في حقب سابقة من تاريخ البشر، كان الإنسان يعتمد على فهمه لذاته والحياة والكون على مرجعيات مختلفة، خارجة عن حدود الطبيعة، فكانت الأسطورة الآلية المحورية التي تعتمد عليها البشرية في التفكير وفهم العالم.
غدا الإنسان المعيار الوحيد لتفسير الكون والحياة، مستمدًا كينونته الوجودية من عقله وحواسه
إلا أن هذه الأفكار الأسطورية اللاواعية كانت غير متوافقة مع طبيعة الإنسان، الذي تطورت لديه مع مرور الوقت والظروف ملكات القدرة على الإدراك والإحساس والفهم من خلال العقل والحواس، ليصل في مرحلة من تاريخه إلى استخدام ملكاته الإدراكية بشكل جريء، مبددًا عالم الوهم الذي كان يغلف عقله ويزيف حقيقة الكون في عيونه، بعد أن تبلورت لديه أوليات المنطق، وبدأ بالاعتماد على حواسه في إدراك الموجودات، بما فيها ذاته.
اقرأ/ي أيضًا: هل الفلسفة الغربية عنصرية وكارهة للأجانب؟
ليصبح الإنسان نفسه محور فهم العالم بعيدًا عن الأساطير والخرافات الوهمية، حيث غدا هذا الإنسان المعيار الوحيد لتفسير الكون والحياة، مستمدًا كينونته الوجودية من عقله وحواسه، ومن ثمة بات مفهوم الإنسان جوهر الحياة، كقيمة أعلى في الوجود يسعى بنفسه إلى فهم ذاته وما يحيط به، هذا ما سمي في التاريخ الثقافي العام، بـ"النزعة الإنسانية".
سياق ظهور النزعة البراغماتية
كانت روح النزعة الإنسانية حاضرة منذ بدايات تاريخ الفكر الفلسفي، أي منذ أن أعلنت الفلسفة ميلادها مع عصر فلاسفة الإغريق، عندما قال فيلسوف السفسطائيين بروتاغوراس إن "الإنسان هو مقاس الأشياء"، ومنذئذ ظهرت إرهاصات الاتجاه الإنساني في الفكر البشري، القائم على العقلانية والتفسيرات الطبيعية، ليتطور هذا المسار الإنساني بشكل أكثر جرأة مع انطلاق عصر النهضة في القرن الرابع عشر الميلادي بأوروبا الغربية، بفضل جهود نخبة من المفكرين المتنورين، مثل بيترارك الذي لقب بوالد الإنسانية، ودانتي، وإيراسموس الهولندي، قبل أن ينضج صرح النزعة الإنسانية أكثر مع جون بول سارتر وإيمانويل كانط، اللذين دعيا إلى رفع الوصاية على العقل بشكل تام والاعتراف بفاعليته النقدية الحرة.
كانت المدرسة البراغماتية، التي تبلورت بصورة واضحة ومؤثرة في الولايات المتحدة الأمريكية، أحد الاتجاهات الفلسفية البارزة في النزعة الإنسانية بشكل عام، هذا الاتجاه الذي بدأ في عام 1870 بأحد نوادي مدينة كامبردج بولاية ماسشوستس في أمريكا، ضم ثلة من الشباب المتهكم على الفلسفة التقليدية في صيغتها الميتافيزيقية.
كان وليام جيمس، عالم النفس والفيلسوف الأمريكي من أصول إيرلندية، أحد مؤسسي هذا النادي البراغماتي، وليام جيمس الذي أعطى أولوية للمعطيات التجريبية والنتائج المحسوسة في الحكم على الحقيقة من عدمها، مهملًا التجريدات الفارغة والحلول اللفظية والمبادئ الثابتة والمطلقة، فكما يقول إن "البراغماتية تتجه نحو العمل والأداء والمزاولة، أما ربط الحقيقة بالميتافيزيقيا، فقد يؤدي بنا المطاف إلى جدل لا ينتهي ولا يمكن حسمه"، وبالتالي حسبه فلا بد من معيار واضح وفعال للتمييز بين الأفكار الحقيقية والعملية والأفكار الكاذبة أو معدومة الجدوى.
ورغم أن بعض مظاهر الفكر الأسطوري ما تزال قابعة في حياة الحضارة البشرية حتى اليوم، إلا أن النزعة الإنسانية، وتحديدًا البراغماتية منها، بدون شك هي السمة الطاغية لحياتنا المعاصرة، بعد أن انفجرت الحضارة البشرية علومًا وفنونًا وفكرًا، بعدما قطعت فلسفة وليام جيمس مع كافة الاتجاهات التأملية التقليدية في رؤيتها لطبيعة الحقيقة، ليصبح "العلم التجريبي الفاعل" محور الحضارة البشرية التي نعيشها اليوم.
براغماتية وليام جيمس
يعتقد وليام جيمس أن "التجارب الإنسانية عندما تخضع لمقولة العقل كأنما نخضع الحياة لمقولة الموت"، ولذلك يرفض النظرية الكلاسيكية القائلة بجاهزية الحقيقة الصرفة، التي تدعو إلى العقلانية المفرطة الغارقة في التنظير، وبدلًا من ذلك يعتبر وليام جيمس الحقيقة هي ما هو أصلح لنا في حياتنا الواقعية.
من ثمة يربط وليام جيمس الحقيقة بالواقع العملي المعاش، فلا يهم، كما يقول، إن كانت رقع الشطرنج بيضاء أم سوداء، وإنما المهم كيف نريدها أن تكون، بحيث تكون مناسبة أكثر لنا، لتصبح الحقيقة نتاجًا إنسانيًا متغيرًا يضفيه الفرد على الواقع الخارجي حسب ما ينسجم مع رغباته، فالحقيقة ليست مجرد معتقدات جوفاء متعالية خالية من المعاني الإنسانية، بل هي من صنع الإنسان وعمله ارتباطًا بمبدأ ما هو مفيد وأصلح في الواقع المعاش.
الحقيقة نتاج إنساني متغير يضفيه الفرد على الواقع الخارجي حسب ما ينسجم مع رغباته
هذا البعد الغائي الذي يضفيه الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس على الحقيقة، يجعل الأخيرة تحت تصرف الإنسان يشكلها كيفما شاء، شرط أن يكون هذا التصرف قائمًا على غايات إنسانية تروم إلى تحقيق الانسجام والتناغم التام في حياتنا، كما يجعلها -الحقيقة- دينامية تركز على تفاعل الإنسان مع واقعه، يتم بناؤها وفقًا لمبدأ النجاعة والفعالية التي تتماهى مع رغبات النسان وظروفه بشكل إيجابي.
اقرأ/ي أيضًا: الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن
بهذا المنظور، يصنع وليام جيمس، الذي أمضى سنوات من حياته في الرحلات العلمية الاستكشافية في ربوع القارات، مذهبًا فلسفيًا خاصًا بالإنسان المعاصر في تحديد المعرفة، مذهب يتسم بالحيوية والتبسيط والفاعلية يناسب الفيلسوف المتضلع والإنسان البسيط، تتخلى فيه الحقيقة عن وظيفتها التقليدية في رصد ما هو حقيقي إلى خلق ما هو أصلح لواقعنا المعاش بما يحقق الانسجام في حياتنا.
اقرأ/ي أيضًا: