نشرت صحيفة الغارديان البريطانية، مقالًا للصحفية ومقدمة البرامج الإيطالية ذات الأصول الفلسطينية، رولا جبريل، تستعرض فيه أوجه انتعاش الفاشية في إيطاليا، بعد أن كان يفترض أنها قد قضي عليها بعد الحرب العالمية الثانية. في السطور التالية ننقل لكم المقال مترجمًا بتصرف.
الهجمات المسلحة التي وقعت في مدينة ماتشيراتا الإيطالية، في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، ما هي إلا نتيجةً لخطاب الكراهية المعادي للمهاجرين الصادر عن زعماء الأحزاب اليمينية، بما في ذلك سيلفيو برلسكوني.
تمتلئ إيطاليا الآن بحالة من الغضب العارم الذي يهدد بتدمير كل ما كان يثير الإعجاب في البلاد، ناجم عن خطاب كراهية معادي للمهاجرين
تمتلئ إيطاليا الآن بالغضب العارم الذي يهدد بتدمير كل ما أثار إعجاب العالم، فقد وصلتُ إلى بولونيا عام 1993 كطالبة، آملةً في التخلص من الصراع الأزلي الذي وُلدت فيه كمواطنة فلسطينية داخل إسرائيل.
اقرأ/ي أيضًا: كل ما تحتاج معرفته عن انتخابات إيطاليا 2018 وتأثيرها على الاتحاد الأوروبي
كانت بولونيا "مدينتي المشرقة في أعلى التل"، فعلى أنقاض الماضي الفاشي الوحشي، استطاعت إيطاليا بناء نفسها كدولة ديمقراطية مزدهرة، وفرضت مكانتها داخل أوروبا التقدمية النابضة بالحياة، والتي ألهمتني بقبولها المنفتح لحل الصراع. لقد جعلتها وطنًا لي، وأصبحت مواطنةً إيطالية، وأم لطفل إيطالي، وواحدة من أوائل مقدمي البرامج التلفزيونية المولودين خارج إيطاليا في تاريخ البلاد.
أما اليوم، وعلى الرغم من أنني عشت في إيطاليا وخارجها منذ 24 عامًا، عندما أظهر على شاشة التلفزيون الإيطالي لمناقشة قضايا الهجرة وحقوق الأقليات، أتلقى تهديدات القتل والاغتصاب أكثر من تلك التهديدات التي تصلني عندما أظهر على شاشات "سي إن إن" منتقدةً عنصرية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وتزداد تلك التهديدات فتكًا عندما توجه لنا، نحن الذين لا يُعتبرون "أنقياء عرقيًا"، من حزب سياسي مُتوقع له الفوز بالسلطة في الانتخابات العامة المزمع انطلاقها الشهر المقبل.
اتهم ماتيو سالفيني، زعيم حزب رابطة الشمال اليميني المتطرف، الحزب الديمقراطي، بإغراق إيطاليا بالمهاجرين الذين أخذوا أماكن العمال الإيطاليين في العمل، الأمر الذي حول البلاد إلى مخيم عملاق للاجئين، كل ذلك بحسب تعبيره، مُضيفًا أن المهاجرين يجلبون معهم المخدرات والسرقات والعنف.
وقد جاء أثر خطاب الكراهية هذا واضحًا في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، بشن هجوم إرهابي من داخل سيارة متحركة في ماتشيراتا وسط إيطاليا، إذ انطلق رجل مسلح يبلغ من العمر 28 عامًا، يُدعى لوكا تريني، والذي كان مرشحًا لحزب رابطة الشمال في الانتخابات المحلية العام الماضي، مثيرًا للفزع لما يقرب من ساعتين من الزمن بإطلاقه النار من سيارته، وكان من الواضح استهدافه الأشخاص ملونين البشرة.
وقد أُصيب ستة أشخاص قبل إلقاء القبض على تريني، إذ قدم التحية الفاشية أثناء اقتياد الشرطة له بعيدًا. وفي غضون ذلك، عثرت الشرطة على كتاب "كفاحي" للزعيم النازي أدولف هتلر في منزله، بالإضافة إلى علم الصليب المعقوف، وبعض الرموز التي غالبًا ما تستخدمها الأحزاب اليمينية المتطرفة.
التحالف الانتخابي المدعوم من برلسكوني، رئيس وزراء إيطاليا السابق، معادٍ للمهاجرين بشكل خطير، ومدافع عما يسمونه "العرق النقي"!
