في روايته "طيور الحذر" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996) يشرح الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله كيفية صنع بطل الرواية لتلك الطيور قائلًا: "يصطادها أولًا، ثم يتركها. عندها، تتحوّل إلى كائنات لا يمكن معرفة المدى الذي يمكن أن تبلغه في طيرانها، تتحول إلى أنصاف حساسين". بطلنا إذًا صائد طيور، ولكنه ليس كأي صائد. فحينما كان الأولاد في المخيم يصطادون الطيور من أجل أكلها في زمن الجوع والفقر، أو التباهي والمبارزة، كان الأمر عنده يأخذ منحىً مختلفًا وغير متوقع لما يكنّه من مشاعر لكلٍ من السماء والطيور العائمة فيها.
قبل ذلك، نتتبع مسار حياة بطلنا الصغير الذي، ولسببٍ ما، سيظل صغيرًا طوال حياته حتى بعد تخطيه مرحلة المراهقة وبلوغه عمر الشباب، وهو سببٌ قد نفهمه ربما في نهاية الرواية. والمفارقة أننا نلتقي بالصغير في عمر مبكر جدًا، حتى قبل خروجه من بطن أمه. لكنه يفكر ويشعر كشخص كبير، ذا كيان خاص ورغبات كثيرة.
فبينما يبكي الصغير عندما تُبعده أمه عن النافدة والسماء، أو القطعة الزرقاء كما يسميها هو، ظنت أمه أنه يبكي لأنه جائع أو ربما مريض، ولم يخطر في بالها حين أعادته إلى مكانه أنه كان يبكي بسبب افتقاده السماء. وهنا تختلط البراءة والحياة في أزماتها الغضة كثيرًا حتى عن مسميات الأشياء، بالإصرار والطموح العجيبين حتى على الطفل نفسه.
كل أشكال الشقاء اليومي للفلسطيني، من البحث عن لقمة العيش، إلى اللجوء بكل تفاصيله، هي نضال مستمر نحو الهدف الأسمى: الوطن
يظل الصغير معلقًا بالسماء. وفي رحلته الصغيرة في البحث عن الحرية، يظل يتتبعها هاربًا من أمه، منذ بداية تعلمه الحبي وحتى وقت متأخر من حياته، بينما هي تُعيده إلى حضنها بإصرار متناهي. بالتوازي مع هذا الحرمان الذي يعيشه الصغير، يكتشف حبه للطيور، ليس كمتفرج فقط بل كصائد لها، وليس أي صائد، إذ كان الصغير يصطاد الطيور بفخاخ ينصبها لها بنفسه. وقبل أن تموت، يهب راكضًا لنجدتها. هكذا كان يعلمها الحذر.
إلى جانب بطل الرواية، ثمة شخصيات أخرى تظهر مع تقدم السرد، فهناك مثلًا أمه عائشة التي كانت أيضًا تعيش في الزمن الغض من الأشياء، ووجدت نفسها فجأة تملك عائلة: ابنًا وزوجًا، وكان عليها الاعتناء بهما وحماية نفسها من الأعين المتربصة، ومن الشكوك المثارة حول ما إذا كانت قادرة على أداء مهامها كامرأة وزوجة وأم، وحول قدرتها على إنجاب المزيد من الأبناء، ما يجعل من حياتها أقرب إلى معارك يومية مع نساء عائلة زوجها اللواتي يظهرن ويختفين في أجزاء من الرواية بطرق مختلفة، لكنهن يكتسبن بفعلها بعدًا مهمًا في الأحداث، خاصةً أن البطل ينجح في تشكيل علاقة ما بهن جميعًا، حتى وإن اقتصرت على الحوارات.
يشكل المكان بعدًا مهمًا في الرواية، فهو الفضاء المسؤول عن تشكيل أمزجة شخصيات الرواية مثلها مثل أي عمل فلسطيني آخر. فعائلة الصغير، الصغيرة، المكونة منه ومن أمه وأبيه، ليست سوى امتدادٍ لعائلة والده التي هُجّرت في أعقاب النكبة إلى منطقة جبلية في الأردن.
