يصعب تحديد المصادر الأساسية التي نشأ منها النموذج التحليلي الخاص بدراسات الاستعمار الاستيطاني. لكن المعروف أن هناك مجموعة من المحاولات المبكرة التي تمت العودة إليها وتطويرها، وصار هذا التوجه النظري رائجًا ومحل اهتمام أكاديمي، بعد تطويره من قبل مجموعة من الباحثين في تاريخ الاستعمار. وقد بدا هذا النموذج نوعًا من الدراسة المقارنة لتاريخ الاستعمار في أستراليا والأمريكيتين وفلسطين ومناطق أخرى من العالم.
على عكس الاستعمار التقليدي، لا يدور الاستعمار الاستيطاني حول دولة أم ومصالحها الإمبريالية. ولكن حول المستوطنين أنفسهم بشكل أساسي
بدأ النقاش الرائج عن دراسات الاستعمار الاستيطاني في السنوات الأخيرة، في أواخر التسعينات من القرن الماضي تحديدًا، من خلال مجموعة من المنظرين الذين جادلوا أن الإطار النظري لدراسات "ما بعد الاستعمار" ليس كافيًا لفهم تجارب استعمارية عديدة، كما أنه غير مناسب لفهم الهيمنة المستمرة في أماكن مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، حيث الاستعمار ليس شيئًا من الماضي، فالمستوطنون جاءوا للبقاء، مما أدى إلى تشريد الشعوب الأصلية وإدامة الآليات التي لا تزال تمحو حياة وثقافات وتاريخ السكان الأصليين[1].
اقرأ/ي أيضًا: حوار| لورنسو فرتشيني: قانون القومية مؤشر على أزمة إسرائيل الاستعمارية
وانطلق الإطار الجديد بشكل أساسي من التفريق الحاسم بين الاستعمار الذي يقوم على الاستغلال الاقتصادي، ويتم بطريقة مباشرة من خلال الدولة الأم، ويعتمد على مستعمرين "رُحل" وموظفين، يغادرون بعد انتهاء فترة خدمتهم، وبين نماذج يغيب فيها هذا الدور المباشر للدولة الأم، ويكتسب فيه المستوطنون، ممن أتوا ليبقوا، الدور الأساسي.
ورغم رواج هذا النموذج في الفترة الأخيرة، فإن هناك آراء مبكرة كانت قد استخدمته. ويعتبر فايز صايغ مثلًا، من أوائل من تطرقوا لهذا المفهوم عربيًا، وتتم العودة إلى أفكاره والاستشهاد بها من جديد في النقاشات عن الاستعمار الاستيطاني. تكمن أهمية كتاب فايز صايغ "الاستعمار الصهيوني في فلسطين[2]" بالنسبة للباحثين ممن يتبنون نموذج دراسات الاستعمار الاستيطاني، بأنه يتضمن معظم المحاور التي يشير إليها هذا المفهوم.
على أية حال، فقد تكثف حضور هذا النموذج النظري من خلال مجموعة من المساهمات النقدية المقارنة للاستعمار، ثم مجموعة من المنظرين المتخصصين على غرار باتريك وولف ولورنسو فرتشيني وسوزان بيدرسون وإيلان بابيه وآخرين، ومن خلال تأسيس مجلة مختصة، هي مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني settler colonial studies، التي تأسست في عام 2010، وتضمنت أعدادًا ودراسات حول الصراع العربي الإسرائيلي.
وتم تبني الإطار نظريًا لوصف الحالة الفلسطينية الإسرائيلية من خلال باحثين عرب وفلسطينيين، مثل مجيد شحادة، وهنيدة غانم، ورشيد الخالدي وعمر سلمنكا، وجوزيف مسعد، ونادرة شلهوب، وسهاد ظاهر/ناشف، وأريج صباغ/خوري، ونديم روحانا، وجميل هلال، وهيفا راشد ووليد حباس، وغيرهم.
تتلخص ميزات الاستعمار الاستيطاني من وجهة نظر دارسيه، من خلال بعض المحاور الأساسية، وهي:
- لا يسعى إلى استغلال السكان الأصليين اقتصاديًا، ولكنه يسعى إلى محوهم أو إلغائهم بشكل أساسي، وتتميز أي علاقة معهم بأنها إقصائية. حيث إنه كما يرى باتريك وولف، وعلى عكس أشكال الاستعمار الاستغلالية، لا يسعى إلى كسب فائض قيمة عمل السكان الأصليين، وإنما يحوم بشكل أساسي حول السيطرة على الأرض والبقاء فيها، وإعادة إنتاج العلاقة معها[3].
- تتنوع آلياته للقضاء على وجود السكان الأصليين ومحوهم أو ترحيلهم. فالإلغاء لا يعني الإبادة البيولوجية بالضرورة، وإنما يتضمن عمليات الاحتواء، والاستيعاب، والحجز في محميات، والتطهير الثقافي والهوياتي، والإبعاد، والتصميم الوراثي وفرض أنماط من التزاوج المختلط مع المستوطنين، لإنشاء أجيال متشابهة جينيًا مع المستوطنين، بالإضافة إلى أنماط أخرى[4].
- لا يرتبط دائمًا بمركز استعماري بشكل مباشر أو بدولة أم. ويبقى ارتباطه معها قصيرًا، بينما يستعيض عنها بالعلاقة "الدائمة" مع الأرض، وإنتاج مرويات تاريخية دينية عن العلاقة معها.
- على عكس الاستعمار التقليدي، لا يدور الاستعمار الاستيطاني حول دولة أم ومصالحها الإمبريالية. ولكن حول المستوطنين أنفسهم بشكل أساسي. وبالتالي فإن المستوطن "جاء ليبقى"، كما يقول وولف، أي أنه ليس مجرد موظف استعماري، سينهي عمله ويغادر. ويبقى ارتباطه مع المركز الاستعماري، مؤقتًا، خاضعًا للمصالح المشتركة، حيث يمكن أن يجتمع الاستعمار الاستيطاني، في علاقة استراتيجية مع "دول أم" عديدة، لكنه لا يكون مندوبًا لأي منها، وإنما يمثل مصالح المستوطنين أنفسهم[5].
- يرتكز الاستعمار الاستيطاني على الأرض بشكل أساسي. فهي الثيمة الأساسية فيه. ويدور الصراع بالأساس حولها، لأنها تمثل مرادفًا للبقاء. كما أن وجود السكان الأصليين فيها، يُرى باعتباره عائقًا أمام وجود المستوطنين، وتطويرهم لنمط حياة "حديث" واقتصاد منفصل عن المركز الإمبريالي، لكنه يحاكيه[6].
- الاستعمار الاستيطاني مشروع دائم وليس مؤقتًا. حيث إن المستوطنين جاءوا من أجل بناء دولة، وإنتاج علاقة مع الأرض، والبقاء فيها، على عكس الاستعمار التقليدي، القائم على استغلال السكان أنفسهم، ويرتهن بقاؤه ببقاء المصالح الاقتصادية والإستراتيجية المرتبطة بوجوده[7].
- الاستعمار الاستيطاني بنية وليس حدثًا. حيث إن عملية "إلغاء السكان الأصليين" عملية مستمرة ومتواصلة، وترتبط ببنية الاستعمار الاستيطاني. كما أن عمليات تغييب السكان الأصليين، سواء من الذاكرة الجماعية، أو المرويات التاريخية، ستبقى قائمة مع استمرار وجود المستوطنين. في الحالة الفلسطينية وحالات أخرى، يمثل بقاء جزء من الفلسطينيين على أراضيهم، فشلًا للمشروع الاستعماري الاستيطاني، بينما تمثل كل سياسات التهجير والاستيطان والضبط والاعتقالات، استمرارًا للإلغاء وللمشروع الاستعماري الاستيطاني. وتم وصف النكبة من قبل وولف وفرتشيني وآخرين، باعتبارها بنية، وليست حدثًا[8].
انتقادات
مع الرواج الدي اكتسبه نمودج دراسات الاستعمار الاستيطاني، كحقل جديد فعال في فهم تجارب استعمارية عديدة لم تنته، ولم يستطع حقل "ما بعد الاستعمار" فهمها، صدرت انتقادات عديدة للإطار النظري، اعتبرت أنه مهموم بدراسة المستوطنين، مع إغفال دور وفاعلية السكان الأصليين، مقترحة الإطار الخاصة بـ"دراسات الأصلانيين" كبديل[9]. كما أن هناك بعض المقاربات الماركسية، التي أدانت جعله للاقتصاد، هدفًا غير مركزي.
كما اعتبرت آراء أن تجربة الإدارة الاستعمارية في فلسطين، أكثر تركيبًا من أن يتم وصفها بشكل أحادي، من خلال إطار نظري واحد، حيث إن هناك تنوعًا في أنماط الإدارة الاستعمارية، تفتح الإمكانية لاستخدام أطر نظرية مثل الاحتلال والأربتهايد، وغيرها[10].
وفي حوار سابق مع "ألترا صوت"[11]، اعتبر لورنسو فرتشيني، ردًا على سؤال عن تلك الانتقادات، أنه "في ظل وجود هذا التنوع في النماذج المختلفة من السيطرة، نحتاج إلى العديد من الأدوات التفسيرية التي يمكننا تطويرها، كما أننا بحاجة إلى التمكن منها جميعها. قد نحتاج إلى الانتقال من أداة إلى أخرى، أو استخدام مجموعة متنوعة من الأطر التفسيرية في نفس الوقت. على عكس الاستعمار الاستيطاني، فإن دراسات الاستعمار الاستيطاني لا تقوم بالإلغاء أو الاستبدال. وإنما كان المقصود دائمًا منها المساهمة في النقاشات الجارية حول واقع الاستعمار؛ صوت واحد ضمن أصوات".
اقرأ/ي أيضًا: 4 كتب أساسية عن الاستعمار الاستيطاني
وحول دراسات السكان الأصليين كبديل عن دراسات الاستعمار الاستيطاني، اعتبر أن "دراسات السكان الأصلانيين، جاءت قبل دراسات الاستعمار الاستيطاني. ولا يمكن للمحاولات الفكرية اللاحقة أن توجد من دون المحاولات السابقة. لقد عرف صايغ عن الاستعمار الاستيطاني، وتعلمتُ شخصيًا الكثير من خلال قراءة أعماله. كل هذا في البال. لكني أرى أن دراسات السكان الأصليين ودراسات الاستعمار الاستيطاني يتكاملان، وبالتأكيد لا يتضادان. أحدهما يدرس جماعة محددة؛ والآخر يدرس علاقة السيطرة".
الاستعمار الاستيطاني بنية وليس حدثًا. حيث إن عملية "إلغاء السكان الأصليين" عملية مستمرة ومتواصلة، وترتبط ببنية الاستعمار الاستيطاني
مضيفًا: "كيف يمكنك أن تفعل أحدهما دون الآخر؟ هل يمكنك التحدث عن فلسطين أو الأصلانية دون الإشارة إلى الهيمنة؟ هل يمكنك التحدث عن الاستعمار الاستيطاني دون الإشارة إلى الأصلانية؟ يجب أن نقوم بكلا الأمرين، ونحن نقوم بكلا الأمرين".
المصادر
[1] Wolfe, P. (2006). Settler Colonialism and the Elimination of the Native. Journal of genocide research, 8(4), 387-409
[2] Sayegh, F. (1967).Zionist colonialism in Palestine. Cairo: Permanent Secretariat of the Afro-Asian Peoples' Solidarity Organization
[3] Veracini, L. (2014). Understanding colonialism and settler colonialism as distinct formations. Interventions, 16(5), 615-633
[4] Wolfe, P. (2001). Land, labor, and difference: Elementary structures of race. The American Historical Review, 106(3), 866-905
[5] حباس، وليد. مفهوم الاستعمار الاستيطاني: نحو إطار نظري جديد. قضايا إسرائيلية. عدد 66.
[6] op. cit., footnote 1 above
[7] Ibid
[8] Salamanca, O. J., Qato, M., Rabie, K., & Samour, S. (2012). Past is present: Settler colonialism in Palestine. Settler Colonial Studies, 2(1), 1-8
[9] Barakat, R. (2018). Writing/righting Palestine studies: settler colonialism, indigenous sovereignty and resisting the ghost (s) of history. Settler colonial studies, 8(3), 349-363
[10] غانم، هنيدة. التأطير المركب لنظام هجين: جدلية الاستعمار الاستيطاني والاحتلال والأبارتهايد في فلسطين. في "هنيدة، غانم، ودكور، عازر (2018). إسرائيل والأبرتهايد: دراسات مقارنة. رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار.
[11] التميمي، عز الدين. "لورنسو فرتشيني: قانون القومية مؤشر على أزمة إسرائيل الاستعمارية". ألترا صوت 13/12/2018.