عملتُ، منذ سنوات، صحفيًا في مجلة بلا قراء، ولكي تدركوا فرادة التجربة عليكم أن تستبعدوا أي مجاز من العبارة: مجلة بلا قراء.. فعليًا وحرفيًا.
كانت مجلة مثل كل المجلات، تسير الأمور فيها بطريقة طبيعية تمامًا، فثمة رئيس تحرير، ومحررون، ومدقق لغوي، ومخرج، وعامل بوفيه.. وكان هؤلاء يتحركون برشاقة وحماس بين الطاولات، وأحيانًا يركضون في ردهات المجلة (أقصد الردهة الوحيدة) تمامًا مثل صحفيي الأفلام.
لا أعرف كيف جاءتني الفكرة؟ ولكنها جاءتني على كل حال: ما دمت أنا قارئي الوحيد، فأنا، إذًا، حر تمامًا في أن أكتب لنفسي ما أشاء
كان ثمة مواد صحفية تكتب على الكمبيوترات، وفلاشات تذهب إلى المخرج، وفلاشات أخرى تذهب من المخرج إلى المطبعة، وكانت المطبعة تدور لتبذر كلماتنا على أوراق بيضاء.. غير أن الحلقة الأخيرة كانت مفقودة على الدوام، إذ تختفي هذه النسخ المطبوعة في مكان ما حيث يطويها النسيان.
كتبتُ أخبارًا ومقالات وزوايا.. دون أن أصادف تعليقًا واحدًا، لا كلمة عتاب، لا شتيمة، لا مجاملة، ولا حتى عبارة "قرأت لك". كنت أصرخ في برية قاحلة لا بشر فيها ولا جبال تردد الصدى..
حتى رئيس التحرير تنصل من قراءة ما أكتب. قال لي إنني "التقطتُ النغمة" وصرتُ قادرًا على إنجاز مواد كاملة لا تحتاج تصويبًا أو مراجعة، ولكي يشرعن تنصله هذا ويعطيه طابع الديمومة، فقد سنمني منصب "كبير المحررين"، وبالفعل فقد كنت الأكبر سنًا بين محرريه الثلاثة.
وكانت صدمة صغيرة أخرى عندما ضبطت المدقق اللغوي متلبسًا بعدم قراءة موادي التي من المفترض أن يصحح أخطاءها. وقف أمامي مع انحناءة متزلفة وصاح بالعبارة التي يقولها عادة للمحاسب، مع تعديل طفيف، "معاذ الله أن أقرأ من بعدك.. معقول!!".
واكتملت دائرة عزلتي عندما ذهبت مع طاقم التحرير إلى مسؤول الجهة التي تصدر المجلة، كنا نحمل طلبات محددة لتطوير العمل.. بدقة أكثر: لتطوير رواتبنا. بُهت المسؤول وهو يستمع إلينا، وكما يقال: أُسقط في يديه، وسرعان ما اتضح أن ما فاجأه ليس طلباتنا بل وجودنا أصلًا. بلع ريقه وقال: "شو هالحكي يا شباب؟! ليش نحنا بعدنا عم نصدر هي المجلة؟!".
لا أعرف كيف جاءتني الفكرة؟ ولكنها جاءتني على كل حال: ما دمت أنا قارئي الوحيد، فأنا، إذًا، حر تمامًا في أن أكتب لنفسي ما أشاء.
استمتعت كثيرًا بفكرة الحرية الهابطة علي فجأة، فرميت عن كاهلي أي إحساس بالمسؤولية، أي توتر أو قلق، ورحت أُفرغ، على صفحات هذه المجلة الضائعة، مخزونًا قديمًا من الغل والغضب
وللأمانة فقد استمتعت كثيرًا بفكرة الحرية الهابطة علي فجأة، فرميت عن كاهلي أي إحساس بالمسؤولية، أي توتر أو قلق، ورحت أُفرغ، على صفحات هذه المجلة الضائعة، مخزونًا قديمًا من الغل والغضب.. حطمتُ قامات باسقة وهشمت كتبًا وأفكارًا وشهّرت بمتنفذين.. حتى أنني شتمت صديقًا قديمًا ظل لثلاثين عامًا يكتب هراء على شكل أشعار، ولثلاثين عامًا ظل مصرًا على أنني قارئه الأمثل..
وكانت النتائج ممتازة، فقد نفّست عن غضبي وبقيت، في الوقت نفسه، آمنًا ومحصنًا من أي ردة فعل. وربما هذا ما دفعني إلى أن أتمادى.. أجل، يبدو أنني تماديت قليلًا.. أو كثيرًا، حتى تلك النقطة التي اصطدمت عندها بقراء. ولقد مثلت أمامهم، في صباح خريفي بلا شمس، وكانوا قراء من نوع خاص، صارمين بذواكر حديدية، متجهمين لا يستسيغون المزاح، نصيين لا يؤمنون بالتأويل، حرفيين لا يحبون المجازات.. والأدهى أنهم كانوا يأخذونني على محمل الجد، أكثر مما توقعت.. أكثر بكثير مما حلمت.