وهناك، تعيش العائلة في مغارات حُفرت في الجبال، ويتشكّل فيها فضاء موحش مصدره اللجوء والابتعاد عن الوطن إلى أجل غير مسمى، وكذلك الواقع القاتم والمستقبل المجهول، وتضاعف أصوات عواء الذئاب في الجوار من وحشته إلى جانب مظاهر أخرى عديدة من انعدام الأمن والراحة التي تخلفها المعيشة في مغارة. وبموازاة ذلك، تتعرّض عائشة للكثير من الأذى من قريبات زوجها، ما يضاعف من حدة الوحشة التي تعيشها العائلة، وذلك عدا عن ظروف العمل السيئة التي يعانيها الزوج. هكذا يقرّران في النهاية الهرب من من لجوئهم المؤقت، إلى آخر أكثر ثباتًا وأوضح طولًا: مخيم الوحدات.
بالعودة إلى الصغير الذي تشكل علاقته مع الطيور المحور الأساسي في القصة، التي ستتطور وتمر بمنعطفات ومنحنيات عدة، نرى أن ثيمة الطيران التي ترمز إلى الحرية تتجسد في عدة أشكال في العمل، منها تلك التي عن "علي" والد الصغير الذي يبدو ظهوره بصفته الوالد وزوج عائشة، هو محور وجوده في القصة، وخفوت ظهوره فيها مقصودًا لتغيبه الشاق في رحلات بحثه عن لقمة العيش.
لكن المفارقة تحدث عندما يسجن علي وفجأة يصبح غيابه صاخبًا أكثر من حضوره، وتكبر عائشة وأبنائها السبعة بما فيهم الصغير دون وجوده، يسجن علي بتهمة امتلاكه سلاحًا في المخيم، في زمن تصبح فيه الجدران ذات آذان، وكل حديث هو حديث محرم لأنه سياسي، حتى سؤال بريء مثل: "إلى متى سنبقى في المخيم؟"، وتتغير خلال فترة سجنه أمور كثيرة، ويصير الصغير "زلمة". ثم يخرج علي دون تثبت أو تنفى تلك التهمة أبدًا، وبالإشارة إلى آخرين من سكان المخيم سجنوا وأخرجوا بنفس الطريقة بتهم تخص انتمائهم إلى المقاومة المسلحة، نجد أنفسنا أمام سؤال: هل كان علي ورفاقه هم الآخرين "طيور حذر"؟
يتعلم الصغير لاحقًا الاصطياد بالشبكة، دون أن يؤذي العصافير ودون الحاجة إلى الركض إليها قبل أن تموت، وبأعداد كبيرة. أصبح يصطادها لأغراض شتى تعكس شخصيته بارتباكها ومكرها، لكن أبدًا ليس لأكلها، إذ يجد على الدوام مسوغات مختلفة للاصطياد، يسأل مرة خالته: "لماذا نحبس الشيء الذي نحبه ونترك الشيء الذي لا نحبه؟"، ولخالته شخصية تميّزها عن سواها، إذ تجسّد شخصية المرأة الحكيمة الحنونة التي لم تسعفها حكمتها في حياتها العاطفية، فحبست نفسها "في قفص الوحشة والانتظار"، في تداخل عجيب بين قصتها ونكسة 1967.
يركز نصر الله مثلما هو في جميع رواياته على الفلسطيني الإنسان، فلا ينشغل بإظهار صورة الفلسطيني المقاوم والأسطورة، رغم أننا نعرف دون تنويه أن كل أشكال الشقاء اليومي للفلسطيني: البحث عن لقمة العيش، اللجوء بكل تفاصيله، في كل وجوده وعيشته؛ هي نضال مستمر نحو الهدف الأسمى إلى الوطن، ومن خلال علاقات متشابكة ومتنوعة: الأم والابن، الابن والأب، العائلة الصغرى ضمن العائلة الكبرى، الجيران بين بعضهم.. إلخ، يتجلى جوهر هذه الشخصيات وردات فعلها وتعاملها مع مأزق الحياة عمومًا، وكونها من فلسطينيي الشتات خصوصًا.
بالعودة أخيرًا إلى الحرية والطيور، يقول نصر الله واصفًا إحدى الشخصيات: "وحده الطائر الذي لا توصله أجنحته إلى شيء، حاول أن يستنجد بما ليس له وجود، اكتشف أن منقاره موّثق ولا مجال لأن يفتحه". وأمام كل هذا القمع الذي تتعرض له الشعوب العربية التي تخاف حتى من قول كلمةٍ "حادة" في نصرة الفلسطيني في ظل استمرار المجزرة، نجد أنفسنا، طوال العمل، أمام سؤال: هل نحن طيور الحذر؟