في كتابه "ضحى الإسلام"، يكتب أحمد أمين أن "الأمم تختلف في ميزاتها اختلافًا كالذي بين أفرادها، فهي تختلف في عاداتها وتجاربها وفي مناهج تفكيرها، وفوق كل ذلك نرى أن لكل أمة أدبًا يختلف عن أدب الأمم الأخرى وأدب كل أمة منتزع من طبيعة إقليمها وتاريخها وخيالاتها".
قد تندثر الوثائق المكتوبة وتزول الآثار المعمارية الحاملة لتفاصيل تاريخ القوم وتبقى العادات والتقاليد
وما ذكره أمين يؤكده الإبداع الشعبي الذي هو الدليل القاطع على الخصوصية الثقافية لكل شعب. وفي وطن متعدد الديانات، مثل مصر، يتعاظم دور الفولكلور ليأتي مؤكدًا على الترابط بين مكونات النسيج البشري الذي يمثله أفراد الشعب. وكما يقول الروائي الراحل خيري شلبي فقد تندثر الوثائق المكتوبة وتزول الآثار المعمارية الحاملة لتفاصيل تاريخ القوم وتبقى العادات والتقاليد والطقوس كامنة في ألعاب شعبية وفى أغنيات أو بكائيات أو أمثال أو مأثورات أو طقـوس تبدو مبهمـة فى بعض الأحيان إلى أن يتطور البحث العلمى وتتسع فنونه وتنضج أدواته، تـفتح العلوم على بعضها فـتلقِّح بعضهـا البعض بالمعلومات والأفكار والاستدلالات مما يسهم فى تفسير الكثير من الظواهر الكونية والسلوكيات البشرية وما وراءها من دوافع موغلة فى القدم.. إلخ إلخ.
اقرأ/ي أيضًا: ألكسندر ديوجين.. فيلسوف في حراسة الـ"آر.بي.جي"
في كتابه "في الفولكلور القبطي"، يتناول الباحث روبير الفارس التراث الشعبي الفولكلوري للأقباط المصريين بما هو جزء أساسي من التراث الفولكلوري المصري، ذلك أن الفولكلور القبطي هو البذرة الأساسية في الفولكلور المصري الناطق بالعامية المصرية على وجه خاص، فضلًا عن دخول الثقافة الشعبية القبطية في أنسجة الفنون الشعبية، من ألعاب للأطفال إلى الرسوم الاحتفالية بالمناسبات الدينية على أبواب البيوت، إلى الوشم إلى الموسيقى والغناء، إلى المدائح الدينية والسير. مثلًا، يمكن ملاحظة التشابه الواضح بين صورة القديس مارجرجس وهو يقتل التنين وصورة الإله حورس في الأسطورة المصرية وهو يطعن الإله سِت بالحربة انتقامًا لمقتل والده أوزوريس.
عن كتابه يقول المؤلف: "قمت في هذه الدراسة، إضافة إلى جمع جزء من التراث الشفهي القبطي المتداول على ألسنة العجائز في مصر من مواويل وأغان وأشعار وحكايات خاصة بحياة القديسين والأمثال، بتوضيح مدى التأثير والتأثر بين الثقافة القبطية والثقافات الفرعونية واليهودية والعربية".
باسم الله
هذه القواسم المشتركة بين التراثين القبطي والمصري يمكن ملاحظتها من خلال الأمثلة التي يوردها الكتاب لإبداع المصريين المسيحيين في مدح القديسين، فهي لا تختلف كثيرًا عن إبداع المصريين المسلمين في مدح الأولياء، حتى أن بداية القصيدة غالبًا ما تتشابه، فإذا كان المنشد المسلم يقول "أبدأ كلامي باسم الله" كذلك يفعل المنشد المسيحي فيقول "ابدأ باسم الله القدوس" (ص 72)، وإذا كان التراث الشعبي جعل المصريين يحفظون أغنية "يا بهية وخبَّريني مين قتل ياسين"، فإن المبدع الشعبي المصري المسيحي كتب أغنية للعذراء مريم قال فيها "يا مريم خبّريني مين قتل يسوع/ قتلوه اليهود فوق الصليب مرفوع" (ص 104).
ولع المصريين المسلمين بالسيدة مريم أم المسيح لا يقل عن ولع المصريين المسيحيين
من نافل القول إن ولع المصريين المسلمين بالسيدة مريم أم المسيح لا يقل عن ولع المصريين المسيحيين لدرجة أن المصريين المسلمين (في محافظة أسيوط خصوصًا) يصومون 15 يومًا من شهر آب/أغسطس من كل عام، هبةً للسيدة العذراء، كما أن المصريين المسلمين يشتركون في موالدها العديدة في مسطرد وجبل الطير بسمالوط ودير المحرق بالقوصية وجبل درنكة في أسيوط. يقول المنشد المصري المسيحي وهو يمدح مريم "أرسل ليكي غبريال بمحكم الأقوال/ وبشَّرك إذْ قال اللي ليكي اختار/ روح قدسه ملاكي/ وسكن في حشاكي/ يا عذراء طوباكي"، وفي قصيدة أخرى يكتب الشاعر عن مريم بأسلوب الأغنية العاطفية فيقول: "رشّوا الورد يا صبايا/ رشوا الورد مع الياسمين/ رشوا الورد وصلُّوا معايا/ العدرا زمانها جاية" (ص 95، 106). وفي قصيدة مهمة يتخيَّل الشاعر أن السيد المسيح يخاطبه قائلًا: "أنا جيت علشانك إنت/ وأنا شغلي الشاغل إنت/ مشتاق لرجوعك وإنت/ بعنادك زي ما أنت" (ص 62).
اقرأ/ي أيضًا: "عبسلام".. زمن الثقافة المصرية
شفاعة القديسين
وكما أن المصريين المسلمين يتشفّعون بالأولياء مثل السيدة نفيسة والسيدة زينب والحسين والإمام الشافعي، كذلك يتشفع المصريون المسيحيون بالقديسين، ومثال ذلك القصيدة التي تمدح القديس أبسخريون، وجاء فيها "وإنت تتشفع فينا يوم نصب الميزان"، وفي مدح مريم يقول الشاعر "اشفعي في الحاضرين يا بتول وسامحينا". وكما ابتدع المصريون المسلمون النذور للأولياء، كذلك يفعل المصريون المسيحيون، لكن الدليل الدامغ على تشارك الولع لدى المصريين المسلمين والمسيحيين فهي الموالد الشعبية بالتأكيد، فإذا كان للمسلمين موالدهم من المرسي أبي العباس بالإسكندرية إلى أبي الحجاج بالأقصر، فإن المسيحيين لهم موالدهم وعلى مدار السنة أيضًا، وهي موالد خاصة بالقديسين والقديسات في كل قرى مصر.
والموالد عند المسلمين تكون للتبرُّك بالولي وللترفيه عن النفس، وهي كذلك عند المسيحيين فالذهاب إلى الموالد عند الأقباط، كما يقول روبير الفارس، ليس فقط لنوال بركة القديس أو الشهيد بل هو أيضًا نوع من الترفيه والتجديد بالخروج من المنزل" (ص 87). وكما أن المصري المسلم ذكر في المواويل مجهولة المؤلف غدر العُربان، كذلك كتب الشاعر المسيحي عندما طلب من القديس "بحضورك في بلدي تحميها من العُربان" (ص 75).
الأمثال الشعبية
ولأن المبدع مصري رغم اختلاف الديانة، نجد أن اللغة المشتركة توحِّد المصريين فيمكن ملاحظة انتشار ألفاظ كثيرة من المحكية المصرية في الأشعار الواردة بالكتاب، كما أن الأمثال الشعبية دليل آخر على وحدة الوجدان المصري، خاصة الأمثال التي تتناول الشهور المصرية: "طوبة يخلِّي الصبية كركوبة"، "أمشير أبو الزعابير"، "في بابة خشّ واقفل البوابة"، "كياك.. صبحك مساك.. جهِّز عشاك ويا غداك"، "برمهات روح الغيط وهات"، "بؤونة لا ينضرب طوب ولا ينعمل مونة"، "مسرى تجري كل ترعة عَسرة"، "هاتور أبو الدهب المنتور"، "بشنس يكنس الغيط كنس"، وهي الأمثال التي يستخدمها الفلاحون المصريون إلى الآن، حيث يعتمد الموسم الزراعي في مصر على شهور السنة القبطية/المصرية.
الأمثال الشعبية دليل آخر على وحدة الوجدان المصري بين مسلمين وأقباط
وعن الأمثال الشعبية التي تنتقد مَن يتظاهرون بالتدين، ذكر الباحث المثلين التاليين "جوة الكنيسة قديس وبرا الكنيسة إبليس" و"عاملة في الكنيسة مصلية وهي شيخة الحرامية" (ص 161)، وهي أمثال تذكرنا بالأمثال الشعبية التي أبدعها المصريون المسلمون ضد المتاجرين بالدين مثل "عاملة في الجامع مصلية وهي شيخة الحرامية"، و"إمام في الجامع وبرة إبليس"، و"ضلالي وعامل إمام"، و"يصلي الفرض وينقب الأرض"، و"يفتي على الإبرة ويبلغ المِدرة"، "بُق يسبّح وإيد تسرق". (لمزيد من التفاصيل والأمثلة يمكن الرجوع إلى موسوعة الأمثال العامية لأحمد باشا تيمور وقاموس العادات والتقاليد لأحمد أمين).
اقرأ/ي أيضًا: "حوارات لقرن جديد".. الروايات وأسرارها
اضطهاد وتجاهل
لا يتقيَّد الإبداع الشعبي غالبًا بالمؤسسة الدينية، بل إن علماء الاجتماع استقرت لديهم حقيقة التفرقة بين الدين الرسمي والدين الشعبي، وفي هذا السياق كتبت الدكتورة سهير القماوي في دراستها المهمة عن "ألف ليلة وليلة": "أن الشعب يُخرج لنفسه دينًا متميزًا يتفق في رسمياته مع دين الدولة أو الأمة ويختلف في حقيقته في كثير عن الدين الرسمي". ونظرًا لوعي المؤسسات الدينية بهذا الفرق بين الدين الشعبي والدين الرسمي فقد اتفقت المؤسسات الدينية والإسلامية والمسيحية على معاداة الموروث الإبداعي الشعبي، ولا ينسى روبير الفارس الإشارة إلى تجاهل الباحثين للفولكلور القبطي واضطهاد ورفض من الثقافة الرسمية للكنيسة التي تتعامل مع هذا اللون من الثقافة بنظرة استعلاء وذلك لأن الكثير من هذه النصوص يخالف العقائد المسيحية أو يشوِّش عليها، من وجهة نظرها. (ص 20).
اقرأ/ي أيضًا: