحالفات التي شكلت أساس قوة واشنطن العالمية منذ خمسينات القرن العشرين. خلال الجولة الأولى للرئيس في أيار/مايو عام 2017، أعرب على الفور عن استيائه الشديد من الرفض المزعوم من الحلفاء الأوروبيين لدفع "حصتهم العادلة" من التكاليف العسكرية لحلف الناتو، تاركين الولايات المتحدة عالقة في دفع الفاتورة، ورفضوا، بطريقة غير معهودة للرؤساء الأمريكيين، المصادقة على المبدأ الرئيس للتحالف في الدفاع المشترك. كان هذا الوضع متطرفًا للغاية فيما يتعلق بالسياسات العالمية على مدار نصف القرن السابق، مما أجبره بعد ذلك على التراجع بشكل رسمي. (ومع ذلك، سجل احتقاره حينها لهؤلاء الحلفاء بطريقة لا تُنْسى).
وخلال زيارته الثانية، التي لم تقلل من الانقسامات داخل الناتو في تموز/يوليو، اتهم ألمانيا بأنها "أسيرة لروسيا" وضغط على الحلفاء ليضاعفوا على الفور حصتهم من الإنفاق الدفاعي لتصل إلى نسبة هائلة وهي 4%، من الناتج المحلي الإجمالي (وهو مستوى لم تصل إليه واشنطن، بالنظر إلى ميزانية البنتاغون الهائلة)، وهو الطلب الذي تجاهله الجميع. وبعد أيام قليلة، شكك مرة أخرى في فكرة الدفاع المشترك، مشيرًا إلى أنه إذا قررت مونتينيغرو (الجبل الأسود)، حليف الناتو "الصغير"، أن "تصبح عدائية"، إذًا "هنيئًا لكم، ستكونون بصدد حرب عالمية ثالثة".
أما في وجهته إلى إنجلترا، قام على الفور بعرقلة الحليف المقرب تيريزا ماي، وصرح لإحدى الصحف البريطانية أن رئيسة الوزراء أفسدت انسحاب دولتها من الاتحاد الأوروبي و"قضت على أي فرصة لإبرام صفقة تجارية حيوية مع الولايات المتحدة". وانتقل بعد ذلك إلى هلسنكي لعقد قمة مع فلاديمير بوتين حيث ذل نفسه أمام عدو رمزي للناتو، وكان ذلك كافيًا تمامًا لتصدر ضده احتجاجات وجيزة غاضبة من قادة حزبه.
خلال جولة ترمب الكبرى في آسيا في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2017، ألقى كلمة أمام مجلس التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC) في فيتنام، وقدم خطابًا عنيفًا مطولًا ضد الاتفاقات التجارية متعددة الأطراف، وخاصة منظمة التجارة العالمية WTO. ولمواجهة "التجاوزات التجارية" التي لا تُطاق، مثل "إغراق المنتج، والسلع المدعومة، والتلاعب بالعملة، والسياسات الصناعية الافتراسية"، وتعهد بأنه سيضع أمريكا دائمًا "في المقام الأول" ولن يسمح "باستغلالها مرة أخرى". واستنكر مجموعة من التجاوزات التجارية التي وصفها بأقل من "العدوان الاقتصادي" ضد أمريكا، ودعا الجميع هناك لمشاركته "حلم منطقة المحيط الهادئ والهندي" من العالم بصفته يضم "كوكبة جميلة" من "الأمم القوية المستقلة ذات السيادة"، حيث تعمل جميعها على غرار الولايات المتحدة لبناء "الثروة والحرية".
اقرأ/ي أيضًا: "الحل الصيني" يُزاحم أمريكا ببطء على قيادة العالم
ردًا على استعراض القومية الاقتصادية الضيقة من قبل القوة الرائدة في العالم، ظهرت أمام شي جين بينغ فرصة مثالية ليلعب دور رجل الدولة واستغلها، إِذْ دعا مجلس التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC) لدعم نظام اقتصادي "أكثر انفتاحية وشمولًا وتوازنًا. وتحدث عن الخطط الاقتصادية المستقبلية للصين باعتبارها محاولة تاريخية لـ"التنمية المترابطة لتحقيق الرخاء المشترك... في القارات الآسيوية والأوروبية والأفريقية".
وبقيام الصين برفع 60 مليون شخص من شعبها من دائرة الفقر في غضون سنوات قليلة والتزامها بالقضاء التام عليه بحلول 2020، فهي تشجع على نظام أكثر إنصافًا في العالم "ليجلب فوائد التنمية إلى بلدان من كافة أنحاء العالم". من ناحيتها، تعتبر الصين على استعداد لتقديم "2 تريليون دولار من الاستثمارات الخارجية"، سيذهب الكثير منها لتنمية أوراسيا وإفريقيا (بطرق من شأنها أن تربط بالتأكيد هذه المنطقة الشاسعة بالصين على نحو أوثق). بعبارة أخرى، بدا شي جين بينغ وكأنه نسخة صينية في القرن الحادي والعشرين لرئيس أمريكي من القرن العشرين، بينما تصرف دونالد ترمب بشكل أكثر تشابهًا مع الرئيس الأرجنتيني السابق خوان بيرون، لكن من دون أوسمة. وكما لو أنهم يضعون مسمارًا آخر في نعش السيادة الأمريكية على العالم، أعلن الشركاء الـ 11 في اتفاقية التجارة العابرة للمحيط الهادئ، بقيادة اليابان وكندا، عن تقدم كبير في وضع اللمسات الأخيرة على ذلك الاتفاق، بدون الولايات المتحدة.
بالإضافة إلى تقويض حلف الناتو، فإن تحالفات أمريكا في المحيط الهادئ، التي شكلت طويلًا نقطة ارتكاز تاريخية للدفاع عن أمريكا الشمالية وهيمنة آسيا، تتضاءل أيضًا. وحتى بعد 10 لقاءات شخصية ومكالمات هاتفية متكررة بين رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي ودونالد ترمب خلال أول 18 شهرًا من توليه المنصب، وضعت أول سياسة تجارية أمريكية للرئيس "عبئًا كبيرًا" على أهم تحالف لواشنطن في المنطقة. أولًا، تجاهل نداءات آبي وألغى اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، وبعدها، كما لو كانت رسالته غير قوية كفاية، فرض على الفور تعريفات جمركية ثقيلة على واردات الصلب الياباني. وبالمثل، شجب ترامب رئيس الوزراء الكندي لأنه "غير صريح" وقلّد لهجة رئيس الوزراء الهندي مودي، وبدا ودودًا مع الديكتاتور الكوري الشمالي كيم جونغ أون وزعم بعد ذلك، على نحو غير دقيق، أن بلاده لم "تعد تشكل تهديدًا نوويًا".
يضيف كل ذلك إلى النسق الذي يزيد من التدهور بوتيرة سريعة.
استراتيجية بكين الكبرى
في الوقت الذي يتراجع فيه نفوذ واشنطن في آسيا، تزداد قوة بكين عن أي وقت مضى. ففي ظل ارتفاع احتياطات العملة الصينية بشكل سريع من 200 مليار دولار في عام 2001 لتصل إلى ذروتها بمقدار يصل إلى 4 تريليون دولار في عام 2014، أطلق الرئيس شي مبادرة جديدة من الواردات التاريخية. ففي أيلول/سبتمبر عام 2013، أعلن خلال حديثه في كازاخستان، محور طريق القوافل التي تمر عبر طريق الحرير القديم في آسيا، عن مبادرة "حزام واحد، طريق واحد" التي تهدف إلى التكامل اقتصاديًا بين كتلة الأراضي الأوراسية حول قيادة بكين. واقترح أنه من خلال "التجارة دون عوائق (الحرة)" والاستثمار في البنية التحتية، يمكن ربط "الهادئ وبحر البلطيق" عبر مُقترح يتمثل في "حزام اقتصادي على طول طريق الحرير"، وهي منطقة يقطنها ما يقرب من 3 مليارات شخص". وتوقع أنه من الممكن أن يُصبح "أكبر سوق في العالم بقدرات وإمكانيات لا مثيل لها".
بدلًا من الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف مثل نافتا، أو اتفاقية دول الشراكة عبر المحيط الأطلنطي، أو حتى منظمة التجارة العالمية، يفضل ترامب الاتفاقيات الثنائية
وفي غضون عام، أنشأت بكين البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي يخضع لسيطرة الصين ويبلغ عدد أعضائه 56 دولة، بالإضافة إلى رأس مال كبير يصل إلى 100 مليار دولار، في الوقت الذي أطلقت فيه صندوقها الخاص بطريق الحرير برأس مال يصل إلى 40 مليار دولار من أجل مشاريع رأس المال الخاصة. وعندما دعت الصين إلى عقد ما أطلقت عليها "قمة الحزام والطريق"، بمشاركة 28 من قادة العالم في بكين في أيار/مايو عام 2017، أشاد شي، لسبب وجيه، بمبادرته واصفًا إياها بـ "مشروع القرن".
على الرغم من أن وسائل الإعلام الأمريكية وصفت في كثير من الأحيان المشروعات الفردية التي ينطوي عليها "طريق الحرير الجديد - الحِزام والطرِيق" بأنها مشروعات مترفة، واستغلالية، تتسم بتبديد الموارد، أو حتى على أنها تحمل أهدافًا استعمارية جديدة، فإن حجمها ونطاقها الهائل يستحقان النظر بشكل أعمق. فمن المتوقع أن تستثمر بكين بمبلغ مذهل يصل إلى 1.3 تريليون دولار في المبادرة بحلول عام 2027، وهو ما يُعد أكبر استثمار في تاريخ البشرية، وأكثر من 10 أضعاف مشروع مارشال الأمريكي الشهير، الذي يعتبر البرنامج الوحيد المشابه القابل للمقارنة، الذي كلف ما يقرب من 110 مليار دولار (مع أخذ معدل التضخم في الاعتبار) لإعادة بناء وإعمار أوروبا المنكوبة بعد الحرب العالمية الثانية.
اقرأ/ي أيضًا: أمريكا "الحمائية" ونسخة الصين من الأسواق المفتوحة.. العولمة إذ ترتبك
تُموّل القروض الخاصة بالبنية التحتية منخفضة التكلفة التي تقدمها بكين لـ 70 دولة على امتداد بحر البلطيق إلى المحيط الهادئ، بالفعل بناء أكبر ميناء على البحر المتوسط في مدينة بيرايوس، في اليونان، ومحطة كبيرة للطاقة النووية في إنجلترا، وخط سكة حديد عبر الطرق الوعرة في دولة لاوس بتكلفة 6 مليارات دولار، وممر نقل بتكلفة 46 مليار دولار عبر باكستان. إذا نجحت هذه الاستثمارات في البنية التحتية، فقد تساعد في ربط قارتين حيويتين، هما أوروبا وآسيا - موطن ما يزيد عن 70% من سكان العالم وموارده - في سوق موحدة بدون نظير على كوكب الأرض.
في ظل هذه الموجة من الأتربة المتطايرة نتيجة لكل أعمال الحفر هذه والخرسانة المتدفقة لإنشاء تلك المشروعات، يبدو أن القيادة الصينية لديها تصميم لتجاوز المسافات الشاسعة التي فصلت آسيا تاريخيًا عن أوروبا. بدايةً، تقوم بكين ببناء شبكة شاملة من خطوط أنابيب الغاز والنفط العابرة للقارات لاستيراد الوقود من سيبيريا وآسيا الوسطى لمراكزها السكانية الخاصة بها. وعندما يكتمل النظام، ستكون هناك شبكة متكاملة للطاقة الداخلية (بما في ذلك شبكة خطوط الأنابيب الروسية واسعة النطاق) التي تمتد على طول 6 آلاف ميل عبر أوراسيا "المنطقة الأوروبية الأسيوية"، من شمال المحيط الأطلسي إلى بحر الصين الجنوبي. ثم بعد ذلك، ستعمل بكين على ربط شبكة السكك الحديدية الواسعة في أوروبا بنظامها الخاص الموسع للسكك الحديدية عالي السرعة من خلال خطوط عابرة للقارات عبر آسيا الوسطى، مدعومة بخطوط ثانوية تتجه جنوبًا إلى سنغافورة وإلى الجنوب الغربي عبر باكستان.
وأخيرًا، لتسهيل عمليات النقل البحري حول الحافة الجنوبية للقارة مترامية الأطراف، صادقت الصين بالفعل أو هي بصدد بناء أكثر من 30 مرفأً رئيسيًا، تمتد من مضيق ملقا في جنوب شرق آسيا عبر المحيط الهندي، وحول أفريقيا، وعلى طول امتداد سواحل أوروبا. كما بدأت بكين في كانون الثاني/يناير بالتخطيط لإقامة "طريق الحرير القطبي"، للاستفادة من مياه القطب الشمالي التي مهد الاحتباس الحراري الطريق لها، وهو مخطط يتناسب بشكل جيد مع المشروعات الروسية والاسكندنافية الطموحة لإنشاء طريق شحن أقصر حول الساحل الشمالي للقارة إلى أوروبا.
على الرغم من أن أوراسيا هي محور تركيزها الأساسي، فإن الصين تسعى أيضًا إلى التوسع الاقتصادي في إفريقيا وأمريكا اللاتينية لخلق ما قد يطلق عليه استراتيجية القارات الأربع. ولكي تربط إفريقيا بشبكتها الأوروبية الآسيوية، فقد ضاعفت بكين تجارتها السنوية هناك بحلول عام 2015 إلى 222 مليار دولار، أي ثلاثة أضعاف ما تمثله التجارة الأمريكية هناك، وذلك بفضل ضخ مبالغ هائلة من رأس المال، والمتوقع أن تصل إلى تريليون دولار بحلول عام 2025. يُموّل جزء كبير من هذه الاستثمارات، عمليات استخراج السلع الأساسية التي جعلت القارة الأفريقية بالفعل ثاني أكبر مصدر للنفط الخام إلى الصين. وبالمثل، استثمرت بكين بكثافة في أمريكا اللاتينية، حيث تمكنت من السيطرة، على سبيل المثال، على 90% من احتياطي النفط في الإكوادور. ونتيجة لذلك، تضاعفت تجارتها مع تلك القارة خلال عقد من الزمن، لتبلغ 244 مليار دولار في عام 2017، وتتجاوز بذلك مقدار التجارة الأمريكية التي كانت تعتبر أمريكا اللاتينية في السابق بمثابة "الفناء الخلفي" الخاص بها.
اقرأ/ي أيضًا: كيف أصبح الرئيس الصيني صاحب أقوى سلطة في العالم؟
صراع ذو عواقب
لم تنحصر هذه المسابقة بين عولمة شي جين بينغ وقومية ترامب بأمان في سوق الأفكار الحميدة. فقد انخرطت القوتان على مدى السنوات الأربع الماضية في تنافس عسكري متصاعد ومنافسة تجارية حادة. فبالإضافة إلى الصراع الغامض من أجل الهيمنة على الفضاء والفضاء الإلكتروني، كان هناك أيضًا سباق تسلح بحري واضح، قد ينطوي على تقلبات محتملة بهدف التحكم في الممرات البحرية المحيطة بآسيا، وتحديدًا في المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي. وقد صرحت بكين في ورقة بيضاء نُشرت عام 2015، أنه "من الضروري أن تُطور الصين هيكلًا عسكريًا بحريًا حديثًا يتناسب مع أمنها القومي". وبدعم من منظومة الدفاع الصاروخي البرية الفتاكة والطائرات الحربية النفاثة ونظام الأقمار الصناعية العالمي، قامت الصين ببناء أسطول بحري حديث يتكون من 320 سفينة، بما في ذلك الغواصات النووية وحاملات طائراتها الأولى.
