يمكّنني الموبايل من أن أتواصل مع مخاطبي أنّى كان ليطلعني على أحواله، فنتجاذب أطراف الحديث، ونتبادل الأخبار والتّحليلات، ونحيي الذّكريات، ونذْكر الأصدقاء فنتقاسم أخبارهم. لا يختلف الموبايل في هذا كلّه عمّا تعوّدنا عليه مع الهاتف الثّابت. لا يهمّني هنا التوقّف عند الفروق جميعها التي تميّز الموبايل عن جدّه التقليدي. ما يعنيني أساسًا هو خاصّية تنفرد بها هذه الآلة العجيبة التي لم يعد بإمكاننا أن نعيش من دونها. فهي لا تكتفي بأن تسمح لي بالتّواصل مع مخاطبي، وإنّما توصلني إليه وتدخلني بيته، فأطّلع على أسراره ونواياه، وهي تمكّنني من أن أعرف هل ما زال يشغّل آلته أم خلد إلى النوم؟ وهل اطّلع على الرسالة الصّوتية أو المكتوبة التي بعثتها إليه ومتى؟ وما إذا كان يتعمّد عدم الردّ؟ وهل هو في منزله أم هو خارج كلّ تغطية؟ وكم من الوقت قضاه بعيدًا عن جهازه؟
ثمة خاصّية تنفرد بها هذه الآلة العجيبة، الموبايل، التي لم يعد بإمكاننا أن نعيش من دونها. فهي لا تكتفي بأن تسمح لي بالتّواصل مع مخاطبي، وإنّما توصلني إليه وتدخلني بيته، فأطّلع على أسراره ونواياه
لعل آخرين يتلصّصون عليّ عبر "ثقب" هاتفي على نحو ما أفعل. وعلى أيّ حال، فأنا قد تعودت على تلك العيون والآذان التي تترصّد أخبارنا وتلتقط أسرارنا، وكل ما نقوله أو نكتبه على أجهزتنا. فطالما نبهنا التقنيّون أن كل ذلك يُنقل إلى أجهزة أخرى تَربط معنا الاتّصال من غير حاجة إلى مشورتنا وموافقتنا، إلى حدّ أننا أصبحنا نشعر، في بعض الأحيان، أنّ حمْلنا لهذا الجهاز اللّعين هو نوع من السّير عراةً في الشوارع. ومع ذلك فإنّنا قد نفترض قليلًا من حسن النّية، فنظلّ نتواصل ونتحدّث عن أنفسنا، ونكشف أسرارنا مع الوعي بأنّ الأضواء مسلّطة علينا، وأنّ كلّ ما نهمس به منقول بالرّغم منّا، وأنّ صورنا وأرقام بطاقاتنا وآراءنا عارية منكشفة، بل إنّها قد تخضع لقوانين السّوق فتُتَبادل كسلع بين الشركات المعنية، خصوصا تلك التي تسهر على منصّات همُّها الأساس هو تخزين المعلومات والصور.
قد يشكّك البعض في كلّ هذا فيسأل مستهترًا: من يا تراه يهمّه أمرك، وتَعنيه معرفة أسرارك ورأيك بصدد هذه القضية أو تلك؟ أيّ فائدة سيجنيها من معرفة أرقام بطاقاتك والحصول على صورك التي هي ملقاة في الشبكة العنكبوتية متاحة للجميع؟ أليس هذا التخوّف مجرد إيلاء الذّات أكثر ما تستحقه؟!
لا يظهر أنّ الذي يطرح مثل هذه الأسئلة قد أدرك المقصود بالتجسّس في هذا السياق. ذلك أنّ الأمر لا يعني مطلقًا مراقبة فرد بعينه، ومعرفة ما يقوله وما يعتقده. المعطيات الفردية لا قيمة لها هنا في ذاتها. وإنّما المقصود هو خلق بنك المعطيات حول كيفية تصرّف الأفراد من حيث هم ينتسبون إلى جماعات. كل معلومة لا قيمة لها هنا إلا من حيث تُربط بمثيلاتها. فالأمر يكاد يكون مماثلًا لدراسة ميولات الأسواق. فعندما أقوم بدراسة لمعرفة أيّ نوع من أنواع الفواكه يميل إليها المستهلكون في هذه السوق بعينها، فإنّ حالة كل فرد لا تهمّ بما هي كذلك، وإنّما بما هي تشكّل ميلًا جماعيًا. المعلومات لا أهمية لها هنا إلا بما هي مسلك يشترك مع غيره. فليس هوس الشّركات الكبرى، التي هي وراء جمع بنك المعطيات، مراقبتك ومعرفة ما تعتقده وتقوله أنت، هوسها الأساس هو أرباحها. ولا قيمة للمعطى هنا إلا في صيغة الجمع. فالمعطيات المحصّل عليها تُخزِّن كمًّا هائلًا من أنماط العيش التي تميل إليها الجماعات البشرية، وكل هذا سيكون له مردود كبير عندما يُوظّف للتنبّؤ بالسّلوكات العامة بهدف صناعة الآراء، ونحت الأذواق، وخلق الرغبات، والتحكّم في الاستهلاك، وتدبير الإنتاج.