نقرأ لنستمتع. نحاول أن نستعين بتجارب الآخرين، وهي تجارب محدودة بطبيعة الحال. هؤلاء الكتّاب يعرّفون الحب الذي اختبروه. يشرحون الأحوال التي مروا بها، بعضهم ينجح في إيصال ما يريد قوله، وبعضهم يخفق. لكنهم جميعًا يستخدمون اللغة لتعينهم على احتمال العيش. مع ذلك نادرًا ما نتبع نصائح الكتب. نحن نعيش أيضًا أحداثًا غير مسبوقة، ونخوض في تجارب لم يحدث أن اختبرها أحد من قبل. الأحداث، كل الأحداث تملك من الجدة ما يؤهلها لتكون غير مسبوقة، والتجارب، كل التجارب، تملك من التنوع ما يجعلها غير معقولة مسبقًا. في النهاية نرتضي بالنتائج. كل حب يعقبه عناق وسرير. إذا العناق نفسه هو دليلنا على الحب، وربما يكون الحب نفسه. سرعان ما ننتقل من هذه المنطقة الغامضة والملغزة التي نسميها الحياة، إلى المنطقة الواضحة. الإعجاب الناتج عن حاجة ورغبة واشتهاء يصبح حبًا، وكل الأوقات التي نمضيها مع الشريك مفتقدين للحاجة ومعرضين عن الرغبة، وممتلئين بأنفسنا فلا نشتهي شيئًا أو أحدًا، هي أوقات محذوفة من وقتنا المكتوب.
هؤلاء الكتّاب يعرّفون الحب الذي اختبروه. يشرحون الأحوال التي مروا بها، بعضهم ينجح في إيصال ما يريد قوله، وبعضهم يخفق. لكنهم جميعًا يستخدمون اللغة لتعينهم على احتمال العيش
مع ذلك حين نريد تعريف الحب، نستذكر الشعراء. وحين نريد تعريف الإدراك نستذكر الفلاسفة. هذا ومع علمنا الكامل، أن الطبقة العاملة لم تعد ضرورية في أي مكان، ما زلنا نعتقد أن كارل ماركس يستطيع أن يجيبنا على معظم أسئلتنا. ومع أننا بتنا ندرك، والإدراك نادر، أننا لا نستطيع أن نعقل ما نراه ونختبره لحظة رؤيته واختباره، ما زال هايدغر حاضرًا في كل نص من النصوص التي تريد تعليمنا، وكل نقاش يفيض عن حدوده ليتحول أثيريا وغير ملموس.
هذه السيرة التي صنعها الكتاب لأنفسهم تكاد تصبح من لزوم ما لا يلزم. نشكو كثيرًا من إعراض الناس، والأجيال الجديدة عن القراءة. هذه الشكوى مستمرة منذ أزمان. لكن المجتمعات تتقدم تقنيًا وعلميًا واجتماعيًا على نحو لا نستطيع اللحاق به. إذا ما الذي خسرته الأجيال الجديدة حقًا حين انصرفت عن القراءة؟ هذا سؤال يؤرق قارئ مثلي. ويدفعه لمحاولة التأقلم مع سلوك أدمن عليه، وإعطاء هذا السلوك أسبابًا جديرة بأن استمر بمقارفته.
أي قارئ لهذه المقالة، يمكنه الآن أن يطلق حكمًا مبرمًا على ما يقرأه: ما دامت القراءة دخول في العتم، فما الذي يجبرني على قراءة هذه المقالة أيضًا؟ والحق أن أي قارئ مصيب في تساؤله هذا. ذلك أن هذه المقالة تذهب مذهبًا يمكن تعريفه بمحاولة الاعتراض على الكتابة بتمجيد الكتابة نفسها. الكتابة التي تكون في زمن ما مرشدة ومعلمة، وتصبح في زمن آخر، قديمة وغير ذات فائدة. وعليك أن تثبت انعدام فائدتها بكتابة جديدة.
في حقيقة الأمر، لا يضيرني أن أقرأ كتابًا لم يعد ثمة فيه ما يرشدني إلى أي شيء. كأن نتحدث-- عن وسائل رهبان القرون الوسطى في كشف هويات الساحرات. لكن هذه الكتابة قابلة للقراءة، مثلما يكون غرندايزر قابلًا للمشاهدة، أو مثلما يكون عالم القرود المقيمين في النجوم قابلًا للتخيل والتحقق والإثارة والتأثير. الكتابة بهذا المعنى تسير شيئًا فشئيًا لأن تصبح تجربة شخصية. وقصارى ما يرجوه الكاتب من اقترافها لا يتعدى الإعلان عن نفسه بوصفه حي ونابض، ومثله مثل كل الأحياء اختبر المعاناة والحزن والفرح، وعاش ردحًا من حياته يملك لسانًا ويستطيع أن يلغو به أو يبوح أو يستقرئ تجربته، لعله يتمكن من احتمال تحديات ما سيواجهه بعد حين.
المكتوب في يومنا هذا يشبه حديثًا شخصيًا بين الكاتب والقارئ، وككل كتابة، يدخل فيها كل ما يعرفه الكاتب وكل ما لا يعرفه، وككل قراءة أيضا يتدخل فيها كل ما اختبره القارئ وكل ما عاناه.