وأعلن رئيس العمليات البحرية الأمريكية الأدميرال جون ريتشاردسون أنه في غضون عامين، كان "أسطول الصين المتنامي والحديث"، "يقلص" الميزة الأمريكية التقليدية في المحيط الهادئ، وحذر من أنه "يجب علينا التخلص من أي بقايا من الراحة أو التراخي". وقد استجابات واشنطن لهذا التحدي في أحدث ميزانية دفاعية أقرتها والتي بلغت قيمتها 700 مليار دولار، من خلال بدء برنامج لبناء 46 سفينة جديدة، مما سيزيد عدد أسطولها إلى 326 سفينة بحلول عام 2023. بينما تبني الصين قواعد بحرية جديدة مليئة بالأسلحة في بحر العرب وبحر الصين الجنوبي. بدأت البحرية الأمريكية في إجراء دوريات "حرية الملاحة" الصارمة بالقرب من العديد من تلك المنشآت نفسها، مما يزيد من احتمالات نشوب الصراع.
على الرغم من أن أوراسيا هي محور تركيزها الأساسي، فإن الصين تسعى أيضًا إلى التوسع الاقتصادي في إفريقيا وأمريكا اللاتينية لخلق ما قد يطلق عليه استراتيجية القارات الأربع
بيد أنه في مجال التجارة والتعريفات الجمركية، وصلت المنافسة إلى صراع علني. فقد قام الرئيس ترامب - انطلاقًا من اعتقاده بأن "الحروب التجارية جيدة ويسهل الفوز بها" - بفرض تعريفات جمركية باهظة، استهدفت كل المنتجات القادمة من الصين، على واردات الصلب في شهر آذار/ مارس، وعقب ذلك بأسابيع قليلة فقط، فرض عقوبات على سرقة الملكية الفكرية في تلك البلاد من خلال فرض تعريفات جمركية وصلت إلى 50 مليار دولار على الواردات الصينية. عندما بلغت هذه التعريفات ذروتها أخيرًا في شهر تموز/ يوليو، ردت الصين فورًا على ما وصفته بـ "البلطجة التجارية النمطية" بفرض تعريفات جمركية مماثلة على السلع الأمريكية. وحذرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" من أن هذه "العمليات الانتقامية" المتبادلة يمكن أن تتصاعد إلى "حرب تجارية كاملة.. سيكون لها عواقب وخيمة للغاية على الاقتصاد العالمي". كما هدد ترامب بفرض ضرائب بقيمة 500 مليار دولار إضافية على الواردات والصادرات الصينية، وأصدر مطالب مربكة بل ومتناقضة، الأمر الذي قد يجعل من غير المرجح أن تمتثل بكين أبدًا لتلك المطالب، كما شعر المراقبون بالقلق من أن حربًا تجارية طويلة الأمد كهذه، يمكن أن تزعزع استقرار ما وصفته صحيفة نيويورك تايمز بـ "جبل الديون" الذي يقوم عليه جزء كبير من اقتصاد الصين. بينما في واشنطن، أصدر رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الذي يتسم عادة بأنه قليل الكلام، تحذيرًا غير معتاد بأن تلك "التوترات التجارية.. قد تشكل مخاطر جدية على الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي".
هل تعتبر الصين قوة مهيمنة عالمية؟
على الرغم من أن تضاؤل نفوذ واشنطن على الصعيد العالمي، الأمر الذي ساهمت إدارة ترامب في الحث عليه، وربما ساعدت على تسريعه، قد بدأ بالفعل، فإن شكل أي نظام عالمي مستقبلي ما زال غير واضح. في الوقت الحاضر، تعد الصين الدولة الوحيدة التي لديها المتطلبات الواضحة لتصبح القوة المهيمنة الجديدة على كوكب الأرض. إذ يقدم صعودها الاقتصادي الهائل، مقترنًا بتوسعها العسكري وبراعتها التكنولوجية المتنامية، لذلك البلد الأسس الواضحة لتصبح قوة عظمى.
ومع ذلك، لا يبدو أن الصين ولا أي دولة غيرها تمتلك المجموعة الكاملة من السمات الإمبريالية الضرورية لاستبدال الولايات المتحدة بصفتها زعيمًا عالميًا مهيمنًا. فبالإضافة إلى قوتها الاقتصادية والعسكرية الصاعدة، فإن الصين، مثل روسيا التي تتخذها حليفًا لها في بعض الأحيان، لديها ثقافة ذاتية مرجعية، وهياكل سياسية غير ديمقراطية، ونظام قضائي متنام يمكن أن يحرمها من بعض الأدوات الرئيسية اللازمة للقيادة العالمية.
اقرأ/ي أيضًا: نهاية نهاية الحرب الباردة
تُشير المؤرخة جويا تشاترجي من جامعة كامبردج إلى أنه بالإضافة إلى أساسيات القوة العسكرية والاقتصادية، فإن كل إمبراطورية ناجحة، ينبغي أن تضع خطابًا عالميًا وشاملًا، لكي تكتسب الدعم من الدول التابعة في العالم وقادتها. كما أن التحولات الإمبريالية الناجحة المدفوعة بالقوة الصارمة للأسلحة والمال تتطلب أيضًا القوة الناعمة اللطيفة التي تنطوي على الإقناع الثقافي من أجل السيادة العالمية المستدامة والناجحة. فقد اعتنقت إسبانيا وتبنت الديانة الكاثوليكية والثقافة الإسبانية، واعتنقت الإمبراطورية العثمانية الديانة الإسلامية، وتبنى السوفييت الفكر الشيوعي، وتبنت فرنسا ثقافات الدول المتحدثة باللغة الفرنسية، بينما تبنت بريطانيا ثقافة الدول الناطقة باللغة الإنجليزية والمتشابهة في التراث الثقافي، انطلاقًا من وجود شعوب تعود أصولها إلى دول الجزر البريطانية. في الواقع، تُعد بريطانيا خلال قرن من الزمان الذي فرضت فيه هيمنتها العالمية من عام 1850 حتى عام 1940، هي النموذج المتميز لهذه القوة الناعمة، فقد أظهرت روحًا ثقافية جذابة في المنافسة النزيهة والأسواق الحرة التي نشرتها من خلال الكنيسة الأنجليكانية، واللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي العريق، واختراع الألعاب الرياضية الحديثة (مثل الكريكيت وكرة القدم والتنس والرجبي والتجديف). وبالمثل، توددت الولايات المتحدة في فجر سيطرتها العالمية، إلى حلفائها في جميع أنحاء العالم من خلال برامج القوة الناعمة التي تروج للديمقراطية والتنمية. وجعلت هذه الأمور أكثر استساغةً من خلال جاذبية أشياء مثل أفلام هوليوود، والمنظمات المدنية مثل روتاري إنترناشيونال، والرياضات الشعبية مثل كرة السلة والبيسبول.
لا تتمتع الصين بأشياء يُمكن مقارنتها بما سبق. إذ يحتوي نظام الكتابة باللغة الصينية على حوالى 7 آلاف حرف، وليس 26 حرفًا. ويتمتع فكرها الشيوعي وثقافتها الشعبية بخصوصية ملحوظة ومعلنة. وليس عليك أن تبحث بعيدًا عن قوة آسيوية أخرى تحاول السيطرة على المحيط الهادي دون التمتع بالقوة الناعمة. فخلال احتلال اليابان لجنوب شرق آسيا في الحرب العالمية الثانية، تحولت قواتها - بعد أن قوبلوا بالترحيب باعتبارهم محررين - إلى مواجهة تمرد مفتوح في جميع أنحاء المنطقة بعد أن فشلوا في نشر ثقافتهم الخاصة المماثلة للثقافة الصينية.