إلا أن أكثر الأمور إثارة للرعب فيما حدث في ماتشيراتا، هي مدى انتشار وعموم آراء وأفكار تريني. فقد شكل حزب رابطة الشمال ائتلافًا انتخابيًا مع حزب يميني متطرف آخر معادي للمهاجرين، وهو حزب أخوة إيطاليا، فضلًا عن التحالف مع رئيس الوزراء السابق المدان في بعض القضايا المتعلقة بالفساد، سيلفيو برلسكوني. ومن المتوقع أن تفوز هذه الجبهة بانتخابات آذار/مارس. ولطالما أثار برلسكوني وحلفاؤه منذ سنوات مشاعر الكراهية للأجانب، وشوهوا صورتهم، خالقين وضعًا يبدو فيه العنف ضدهم أمرًا حتميًا.
اقرأ/ي أيضًا: هل تحكم الشعبوية المجتمع الغربي؟
ويستخدم برلسكوني -مليونير الإعلام الشهير الذي قال عن الإسلام إنه "دين ذميم"- شبكاته الإعلامية في تعزيز مشاعر الخوف والكراهية ضد الأجانب، إذ تعرض "القناة 4" التابعة له، برنامج أسبوعي باسم "الطابور الخامس"، والذي يقدم أخبار حول الجرائم التي يرتكبها المهاجرون.
وعندما تحدثتُ في برنامج "بيازا بوليتا" الذي يُعرض على شاشة "القناة 7" عن أهمية القانون الذي يطالب بمنح الجنسية تلقائيًا للأطفال المولودين في إيطاليا لأبوين مهاجرين -على غرار ما هو شائع في الديمقراطيات الغربية-، نشرت صحيفة برلسكوني الرئيسية "إل جورنال" صورة لي في صفحتها الأولى، متهمةً إياي بالانتماء لـ"طالبان". وهو أمر سخيف، ما لم يكن خطيرًا للغاية. فقد أرسلت إيطاليا قوات لها ضمن مهمة حلف الناتو للقتال في أفغانستان، أي أن اتهام شخص ما بأنه تابع لطالبان، يعني أنه عدو يجب التعامل معه بعنف.
إن الأجندة السياسية للتحالف الانتخابي المدعوم من برلسكوني، معادية للمهاجرين بشكل خطير، ومدافعة عمّا يسمونه "العرق النقي". فقد قال أحد مرشحي هذا التحالف والذي يُدعى أتيليو فونتانا، إن جميع المهاجرين يهددون استمرار "العرق الأبيض". بل إنه تفاخر على صفحات الصحيفة الرئيسية في إيطاليا "كورير ديلا سيرا"، بأن آراءه العنصرية المتعجرفة قد عززت من شعبيته!
تلك الكراهية الشنيعة التي دفعت هذا الرجل المسلح لارتكاب هجومه، ما هي إلا من تدبير سياسيين مجردين من المبادئ. وبدلًا من مواساة المهاجرين المحاصرين الذي تم استهدافهم بإطلاق النار في ماتشيراتا، وجه برلسكوني اللوم إلى الضحايا، فقال إن المهاجرين كانوا "قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار"، وتعهد بأنه إذا فاز في الانتخابات، فسوف يرحل 600 ألف مهاجر من أصل 630 ألف مهاجر في إيطاليا.
كما يبدو أن شريكه في الائتلاف الانتخابي، سالفيني، قد غفر ما فعله الرجل المسلح، إذ وجه لومه بدلًا من ذلك إلى السياسيين اليساريين "الذين أغرقوا إيطاليا بالمهاجرين". يبدو جليًا إذن أن دوافع تريني تتفق مع دوافع زعيم حزبه، والذي لم يطلق النار (مجازًا) على المهاجرين فحسب، بل على المكاتب المحلية للحزب الديمقراطي أيضًا.
إن الفاشية لاتزال على قيد الحياة بشكل مخيف في إيطاليا، بل إنها تنمو وتزداد قوة. ربما قد ضغط تريني، منفذ جريمة ماتشيراتا، على الزناد فحسب، إلا أن إطلاق النار هذا كان مُستلهم من سياسيي التيار اليميني الذي يقوده برلسكوني، والذي يحاول تغطية فشلهم في تقديم اقتصاد مزدهر للإيطاليين بإثارة الكراهية.
لم تنتهي الفاشية في إيطاليا، ولا تزال على قيد الحياة، بل تنمو وتزداد قوة على أيدي سياسيين يكرسون لخطاب الكراهية، ويعتزون به
إن هجوم ماتشيراتا ليس حدثًا عارضًا بالمرة، بل إنه نتاج خطاب سياسي عنصري ازداد انتشاره ووحشيته، والذي يحول الثقافة المتفتحة الدافئة النابضة بالحياة إلى سموم من الكراهية والخوف.
اقرأ/ي أيضًا: