مُنذ سنوات تحاول الإعلامية السودانية ملاذ حسين خوجلي ردم الهوة التي خلفها انهيار المكتبات العامة في السودان، وقد أطلقت ملاذ مشروع مكتبة الحي المجانية، في شكل صناديق من الزجاج والأخشاب، يتسع الواحد منها لنحو مائة كتاب تقريبًا، تُبذل مجانًا للأهالي في الأحياء، شريطة أن تضع كتابًا مقابل الكتاب الذي استعرته، وتأمل ملاذ تعميم التجربة في كل مُدن وقرى السودان، على تغطي أيضاً وبالمقابل فراغات عريضة من الاحتياجات المعرفية.
ساهمت المكتبات السودانية العامة في إعداد جيل من المبدعين والمثقفين والسياسين، لديهم ارتباط وثيق بالقراءة
يحيل هذا الغياب القسري للمكتبات العامة شعب شغوف بالقراءة إلى الماضي، عندما كانت الحياة الثقافية مزدهرة بالفعل، وكانت مكتبة القبة الخضراء التي أنشئت في العام 1993 رمزًا للاستنارة، إذ احتلت مساحة واسعة وسط الخرطوم، وفي الذاكرة أيضًا، إلا أنها تعرضت للتجريف تمامًا قبل أعوام قليلة، وأقيم في مكانها مول الواحة التجاري، بكل ما يعنيه ذلك من تجن فظيع على الثقافة.
اقرأ/ي أيضًا:الثقافة في السودان.. حكم البيروقراطية والمناورات
الخرطوم لم تعد تقرأ
ساهمت المكتبات السودانية العامة في إعداد جيل من المبدعين والمثقفين والسياسين، لديهم ارتباط وثيق بالقراءة، ومثلت المكتبات والقهاوي والصوالين الثقافية في فترة ما نواة تجمعاتهم، أو مهاربهم وفقاً لتعبير الكاتب النور حمد. وقد جعلت الطليعة المثقفة من الكتاب صديقًا وأنيسًا، إلى درجة راجت فيها تلك المقولة "القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ"، رغم أنها عبارة تعرضت لاحقًا إلى نقد عنيف من قبل بعض المثقفين، باعتبار أنها جعلت السودانيين في خانة المستهلكين على الدوام، حتى في الجانب الثقافي، رغم تجارب الكتابة والتأليف ووفرة المبدعين الذين رحل أغلبهم بحسرة العبقرية، بتعبير الكاتب الراحل علي المك.
أشهر المكتبات السودانية
من أشهر المكتبات السودانية العامة، مكتبة الشهيد في الخرطوم، وفي أم درمان مكتبة البشير الريح العامة، ومكتبة مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، ومكتبة آل مدثر الحجاز، بجانب مكتبة جامعة الخرطوم والتي تعرف بـ"المين" وتحتوي على مراجع مهمة في العلوم والتاريخ والاقتصاد، ويستفيد منها طلاب الجامعات، وأحيانًا تشرع أبوابها في وجوه الباحثين عن المعرفة. كما توجد مكتبة مكتبة المركز الثقافي الوطني بالخرطوم بحري، وفي العام 2012 أنشأت محلية أم درمان مركزًا ثقافيًا ألحقت به مكتبة عامة بمسمى "مكتبة حافظ الشيخ الزاكي العامة" بجانب مكتبة مركز فيصل الثقافي، التي تحتوي على جناح للكتب الإلكترونية، ووسائل حديثة للقراءة.
تقصير حكومي
وبالرغم من أن وزارة الثقافة حاضرة في المشهد العام بحكم ولايتها على المكتبات العامة، إلا أنها متهمة بالتقصير في حماية القلاع المعرفية، وتبني برامج تشجيع القراءة والاطلاع، بجانب ضعف الميزانية المخصصة للمكتبات العامة من اعتناء وتأثيث ورفدها بالكتب الجديدة، وظلت الوزارة تبدي تجاهلًا في الحفاظ على تلك المكتبات، أو تهيئتها بالقدر الذي يجعلها مكانًا مرتادًا وجاذبًا، وقد توقفت أيضًا جهود إنشاء مكتبات جديدة، على الطراز الحديث، وتسربت نتيجة للإهمال الكتب والمراجع القيمة، فأصبحت بحوذة الباعة على الأرصفة المتعددة، مفروشة في العراء، ومعرضة بشدة للتلف، بسبب الظروف الطبيعية القاسية وغيرها.
الممنوع المرغوب
"برغم اتساع رقعة منافذ الكتب على امتداد الجامعة والأقاليم إلا أنها زادت حركة شراء الكتب وتراجعت فكرة القراءة والاطلاع" وفقًا للناشط الثقافي عمر عشاري، والذي اعتبر في حديثه لـ"ألترا صوت" أن المحصلة تضخم مشكلات اجتماعية وثقافية وسياسية، ويعني هذا أن تراجع دور القراءة يبدو واضحًا في استبدال أماكن المكتبات العامة الضخمة كالقبة الخضراء بمول لبيع الملابس والأحذية، مضيفًا "لا شك لدي أن تراجع مناخ الحريات انعكس أيضًا على القوائم الآخذة في الاتساع والتي تتضمن كتبًا ممنوعة".
مكتبة الحي المجانية
انطلاقًا من الدور الذي تقوم به المكتبات في خدمة المجتمع صممت ملاذ خوجلي فكرتها، وقالت لـ"ألترا صوت" إنها تؤمن بحق الجميع في القراءة، وسهولة الوصول للكتب التي ارتفعت أسعارها مؤخرًا. وأضافت: "مكتبة الحي المجانية تكمل هذا النقص، وهى حلم قديم منذ الصغر، ومساهمة مني لنشر الوعي وسط الأجيال الجديدة وإلقاء حجر في المياه الثقافية الراكضة"، معتبرة وجود مكتبة مجانية في كل الأحياء بمثابة ملمح حضاري، عوّض عن الأثر الإيجابي للقراءة نفسها في نهضة الأمة وتفتح مداركها. وأوضحت ملاذ أن التجربة ناجحة، وتستهدف بها أكثر الأطفال الذين ليس لديهم معرفة بالقراءة والمطالعة، أو تستعصي عليهم، وقد دشنتها أيضًا في كثير من ولايات السودان وأنها قابلة للاتساع والتعميم.
"مفروش".. المشروع المُجهض
ليس ثمة دليل ناصع على إهمال المكتبات العامة، أو حتى البدائل الفعالة لها سوى إجهاض فكرة "مفروش" التي عمل عليها الشاعر والناقذ الثقافي مأمون التلب، في محاولة لاستعادة مِزاج القراءة. وقد حرص مأمون عبر "جماعة عمل الثقافية"على تنظيم يوم في الأسبوع لشراء وتبادل الكتب المستعملة في ساحة أتنيه وسط الخرطوم، أو ما يعرف بالسوق الأفرنجي القديم، وغطى ذلك النشاط على غياب الفعل الثقافي، وتدهور المكتبات العامة. فالكتب على اختلافها، حتى النادر منها، تعرض على باحة مفروش، ما يتيح أيضًا سانحة للاطلاع المجاني والعناية بالمواهب الإبداعية.
ليس ثمة دليل ناصع على إهمال المكتبات العامة في السودان، أو حتى البدائل الفعالة لها، سوى إجهاض فكرة "مفروش"
اقرأ/ي أيضًا:ثقافة الخفة
المحزن في الأمر أن السلطات أوقفت ذلك النشاط دون أسباب واضحة، ما جعل جماعة عمل الثقافية تُعلن عن توقف النشاط. وكتب مأمون التلب على صفحته بالفيسبوك قائلاً "مفروش تمّ إيقافه لأسبابٍ أقلّ ما يمكن أن توصف أنها واهية وتعجيزيّة وتبدو، إن أحسنّا الظن، متعمّدة تمامًا"، لافتًا إلى أن المبادرة نبعت من قلب المجتمع وبدعمٍ أهليٍّ خالص، ووفرت الكتاب لمدة ثلاث سنوات متتالية انتعشت فيها حركة القراءة والكتابة، وولدت مبادرات ثقافيّة وإبداعية في ساحة أتنيه، مشيرًا إلى أن الإيقاف الآخير يأتي بحجّة أن على المنظّمين مدّ مجلس المصنفات الأدبية –حسب قانون معارض الكتب– بقائمة متكاملة لكل ما سيعرض في المعرض. وقال التلب: "هذا الأمر مستحيل تمامًا لأن فكرة المعرض تقوم على المشاركة الفرديّة والجماعية بمكتبات الناس الخاصة؛ إذ يأتي الأفراد بكتبهم بغرض تبادلها أو بيعها لأجل تجديد دماء مكتباتهم كل شهر، وبالتالي من المستحيل أن تتم الإحاطة بأسماء الكتب، خاصةً وأن المعرض يجذب آلاف الرواد شهريًا"، وتساءل: "ألا يمكن الوصول لصيغةٍ ما بدلًا من أن يجفّف هذا النبع المهم للمعرفة وتبادل الحيوات المفتوح في الهواء الطلق؟ لماذا يجب أن يقتل؟".
اقرأ/ي أيضًا: