انشغل الشارع الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة بالاحتجاجات التي ينظمها اليهود من أصل إثيوبي في شتى أنحاء البلاد احتجاجًا على العنصرية التي يواجهونها، متمثلة بالعنف الذي تنتهجه الشرطة، وذلك بعد مقتل الشاب اليهودي الإثيوبي سلمون تيكا (19 عامًا) على يد شرطي في بلدة كريات حاييم في شمال مدينة حيفا.
تشكل حالة الفلاشا في إسرائيل أحد الأبواب الهامة لفهم العقل الاستعماري الأبيض والاستعلائية العنصرية التي تعد من أسس الحمض النووي لمشروع دولة إسرائيل
وبحسب الرواية الرسمية للشرطة فإن الضابط لاحظ شجارًا بين الشبان في مكان قريب وحاول الفصل بينهم، إلا أن الشباب بدأوا بقذفه الحجارة، ما جعله يستشعر أن حياته في خطر فقام بإطلاق النار تجاههم، إلا أن الرواية التي يعرضها المحتجون، هي على عكس ما ذكرته الشرطة الإسرائيلية وتناقلته وسائل الإعلام، فالحاضرون في المكان نفوا أن يكون الشرطي قد تعرض لهجوم، فضلًا عن أن تكون حياته قد تعرضت للخطر.
اقرأ/ي أيضًا: تطبيع رعاة الإرهاب.. إسرائيل والسعودية على مائدة استخبارية واحدة
وبعيدًا عن تضارب الروايات، وبسبب إطلاق سراح الضابط، والإبقاء عليه تحت الإقامة الجبرية في منزله بعد أن خضع لاستجواب المحققين في الحادثة، اندلعت مظاهرات عنيفة في عشرات الأماكن في إسرائيل، استمرت عدة أيام، وأدت إلى إصابة أكثر من 110 من عناصر الشرطة بجروح في المواجهات التي تخللتها وتضمنت رشقهم بالحجارة والزجاجات، وتم اعتقال 136 متظاهرًا بشبهة الضلوع في أعمال شغب، حسب بيان صادر عن الناطق باسم الشرطة الإسرائيلية.
بداية حكاية هجرة اليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل
في عام 1973، قررت الحكومة الإسرائيلية أن تضع حجرًا آخر في مواجهة النمو السكاني العربي أو ما يُصطلح عليه إسرائيليًا "بالخطر الديموغرافي"، فقامت باستجلاب العديد من يهود الفلاشا الإثيوبيين، كفاتحة لسلسلة من الهجرات اللاحقة لإسرائيل، والتي استمرت بهجرات تكبر وتصغر حتى يومنا هذا. وذلك بعدما أفتى حاخام الطائفة السفاردية "الشرقية" عوفاديا يوسف باعتبار طائفة "بيتا يسرائيل" الإثيوبية، طائفة يهودية؛ خلافًا للحاخام الأشكنازي (الغربي) شلومو غورين.
كان يهود الفلاشا مستثنين من "قانون العودة الإسرائيلي" الذي صدر في تموز 1950، والذي مُنح بموجبه "الحق" لكل يهودي في أنحاء العالم بدخول الأراضي التي تم استعمارها للتو، دون شرط أو قيد، وذلك لعدم اعتراف السلطات الدينية حتى ذلك الوقت (1973) بيهودية طائفة الفلاشا.
بعد ذلك بعامين، أعلن الحاخام الأكبر لليهود الأشكناز (الغربيين) عن تبنيه الرأي الذي يعتبر الفلاشا يهودًا، وذلك ما دعى الكنيست إلى المصادقة على منح الفلاشا الحق في الهجرة إلى إسرائيل عام 1975، إلا أن القرار لم يدخل حيز التنفيذ إلا في عام 1977 حين أعلن بيغن عزمه على بذل الجهود لتهجير اليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل.
أسباب استجلاب يهود الفلاشا إلى إسرائيل
بجانب طيف واسع من المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تربط بين إسرائيل والقارة الأفريقية، فإن هناك سببين رئيسيين جعلا من السلطات الإسرائيلية مضطرة لإعادة النظر في حالة يهود الفلاشا، والاعتراف بهم كيهود ومنحهم "الحق" بالحصول على الجنسبة الإسرائيلية. أما الأول فهو الأوضاع الديمغرافية الإسرائيلية، وذلك بسبب انخفاض أعداد المهاجرين اليهود في سنوات السبعينات والثمانينات، ليصل إلى أدنى مستويات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل منذ عام 1948..
أهم مراحل وعمليات تهجير اليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل
- من عام 1977 حتى عام 1983: كانت الهجرة في هذه الفترة تتم بطرق غير مباشرة ومعقدة، فكانت السلطات الإسرائيلية وبالتعاون مع العديد من أجهزة الأمن العالمية كسلاح الجو الأمريكي وغيره، تقوم بتهريب يهود الفلاشا عبر طرق التفافية، كاستخدام مطار كرسافو بالقرب من البحر الأحمر من قبل طائرات مجهولة لنقلهم، أو عن طريق البواخر عبر ميناء سواكن ومناطق أخرى تقع على البحر الأحمر. بجانب هاتين الطريقتين، اعتمد جهاز الموساد الإسرائيلي على طرق أخرى، كتهجير يهود الفلاشا بطرق رسمية عبر إعطائهم إذن مغادرة من مطار الخرطوم مدعين أنه سيجري نقلهم لدول أوروبية أو إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لا يُعرف بالضبط كم عدد يهود الفلاشا الذين تم تهجيرهم خلال هذه الفترة إلى إسرائيل، ولكن التقديرات تشير إلى أن الرقم وصل إلى أكثر من 6000 يهودي إثيوبي.
- عملية موسى عام 1984: استمرت عملية موسى والتي بدأت في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1984 ما يقارب سبعة أسابيع، وتضمنت نقل أكثر من 8000 يهودي إثيوبي عبر شركة طيران أوروبية، نقلتهم إلى إسرائيل عبر المرور بالعاصمة البلجيكية بروكسل. كان اليهود الإثيوبيين، وبسبب الأوضاع التي أعقبت سفر أعداد كبيرة منهم حتى عام 1983، مشتتين اجتماعيًا، ويعانون اقتصاديًا وسياسيًا، ما دعاهم للسير على الأقدام حتى الوصول إلى مخيمات اللجوء في جنوب السودان، خلال رحلة محفوفة بالمخاطر والجوع والعطش، راح ضحيتها ما يقارب 4000 إثيوبي. انتهت عملية موسى يوم الجمعة، الخامس من كانون الثاني/يناير 1985، بعد أن عقد رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز مؤتمرًا صحفيًا صرح فيه عن العملية، ووجود الجسر الجوي الذي كان يطلب من الناس عدم الحديث عنه، ما دفع السودان إلى إيقاف الجسر مباشرة بعد كلمة بيريز. بالموازاة مع آثار العملية السلبية، على مستوى الضحايا أو الإعلام، فإنها تعد أفضل عمليات التهجير على المستوى الاقتصادي، إذ إنها أقل عمليات تهجير يهود الفلاشا تكلفة.
- عملية سولومون 1991: أدت هذه العملية إلى استجلاب 14400 يهودي من الفلاشا إلى إسرائيل، وذلك في غضون 34 ساعة فقط، عبر نقلهم في 30 طائرة من طائرات القوات الجوية الإسرائيلية وشركة إل عال، من أديس أبابا وحتى تل أبيب مباشرة. أتت العملية على خلفية اتفاق جرى بين حكومة أديس أبابا التي كانت على وشك السقوط بسبب زيادة حدة الاحتجاجات من المتمردين الذين كانوا يقتربون يومًا بعد الآخر من العاصمة الإثيوبية، وبين السلطات الإسرائيلية.