وعلى الرغم من اعتبار أنهما دولتان تعتمدان على نظام اقتصادي مركزي خلال معظم القرن الماضي، لم تطور الصين ولا روسيا نظامًا قضائيًا مستقلًا أو نظامًا مستقلًا قائمًا على القواعد التي تدعم النظام الدولي الحديث. منذ تأسيس محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي عام 1899، من خلال تشكيل محكمة العدل الدولية بموجب ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945، تطلعت دول العالم إلى حل النزاعات عن طريق التحكيم أو التقاضي بدلًا من النزاعات المسلحة. وبوجه عام، يتحد الاقتصاد المعولم الحديث معًا من خلال شبكة من الاتفاقيات والمعاهدات وبراءات الاختراع والعقود التي تستند على القانون.
أعطت جمهورية الصين الشعبية منذ تأسيسها في عام 1949، الأولوية للحزب والدولة، مما أبطأ نمو النظام القضائي المستقل وسيادة القانون
أعطت جمهورية الصين الشعبية منذ تأسيسها في عام 1949، الأولوية للحزب والدولة، مما أبطأ نمو النظام القضائي المستقل وسيادة القانون. وقد واجهت اختبارًا لموقفها تجاه نظام الحكم العالمي هذا في عام 2016، عندما حكمت محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي بالإجماع بأن مزاعم الصين بالسيادة في بحر الصين الجنوبي "تتناقض مع اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالقانون البحري، وليس لها تأثير قانوني، وقد رفضت وزارة الخارجية في بكين ببساطة القرار غير الموات الذي اتخذ ضدها، ووصفته بأنه "باطل" ولا يتضمن "قوة ملزمة". وأصر الرئيس شي على أن "السيادة الإقليمية والحقوق البحرية" للصين لم تتغير، في حين وصفت وكالة أنباء الصين الرسمية، شينخوا، الحكم بأنه "باطل ولا طائل منه بطبيعة الحال". وعلى الرغم من أن الصين قد تكون في وضع جيد لتحل محل القوة الاقتصادية والعسكرية لواشنطن، فإن قدرتها على تولي القيادة عبر هذا الجانب الآخر من الازدواجية الحساسة للقوة العالمية، التي تتمثل في شبكة من المنظمات الدولية التي ترتكز على سيادة القانون، ما زالت موضع تساؤلات.
إذا كانت رؤية دونالد ترامب حول الاضطراب العالمي هي علامة على المستقبل الأمريكي، وإذا ما نجحت استثمارات بكين المتوقعة في البنية التحتية التي تقدر بـ 2 تريليون دولار، والتي تعتبر الأكبر في التاريخ حتى الآن، في توحيد التجارة والنقل عبر آسيا وإفريقيا وأوروبا، فربما ستتجاوز تيارات القوة المالية والقيادة العالمية، كل الحواجز وتتدفق حتمًا نحو بكين، كما لو أن ذلك يخضع للقوانين الطبيعة. ولكن إذا فشلت هذه المبادرة الجريئة في النهاية، فعندئذ للمرة الأولى منذ خمسة قرون قد يواجه العالم انتقالًا إمبرياليًا بدون خلف واضح باعتباره قوة مهيمنة عالمية. وعلاوة على ذلك، فإنها قد تفعل المثل بالنسبة للكوكب حيث صار "الوضع الطبيعي الجديد" لتغير المناخ – الذي يتمثل في ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي والمحيطات، واشتداد حدة الفيضانات والجفاف والحرائق، وارتفاع منسوب مياه البحار التي ستدمر المدن الساحلية، والأضرار المتتالية التي سيواجهها ذلك العالم المكتظ بالسكان - قد يعني أن فكرة الهيمنة العالمية تتحول بسرعة إلى شيء من الماضي.
اقرأ/ي أيضًا: