لا شك في أنّ اللغة واحدة من الركائز الأساسية في بنية العمل الأدبي بشكل عام، والروائي بشكل خاص، فلا يمكن أن ينتقل العمل التخييلي من الوجود بالقوة في ذهن الكاتب، إلى الوجود بالفعل في "كتاب" إلا عبر اللغة.
غير أن هذه اللغة تتحول إلى مشكل في حالة عدم الوعي بخصوصيتها، فلغة الكتابة الأدبية غير لغة القواميس وخططها تختلف تمامًا عن الخطط النحوية، فعلى الكاتب أن ينتج برنامجًا للغة ضمن برنامجه السردي العام، وتختلف برامج اللغة الأدبية باختلاف البرامج السردية التي يختارها الكتاب كما تختلف باختلاف التيارات الأدبية التي ينخرطون فيها.
يتعامل المبدع مع اللغة بصفتها خصمًا وعليه أن يناورها كل مرة عبر تجديدها
غير أن هذا الأمر البديهي يشكل مأزقًا كبيرًا في التلقي العربي للأعمال الأدبية في ظل مجتمعات ما زالت تتعامل مع اللغة بقدسية ونظرة تحنيطية باعتبارها لغة النص المقدس: القرآن.
أخطاء لغوية بين عقدتين: المصحح والناقد
تسند دور النشر الغربية المحترفة مهمة التصحيح اللغوي إلى مختص مع ضرورة مراجعة صاحب العمل، حيث تعتبر ذلك شرطًا ضروريًا لأن المصحح اللغوي، مهما كانت احترفايته، يتعامل مع النصوص بنفس الاستعدادات والمكتسبات والتي تحولت بفعل التكرار إلى قواعد، بينما يتعامل المبدع مع اللغة بصفتها خصمًا وعليه أن يناورها كل مرة عبر تجديدها ودفعها إلى إكراهات بحسب طبيعة العمل الأدبي الجديد وشخصياته التي تصنع القول، وينتهي التعاون بين المصحح اللغوي والمؤلف إلى ظهور عمل متماسك محافظ على خصوصيته باعتباره مغامرة مخصوصة في اللغة تشير إلى الكاتب دون غيره من الكتاب.
اقرأ/ي أيضًا: "المناسباتية" وباء الشعر في زمن كورونا
في المقابل يتدخل المصحح اللغوي العربي، إن وجد، في غالب دور النشر العربية ماسكًا مطرقة القاضي الذي يعلم الحقيقة ويتصيد الجرائم الصغيرة والكبيرة للكاتب الخالق، والحق أن علاقة المصحح بالمؤلف تحتاج دراسة نفسية لما يشوبها من تشوهات قائمة على القدرة والخصي، فالمصحح، في الظاهر، قادر على التحكم في اللغة ،كما يعتقد، ولكنه غير قادر على إنتاج المعنى؛ التأليف، وهذا يشكل له عقدة أبدية من المؤلف الذي يتعامل مع ثروته الوحيدة اللغة باستخفاف، حسب رأيه، وكطين لخلق مادة أخرى، لا تعنيه، هي الرواية.
وهذا المصحح غير المؤهل، في معظم الأحيان، يشكل خطرًا كبيرًا على المنتج الأدبي إذا ما وثق فيه الناشر كل الثقة أو خضع له المؤلف. فالمصحح مجاله اللغوي الحيوي صغير وهو ما تتيحه له قواعد اللغة، وما يبيحه له المتداول القطري الذي يتواجد فيه من استعمال العامية، حتى إنه لا يتردد في الحكم على الفصحى نفسها بأنها خطأ، فلا تستغرب أن يتدخل المصحح المشرقي ليغير كلمة "نهج" بعبارة "جادة" في رواية تونسي، ولا يكلف نفسه حتى العودة إلى القاموس أو تذكر حتى أقرب الكتب إليه كتاب "نهج البلاغة". وسيغير بكل تأكيد كلمة ّزنقة" بـ"زقاق"،كما لا تستغرب أن يغير كلمة "كرة" بكلمة "طابة" وكأن كلمة "كرة" خطأ. إن هذا التدخل السافر في النص الأدبي بحثًا عن الفصاحة المزعومة يفقد النص الأدبي خصوصيته وينتزعه من بيئته، ويحول الكاتب المغاربي إلى كاتب مهاجر لغويًّا مثله مثل الذي يكتب بالصينية في الجزائر. لذلك يتفاجأ معظم الكتاب الذين مرت نصوصهم على مصححي اللغة أن هؤلاء قد أفسدوا بعض معانيهم ومناخاتهم بالتدخل السافر والقاطع، إما بحثًا عن الفصحى المفقودة أو اتهامًا لهم بالمحلية.
يفلت من سطوة هذه النوعية من المصححين الكتاب الأكثر شهرة والذين يشترطون في عقودهم على الناشرين إما عدم التدخل في نصوصهم، أو أن يطلعوا على الأعمال بعد تصحيحها، غير أن الغالب من الكتاب لا يعودون إلى مخطوطاتهم لمراجعتها بسبب عدم توفيرها من الناشر، أو بسبب كسلهم وروح الازدراء التي تتلبس بالمبدع تجاه عمله ما قبل النشر.
لا تستغرب أن يتدخل المصحح المشرقي ليغير كلمة "نهج" بعبارة "جادة" في رواية تونسي
أما الصنف الثاني المعادي للمؤلف فهو النقاد الذين جاؤوا إلى حقل النقد من خارج الثقافة النقدية للجنس الأدبي، هؤلاء لا يستندون في مراجعات الأعمال الإبداعية إلا على مخزونهم اللغوي إن وجد، فلًا يتحدثون إلا عن الأخطاء اللغوية، وهم أشد خطرًا على الأدب من المصححين، لأنهم يُعلون نصوصًا رديئة بسبب لغتها ويسقطون أعمالًا عظيمة بسبب فهمهم الخاطئ للغة الجنس الأدبي وإمكاناته. وقد اقترن، اليوم، ظهور هذه "النقود" بـ"النقود": الجوائز مثلًا. فتهاجم الأعمال الروائية الفائزة بالجوائز للتقليل من قيمتها، وأصبح هؤلاء المتطفلون على النقد مرتزقة عند كتاب آخرين لم ينجحوا في الفوز بتلك الجوائز أو عند دور نشر أخفقت في الوصول إليها. وهنا تصل المؤسسة النقدية إلى عمق الهوة التي سقطت فيها منذ زمن لتلامس "الغَرَمُ"، والغرم، بالعامية التونسية، هو ما يترسب من مياه آسنة وما تعكر منها حد السواد، بل تقوم بعض الجهات بتجهيز نفسها قبل المسابقة أصلًا بأن تعد قائمات بأخطاء حقيقية وأخرى مزعومة لمنافسيها، وترسلها إلى لجان التحكيم في شكل من أشكال الترهيب لقطع الطريق على هؤلاء الكتاب الذين دخلوا المنافسة، وأصابهم الرعب من وجودهم ويجب أن تقع تصفيهم بأي طريقة، وليس أفضل من طريقة في مجتمع ثقافي منحط ثقافيًا ما زال يؤمن بالإلهام كمعادل للوحي، من اللغة سلاحًا.
اقرأ/ي أيضًا: ذات يوم سينتهي هذا الزمن الغريب.. كتب للأطفال في زمن الجائحة
يشكر صنع الله إبراهيم مثلًا في آخر أعماله مصححه اللغوي، وأحيانًا بشكل فيه الكثير من روح الدعابة كما فعل في روايته "وردة": الشكر لأسرة المستقبل العربي بالقاهرة ولعبد المنعم سعودي الذي راجع الأخطاء اللغوية وبوأ الهمزة عرشها الصحيح!!
إن هذا الاعتراف بتواضعه اللغوي، بل إن أعماله تظل تحمل أخطاء لغوية لم يتفطن إليها المصحح، لا ينقص من قيمة صنع الله ابراهيم شيئًا لأن الكتابة الروائية أعظم من صف جمل نحوية صحيحة بل هي بناء مركب ومعقد، فالأخطاء يمكن تداركها حتى في طبعات أخرى، لكن أصالة البناء لا يمكن تداركها إلا بإعادة كتابة الرواية، وتلك مهمة يضطلع بها المحرر الأدبي في تقاليد النشر العالمية.
الخطأ الفاحش من ارتكبه؟
يروي جان جاك لوسركل في كتابه "عنف اللغة" قصة جريئة في حكايته مع الأخطاء في الأعمال الروائية والحرج الذي يمكن أن تشكله على الناقد الساذج. فيروي قصة جملة من رواية "كعك وجِعة" للروائي الكبير سومرست موم، حيث تقول سيدة من كونكي اللندنية الشعبية: "أنا لم أعد شابة كما اعتدت أن كنت"، فيعلق الناقد: "لو أنني قرأت هذه الجملة في ورقة امتحان لطالب لرسمت خطًا أحمر سميكًا تحت الكلمة الأخيرة. إلا أنني في قراءتي للرواية، أستمتع بقراءة الجملة. ولكن ما هو بالضبط الشيء الذي يمتّعني فيها؟ هل هو السرد المتقن الذي يمكّن موم من ارتكاب اللحن في الكلام والنفاذ بفعلته؟ أم هو تلك المميّزة المثيرة للهجة كوكني الشعبية في بدايات القرن والدقة التي يعتمدها مؤلف "ليزا لامبيث" باضافة لمسة من اللون المحلي لبعث الحياة في أسلوبه الذي تشوبه شائبة نحوية؟".
ويقضي الناقد صفحات يفصل القول في أن ما يبدو خطأ هو جمالية أخرى يضيفها موم إلى نصه وأنه ليس عاجزا على كتابة: "أنا لست شابة كما كنت سابقًا" بل يذهب إلى أن الأمر ليس متعلقًا بلهجة أخرى بل بتطور اللغة نفسها ويقول في أسلوب قياس طريف: "إن من يُنظر إليه على أنه قائد إرهابي اليوم يصبح رئيسًا للوزراء غدًا".
فنحن حسب رأيه "نستمتع بارتكاب الإثم ضد اللغة لأن هذا العنف الذي نمارسه ضد تراكيبها هو ما يضيف إليها الحيوية".
قيمة ما قدمه المنظر الروسي ميخائيل باختين للرواية لا يأتي من كونه ناقدًا بل من كونه لغويًا ومتخصصًا في فقه اللغة
وذكرني هذا بحديث طريف حدث بيني وبين الصديق الشاعر والناشر شوقي العنيزي عندما أعلنت لأول مرة عن عنوان روايتي "البيريتا يكسب دائمًا" ولم تكن الرواية قد دخلت المطبعة، وأراد تنبيهي، مشكورًا، إلى خطأ في العنوان لأن الأصح أن نقول "البيريتا يكسب دومًا" فكان ردّي أنني أذهب إلى الخطأ عن وعي وأني اخترت المتداول اليومي والعبارة الدارجة قصدًا، وأن خطأ شائعًا في العنوان أفضل من عبارة فصيحة ثقيلة إلى جانب انسجامه مع الأجواء الشعبية التي تدور فيها أحداث الرواية، فأنا "باختيني" الهوى في كتاباتي، واقتنع وقتها شوقي العنيزي برأيي في تلك المحادثة الطريفة آخر الليل.
اقرأ/ي أيضًا: رسائل خوليو كورتاثار: اليوم يضاف إلى أحزاني حزن جديد
إن الرواية كما يقول محمد برادة مقدمًا ترجمته لكتاب "الخطاب الروائي" لباختين: "إن الرواية عند باختين، جزء من ثقافة المجتمع، والثقافة، مثل الرواية، مكونة من خطابات تعيها الذاكرة الجماعية، وعلى كل واحد في المجتمع أن يحدد موقعه وموقفه من تلك الخطابات. وهذا ما يفسر حوارية الثقافة وحورية الرواية القائمة على تنوع الملفوظات واللغات والعلامات".
في البحث عن باختين
لا يكاد يجهل اسم "باختين" أحد من كتاب الرواية ونقادها، لكن الكثير منهم يجهلون كتبه وما قدمه من تنظيرات رائدة يمكن أن نقرأ بها الأعمال الروائية أو نستحضرها ونحن نكتب الجنس الروائي، ليس بمنطق التطبيق بل بمنطق الوعي بحدود الجنس وإمكاناته، حتى إن أكبر أسماء النقد العربي والذين يستعينون به في أعمالهم النقدية أو في التنظير للرواية عندما يكتبون روايات يتنكرون له ويعودون إلى ما قبل اللحظة المعرفية الباختينية فتأتي أعمالهم كأنما وضعها كتاب لا يفقهون شيئا من نظرية الأجناس الأدبية.
إن قيمة ما قدمه المنظر الروسي ميخائيل باختين ( 1895- 1975) للرواية لا يأتي من كونه ناقدًا بل من كونه لغويًا ومتخصصًا في فقه اللغة، وجاء اهتمامه بالرواية بسبب اختصاصه.
لا يمكن للكتابة الروائية حسب ميخائيل باختين إلا أن تكون عبر التهجين والأسلبة والحوارية، فهي قائمة في تعدد مستوياتها اللغوية وتنوعها وتشظيها الداخلي.
يقول باختين: "إن الرواية هي التنوع الاجتماعي للغات، وأحيانًا التنوع للغات والأصوات الفردية ، تنوعًا منظمًا أدبيًا"
يقول صاحب كتاب "شعرية دوستويفسكي": "إن الرواية هي التنوع الاجتماعي للغات، وأحيانًا التنوع للغات والأصوات الفردية ، تنوعًا منظمًا أدبيًا" وهذا التنوع يجعل من العمل الروائي عملًا فرديًا خالصًا يحتاج قراءة خاصة متحررة من أي تنميط وقواعد دغمائية". و"يتحتم على كل لغة أن تنقسم داخليًا وعند كل لحظة من وجودها التاريخي". وتنقسم اللغة حسب الطبقة الاجتماعية أو الهوية القومية التي ينتمي إليها المتلفظ. التي بدورها تنقسم إلى: لهجات اجتماعية وتلفظ متصنع عند جماعة ما ورطنات مهنية، ولغات للأجناس التعبيرية، وطرائق كلام بحسب الأجيال، والأعمار، والمدارس والسلطات، والنوادي والموضات العابرة، وإلى لغات للأيام (بل ساعات) للأيام الأجتماعية السياسة، (كل يوم له شعاره، وقاموسه ونبراته)"
اقرأ/ي أيضًا: حوار| سعيد ناشيد: نعيش في عالم غير آمن
وعبر هذا الوعي بإمكانات اللغة يمكننا أن نفهم اختلاف العامية التي كتب بها السوداني الطيب صالح، والعامية التي كتب بها التونسي البشير خريف، والعامية التي كتب بها المصري خيري شلبي، بل يمكننا أن نفرق بين عامية أبناء البلد نفسه وتشظيها إلى عاميات حسب الأجيال وحسب المناطق وحسب المستوى الثقافي وحسب الطبقة الاجتماعية، فكل من هذه الطبقات تخلق معجمها الخاص الذي ينقسم بقدوره إلى فروع دقيقة حتى نصبح في عجمة تامة داخل الجماعة شبيهة بالشيفرة السرية. فهل يمكن أن نقول مطمئنين إن عامية خريف هي نفسها عامية علي الدوعاجي أو عامية بن بريك أو عامية الكتاب الشباب اليوم في تونس ؟ قطعًا لا.
وهذه الشرعية التي يخص بها باختين الفن الروائي في اقتناص كل أشكال التعبير بما فيها فيها المعاجم ذات المحمولات الجنسية أو الأخلاقية والتي تفرضها الشخصيات، تجعلنا نحسم في أمر ما يسمى بالمعجم الفاحش، لأن استعماله لم يعد مطروحًا كاختيار حر، بل تفرضه الشخصية الأدبية نفسها، لأن انطاقها بمعجم غريب عنها هو اعتداء عليها وترحيلها نحو طبقة أخرى لها معجم آخر تمامًا. ومن ثم فنقد الكاتب لا يأتي إلا في حالة تخلي الكاتب عن اللغة الأصيلة للشخصية وحشو فمها بلغة غريبة عنها كل الغرابة.
تجربة الروائي اللبناني رشيد الضعيف أكثر التجارب العربية نضجًا من ناحية الوعي باللغة الروائية
ويتحدث باختين في مبحثه عن ظاهرة التهجين اللغوي أي تعمد الروائي استعمال لغة أجنبية داخل اللغة الرسمية للعمل الروائي، ولنا أن نأخذ مثالًا على ذلك ما يتعمده بكل وعي الروائي اللبناني رشيد الضعيف عندما يطلق على روايته عبارة "ليرنينغ انغلش" بالنطق الإنجليزي عبر الحروف العربية إلى جانب اختباره للعامية اللبنانية في عناوين رواياته "تبليط البحر" و"تصطفل ميريل ستريب". والحق أن تجربة رشيد الضعيف أكثر التجارب العربية نضجًا من ناحية الوعي باللغة الروائية فهو يفرق بين الأعمال الأدبية التي تصلح للتربية ويسميها "الرواية الفصحى"، والرواية بالمعنى العميق أي تلك التي وجدت من أجل أن تقول أمرًا آخر غير تعليم اللغة للفتيان في المدارس والتي "يختارها الأب لابنته وينصحها بقراءتها" و"الرواية الدنيا"، "وتتناول أمور حياتنا المنخفضة، وهذا ما أكتبه أحيانًا" ويذهب في تأصيل فكرته ليقول: "بهذا المعنى فإن كثيرًا من كتبي لا تُقرأ في الساحات العامة. فما يُقرأ وسط العموم، يبدو لي غالبًا، أنه يساير السائد وأقرب إلى البروباغندا". ويربط رشيد الضعيف تلك الكتابات ذات اللغة الصافية والخالية من كشف المحظور تعكس نفاق المجتمعات العربية التي لا تجرؤ على النظر في المرآة.
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة آدم فتحي
يتحدث الكاتب المغربي محمد شكري الذي جاء إلى عالم الكتابة متأخرًا بعد سن العشرين أنه أضاف إلى القاموس الكثير من المصطلحات، وهذا مؤشر آخر أن اللغة تتطور في النصوص المنفلتة والخارجة عن الأدب الرسمي الذي وضعته القواعد النحوية والمعاجم المتكلسة والكتب التعليمية والروايات الفصحى التي يهديها الآباء لبناتهم.
يقول متقاطعًا مع رؤية رشيد الضعيف : "اللغة التي أكتب بها، لا هي فصيحة تمامًا، ولا هي دارجة تمامًا. إنها لغة تتميز بالبساطة، ويستطيع فهمها واستيعابها كل القراء. بما فيهم: العامل البسيط، ماسح الأحذية، التلميذ المطرود من المدرسة، البائع المتجول، الطبيب، المهندس، البقال والكاتب.. إلخ، الكتابة الإبداعية لا يمكن أن تكتب بلغة فصيحة جدًا، إنما تكتب بلغة الوسط التي يفهمها الناس".
وما زالت النصوص التي تنشر اليوم من مخطوطات الكتاب الكبار تنشر بأخطائها وبإشارة في الهامش أنها كتبت هكذا حتى تحولت أخطاء هؤلاء الكتاب الكبار إلى جزء من هوياتهم الثقافية التي يمكن أن نتعرف من خلالها على تكوينهم واهتماماتهم من العمل الإبداعي، ونمثل لهؤلاء بأخطاء الشاعر أبي القاسم الشابي وأخطاء القاص محمد العريبي.
اللغة تتطور في النصوص المنفلتة والخارجة عن الأدب الرسمي الذي وضعته القواعد النحوية والمعاجم المتكلسة والكتب التعليمية والروايات الفصحى التي يهديها الآباء لبناتهم
لا يشجع هذا المقال على ارتكاب الأخطاء فنحن من الذين يحاولون التقليل منها قدر الإمكان، ولكن من الذين لا يصابون بهلع إن وجدوا بعضها في أعمالهم بعد طباعتها. فقد علمتنا قراءة الكتب التي نراجعها أن نقرأ الكتاب بقلم الرصاص فنصحح ما ارتكب الكاتب أو سها عنه المصحح والناشر، إنما هذا مقال في التحذير من خطر النحويين الذين لا يتحدثون عن العمل الروائي إلا من حيث هو حزمة من الجمل النحوية، ومن المتسللين إلى المؤسسة النقدية بلا معاول نقدية تجعلهم قادرين على تفكيك العمل الروائي واستنطاقه.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الفتاح كيليطو في "الأدب والغرابة".. سندباد أدبي
وما يؤكد عدم أصالتهم النقدية هو أنهم لا يقربون في المقابل تجارب روائية رائدة في بلاغتها وفصاحتها، تلبي من المفروض انتظاراتهم الجمالية بفصاحة اللغة، مثل تجربة سليم بركات الروائية. يبدو أنهم لن يجدوا ما يقولون، لأن عليهم أن يحفروا في البناء الروائي المعقد لسليم بركات. لكن الأطرف من كل هذا كله أن مقالاتهم التي يهاجمون بها الروايات "المريضة لغويًا" ترشح بالأخطاء اللغوية أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا:
رواية "مقبرة الفراشات" لسامي المقدم.. أعطه قناعًا وسيصدح بالحقيقة