اقرأ/ي أيضًا: إسرائيل كدولة لناس كثيرين ليسوا مواطنيها
نص الاتفاق على السماح ليهود الفلاشا بالهجرة إلى إسرائيل مقابل حصول عدد من المسؤولين على حوالي 35 مليون دولار أمريكي ومأوى في الولايات المتحدة. ومنذ عام 1990 وحتى عام 1999، دخل بحسب الموسوعة الصهيوية أكثر من 39000 يهودي إثيوبي إسرائيل.
الأوضاع الاقتصادية والحياتية ليهود الفلاشا في إسرائيل
بحسب دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، فإنه ومع نهاية العام 2017 بلغ عدد اليهود من أصل إثيوبي في إسرائيل 148 ألفًا، بينهم 87 ألفًا ولدوا في إثيوبيا و61 ألفًا في إسرائيل، معظمهم من الشباب، إذ إن متوسط أعمار اليهود من الأصل الإثيوبي يدور حول 20 عامًا بحسب دائرة الإحصاء، في حين أن المهاجرين من الأصول الأخرى يصل متوسط أعمارهم إلى 31 عامًا.
المشكلة الأولى التي واجهت يهود الفلاشا في إسرائيل هي صعوبة الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، وذلك بسبب النظرة الفوقية، والتي تصل في بعض الحالات إلى أن تكون عدائية، من المجتمعات الغربية (الأشكناز على وجه الخصوص) تجاههم.
أما فيما يتعلق بوضعهم الاقتصادي، فقد أصدر مركز "أدفا" (معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل) تقريرًا بين فيه أن أن اليهود الإثيوبيين هم الأكثر فقرًا في المجتمع اليهودي في عام 2016 بنسبة تصل إلى 22.8% تحت خط الفقر، في حين أن نسبة عالية أيضًا من يهود الفلاشا تقع قريبة من خط الفقر، أي تتقاضى أجرًا شهريًا يصل إلى 100% وحتى 125% من المبلغ المحدد لخط الفقر.
وفي تقرير آخر للمركز نفسه، أوضح أن "العمال الإثيوبيين لا يزالون يواجهون صعوبة في إيجاد أماكن عمل مضمونة وثابتة، ويعملون في أعمال مؤقتة، وحتى من حصل منهم على شهادات جامعية أهلته للعمل في مؤسسات الدولة، فإن عمله في الغالب هو مع قطاع الإثيوبيين فقط. كذلك يشير التقرير الى ارتفاع نسبة البطالة بين المهاجرين من إثيوبيا".
وأوضح التقرير أن نسبة العاملين أو الذين يبحثون عن عمل من الإثيوبيين في إسرائيل من عمر 25 عامًا وحتى 54 عامًا، هي أكثر بقليل من 50%. كما تستفحل حالة البطالة بين النساء الإثيوبيات العاملات اللاتي يبحثن عن عمل من عمر 25 عامًا إلى 34 عامًا فتصل إلى 46%، ومن جيل 35 عامًا إلى 44 عامًا تهبط نسبة العاملات الإثيوبيات إلى 35%.
وبحسب تقرير آخر لمعهد "بروكديل" فإن نسبة عالية جدًا من العمال الإثيوبيين وخاصة الإثيوبيات (يقول التقرير إنها تبلغ 90% بين الإثيوبيات) تعمل في مجال النظافة والخدمة، في المؤسسات والشركات. وغالبية هؤلاء خاضعون لشركات القوى العاملة التي جاءت لتحل مكان العمل المنظم، وفي هذه الشركات لا يمكن للعامل أن يعمل لمدة عام كامل، وهو في غالب الأحيان من دون حقوق عمالية، أما الباقين من العمال الإثيوبيين فإنهم يعملون في الصناعة والوظائف العامة بوظائف مؤقتة وليست ثابتة، ويتم تصنيفهم على أنهم غير مهنيين.
وتتضاعف معاناة الإثيوبيين الاجتماعية والاقتصادية نتيجة العنصرية، فكما أشار تقرير مراقب الدولة رقم 38 فإن أغلبية أبناء الفلاشا يعانون بسبب الصعوبات التي يواجهونها منذ لحظة دخولهم إلى إسرائيل، التي تتمثل في انعدام قدرتهم على شراء الشقق. ويستمر الانعزال الاجتماعي الذي يواجهونه، حتى بعد وقت طويل من وجودهم في المجتمع الإسرائيلي.
احتجاجات متواصلة
لا تقتصر الأوضاع الصعبة والعنصرية تجاه اليهود الإثيوبيين على المجال الاقتصادي والعمل، بل تنسحب أيضًا على أوضاعهم في السكن والصحة والتعليم ومختلف مجالات الحياة، وهو ما يجعلنا نلتفت إلى انتفاضاتهم الاحتجاجية في وجه هذه الممارسات العنصرية منذ مطلع الألفية وحتى اليوم، والتي راح ضحيتها بحسب صحيفة "معاريف" العبرية، 11 شابًا في اشتباكات مع ضباط الشرطة، منذ العام 1997.
لا يمكن أن يشكل عدم اكتراث الفلسطينيين بتحركات الفلاشا وتظلمهم مأزقًا أخلاقيًا، فهم أكثر ما يعرفون الفلاشا بحلة جندي الجيش أو حرس الحدود الإسرائيلي الذي يعتمد التنكيل بهم عتبة لمواطنته المتساوية!
ففي عام 2012 تظاهر3000 شخص معظمهم من اليهود الإثيوبيين احتجاجًا على منعهم من السكن خارج الأحياء الخاصة بهم، حاملين عدة شعارات مثل "هنا يسكن عنصريون"، و"دمنا جيد للحروب فقط"، و"لدي جلد أسود وقلب أبيض، ولديكم جلد أبيض وقلب أسود"، وفي وقت سابق من العام ذاته تظاهر آلاف الإثيوبيين في القدس، احتجاجًا على تفاقم مظاهر العنصرية ضدهم، إلا أن هذه الاحتجاجات كانت غالبًا ما تنتهي بعقد اجتماع شعبي حاشد تُلقى فيه كلمات الاحتجاج أو الوعود بتحسين الحالة الاقتصادية والاجتماعية لهم.
وكذلك في عام 2015 خرجت العديد من المظاهرات التي تحتج على العنصرية التي يلقاها يهود الفلاشا في إسرائيل، وتكررت كذلك في مطلع العام الجاري، حين قُتل شاب يهودي من أصل إثيوبي برصاص شرطي إسرائيلي في مدينة بات يام (وسط إسرائيل)، فخرجت تظاهرة للاحتجاج على العنف الذي تمارسه الشرطة الإسرائيلية ضد المواطنين اليهود من أصل إثيوبي بسبب لون بشرتهم، شارك فيها آلاف اليهود من ذوي الأصل الإثيوبي، ووقعت خلالها صدامات عنيفة أدت إلى إصابة 6 من أفراد الشرطة بجروح طفيفة، كما أصيب عدد من المتظاهرين بجروح، بينما اعتقلت الشرطة 11 شابًا بشبهة الإخلال بالنظام العام.
ومع كل ما ورد بشأن نظرة المجتمع والدولة في إسرائيل وتعاطيهما مع "مواطنيهما" من الفلاشا. إلا أن مسألة الإندماج ووهم المساواة يخيمان على المخيال الجمعي للمستوطنين الفلاشا في إسرائيل، إذ يتدفق شباب هذه الإثنية إلى وحدات الجيش وحرس الحدود الإسرائيلي كما سلك الشرطة، ليواجهون عنصرية مضاعفة تحشرهم في الأعمال الدونية والقذرة ذات الرتب صعبة الترفيع. لكن في ذات الوقت يمارسون عدائية وعنصرية موصوفة بحق الفلسطينيين في نوع من محاولة تقمص الغالب/المهيمن، أي المستوطن الإسرائيلي الكلاسيكي قبل انفجار قنبلة الهجرة الاستيطانية الأفريقية والروسية!. ما قد يشكل أحد مداخل فهم سؤال لماذا لم يكترث الفلسطينين على طرفي الخطالأخضر كثيرًا بتحركات الفلاشا.
اقرأ/ي أيضًا: