تعاني الولايات المتحدة الأميركية من الخور. ذلك ما تستنتجه الباحثة الأميركية في "مؤسسة هوفر"، وفي معهد الذكاء الاصطناعي بجامعة ستانفورد، إيمي زيغارت في مقالٍ مطولٍ نشرته مجلة "فورين أفيرز"، ربَطت فيه بين وضع خور القوة الذي تعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية تعاني منه، وفقدان أميركا للمعرفة التي كانت تعد مكمن قوتها.
تستهل إيمي زيغارت مقالها المطول بالحديث عما سمتها مفارقة الحرب الأوكرانية. فعلى الرغم من الدعم الأميركي الكبير لكييف، إلا أن واشنطن كانت تستبطن قناعةً أن صمود الأوكرانيين لن يطول كثيرًا. فعندما بدا غزو روسيا لأوكرانيا وشيكًا في أوائل عام 2022، كان مسؤولو الاستخبارات الأميركية واثقين جدًا من أن الدبابات الروسية ستتحرك بسرعة إلى النصر لدرجة أن الموظفين الأميركيين أخلوا السفارة الأميركية في كييف.
واتخذ قرار الإخلاء، حسب الباحثة، بناءً على المقاييس التقليدية للقوة. فبهذه المقاييس يكون تقييم الاستخبارات منطقيًا. ففي عام 2021، احتلت روسيا المرتبة الخامسة في العالم في الإنفاق الدفاعي، بينما جاءت أوكرانيا في المرتبة 36 خلف تايلاند وبلجيكا. ومع ذلك، بعد أكثر من عامين، لا تزال روسيا وأوكرانيا تخوضان حربهما الوحشية التي وصلت إلى طريقٍ مسدود.
يتعين على صناع السياسات في الولايات المتحدة التفكير بطرقٍ جديدة حول ما الذي يشكل عماد القوة الأميركية، وكيفية تطويرها ونشرها
إن مرونة أوكرانيا، وفق الكاتبة، هي مؤشرٌ واضح على أن القوة ليست كما كانت عليه في السابق. إن الأداء المفاجئ لكييف يرجع جزئيًا إلى سكانها المتعلمين تعليمًا عاليًا، وإلى نظام للابتكار التكنولوجي أنتج كميات هائلة من الطائرات بدون طيار وغيرها من الأسلحة محلية الصنع. بل إن أوكرانيا تمكنت من خوض حرب بحرية بدون بحرية باستخدام طائرات بدون طيار محلية الصنع، وأجهزة أخرى لتدمير ما يقرب من عشرين سفينة روسية، وحرمان روسيا من السيطرة على البحر الأسود.
من أين تبنع قوة الأمم؟
ظلّت قوة الأمم على مدى قرونٍ من الزمن تنبع من موارد ملموسة يمكن للحكومات إدراكها وقياسها والتحكم فيها، مثل أعداد المواطنين الذين بمقدورها تجنيدهم، والأراضي التي تستطيع إخضاعها، والأساطيل البحرية العسكرية التي يمكن نشرها، والسلع التي يتسنى لها عرضها أو تقييدها كالنفط مثلًا.
أما اليوم، فإن الدول تستمد قوتها من الموارد غير الملموسة المتمثلة في المعرفة والتقنيات التي تعمل على تعزيز النمو الاقتصادي والاكتشاف العلمي والإمكانات العسكرية، مثل الذكاء الاصطناعي، ويصعب على الحكومات السيطرة على هذه الموارد بسبب طبيعتها غير الملموسة وسهولة انتشارها عبر القطاعات والبلدان.
وبفعل التحولات الكبيرة، فإن المسؤولين الأميركيين لا يستطيعون، على سبيل المثال، الإصرار على استعادة خوارزمية ما من أحد خصوم الولايات المتحدة، على نحو ما فعلت إدارة الرئيس جورج بوش الابن عندما طالبت بكين بإعادة طائرة تجسسٍ أميركية كانت قد تحطمت في جزيرة هاينان جنوبي الصين في عام 2001.
كما لا يمكنهم أيضًا مطالبة مهندسٍ بيولوجي صيني بإعادة المعرفة التي اكتسبها من أبحاث ما بعد الدكتوراه التي أجراها في الولايات المتحدة، فالمعرفة هي أفضل سلاحٍ متنقل.
ولأن هذه الموارد عادةً ما تنشأ في القطاع الخاص والأوساط الأكاديمية، فإنها تجعل مهمة الحكومة أكثر صعوبة. فقرارات الشركات الخاصة بدأت تكون لها تبعاتٌ جيوسياسية، بحيث لم تعد مصالح القطاع الخاص تتوافق دائمًا مع الأهداف الوطنية. وضربت الباحثة الأميركية مثلًا على ذلك بشركة ميتا - الشركة الأم لفيسبوك وإنستغرام وواتساب - التي تصوغ الوقائع لنحو 3 مليارات شخص يستخدمون منصاتها في جميع أنحاء العالم.
وعندما اندلعت الحرب في أوكرانيا، قرر الملياردير الأميركي إيلون ماسك - مالك منصة إكس (تويتر سابقا) - بمفرده، ما إذا كان سيسمح للجيش الأوكراني باستخدام خدمة الإنترنت "ستارلينك" الخاصة به، وأين ومتى.
ومع تدهور العديد من قدرات الحكومة الأميركية، فقَدت أدواتُها التقليدية في السياسة الخارجية حيويتها وقوتها حتى باتت تعيينات الرئيس للمناصب العليا في الخارجية مثقلة بالمشاكل لدرجة أن ربع المناصب الرئيسية على الأقل ظلت شاغرة في منتصف الفترة الأولى لآخر 3 رؤساء أميركيين.
ولأول مرة على الإطلاق، ستنفق الولايات المتحدة هذا العام مزيدًا من الأموال لسداد فوائد الديون الفدرالية المتصاعدة أكثر مما ستنفقه على الدفاع.
ولأن الكونغرس لا يستطيع في كثيرٍ من الأحيان إقرار بعض الميزانيات السنوية، فإن وزارة الدفاع تعتمد بشكلٍ متزايد على تدابير ميزانية مؤقتة لسد الفجوة في تمويل البرامج القائمة فقط، وليس البرامج الجديدة، مما يَحول دون إطلاق مبادراتٍ جديدة في مجال البحث والتطوير أو برامج لتطوير الأسلحة.
إن هذا النظام المعطوب يعيق بشكل جائرٍ الشركات الجديدة والصغيرة التي تقدم حلولًا مبتكرة. ولهذا السبب تظل أنظمة الأسلحة الضخمة الباهظة الثمن قائمةً في حين تموت الحلول الجديدة الرخيصة في مهدها.
والأهم من ذلك أن المنظومة التعليمية من مرحلة الروضة حتى الثانوي والجامعات البحثية في الولايات المتحدة في تقهقر، رغم أنها تُعد مكامن الإبداع الطويل الأجل للبلاد.
وفي عالم اليوم الذي تحركه المعرفة والتكنولوجيا، يتعين على صناع السياسات في الولايات المتحدة التفكير بطرقٍ جديدة حول ما الذي يشكل عماد القوة الأميركية، وكيفية تطويرها ونشرها.
جاءت الولايات المتحدة عام 2022 في المرتبة 34 خلف سلوفينيا وفيتنام في برنامج التقييم الدولي للطلاب في الرياضيات
أي قدرات تعليمية وبحثية؟
لن يعتمد الرخاء والأمن في المستقبل كثيرًا على منع الخصوم من الحصول على التكنولوجيا الأميركية، بل على تعزيز القدرة التعليمية والبحثية للبلاد وتطويع التكنولوجيات الناشئة - بشكل أكبر - لخدمة المصالح الوطنية.
وعلى مدى عقود من الزمن، ظل صناع السياسات في الولايات المتحدة يستخدمون أدوات القوة الصلبة والناعمة للتأثير على الخصوم والحلفاء الأجانب. فقد استعانوا بالقوة الصلبة لتعزيز المصالح الأميركية، فعملوا على بناء القوة العسكرية واستخدموها لحماية الأصدقاء وتهديد الأعداء أو إلحاق الهزيمة بهم.
وبالقوة الناعمة نشروا القيم الأميركية وجذبوا اهتمام الآخرين بقضايا الولايات المتحدة. وما فتئت القوة الصلبة والناعمة مهمتين، ولكن لكونهما لا تحددان نجاح أي بلدٍ مثلما كانت تفعلها في السابق، فعلى الولايات المتحدة أن تعمل على توسيع قوتها المعرفية بتعزيز المصالح الوطنية من خلال استنهاض قدرة البلاد على توليد التكنولوجيا التحويلية.
تتألف قوة المعرفة من عنصرين أساسيين هما القدرة على الابتكار والقدرة على التوقع. ويتعلق العنصر الأول بقدرة الدولة على إنتاج وتسخير الاكتشافات التكنولوجية. أما العنصر الثاني فيتعلق بالاستخبارات. ويندرج جزء من هذا العمل في إطار المهمة التقليدية لأجهزة الاستخبارات المنوط بها الكشف عن نية الخصوم وقدراتهم على تهديد المصالح الأميركية.
ولكن مع تلاشي الحدود بين الصناعة المحلية والسياسة الخارجية، فإن وكالات الاستخبارات بحاجة كذلك إلى مساعدة الحكومة على فهم الآثار المترتبة على التكنولوجيات التي يتم تطويرها في الداخل.
ورغم أن الابتكار والتوقع عنصران قادران على تعزيز قدرات الجيش الأميركي وقوته الجاذبة، فإن المهمة الأساسية لقوة المعرفة تكمن في مدى قرب منتجيها من الوطن. وهذا ينطوي على حشد الأفكار والمواهب والتكنولوجيا التي تعين الولايات المتحدة وشركاءها على الازدهار، بغض النظر عما تفعله الصين أو أي عدو آخر.
ولعل من الصعب تحديد مكونات قوة المعرفة وقياسها، ولكن ذلك لا يمنع أن تكون نقطة البداية الجيدة هي الوقوف على مستويات الكفاءة التعليمية الوطنية. وتُظهِر الأدلة الدامغة أن القوى العاملة الحاصلة على تعليمٍ جيد تدفع النمو الاقتصادي الطويل الأجل.
ويشكل التركيز الجغرافي المتمثل في تجمع المواهب التقنية في مكان واحد أو منطقة جغرافية معينة، مؤشرًا آخر لقوة المعرفة، وهو ما يحدد أي الدول التي تتهيأ لطفرة في المجالات الحيوية.
إن قياس آفاق القوة لأي دولة على المدى البعيد يستوجب بالضرورة قياس مدى فاعلية جامعاتها البحثية. ورغم أن الشركات تلعب دورًا أساسيا في الابتكار التكنولوجي، فإن سلاسل توريد تلك الابتكارات تبدأ مبكرًا في مختبرات الجامعات والفصول الدراسية.
وبقدر ما يشكل التعليم والابتكار مفتاح قدرة الولايات المتحدة على فرض قوتها، فإن إمكانيات البلاد لا تزال تقف على أرضٍ هشة. فالتعليم من مراحل الأساس والثانوي في الولايات المتحدة يعيش في أزمة، فالتلاميذ اليوم يسجلون أسوأ العلامات في في اختبارات الكفاءة مقارنةً بما كانوا يسجلونه منذ عقود من الزمان، ويتخلفون عن أقرانهم في الخارج.
وتعاني الجامعات الأميركية أيضًا من صعوبات، إذ تواجه منافسةً عالمية متزايدة على المواهب، ونقصًا مزمنا في الاستثمار الفدرالي في الأبحاث الأساسية التي تشكل أهمية حيوية للابتكار في الأمد البعيد.
وبينما يتخلف الطلاب في الولايات المتحدة عن الركب، فإن أقرانهم في بلدان أخرى يتقدمون. فقد كشف برنامج التقييم الدولي للطلاب، الذي يختبر التلاميذ الذين تبلغ أعمارهم 15 عاما في جميع أنحاء العالم، أن الولايات المتحدة احتلت في عام 2022 المرتبة 34 في متوسط الكفاءة المهارة في الرياضيات، خلف سلوفينيا وفيتنام.
تتألف قوة المعرفة من عنصرين أساسيين هما القدرة على الابتكار والقدرة على التوقع
وفي المرحلة العليا، سجل 7% فقط من المراهقين الأميركيين أعلى مستوى من الكفاءة في الرياضيات، مقارنةً بنحو 12% من المتقدمين للاختبار في كندا و23% في كوريا الجنوبية.
إن سكان دول العالم الأخرى باتوا أكثر تعليمًا إلى حد كبير من المواطنين الأميركيين في العقود الماضية، مما أعاد رسم خريطة قوة المعرفة في هذه العملية. فقد تحسن أداء الجامعات الأجنبية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، حيث قدمت المزيد من البدائل لأفضل وألمع الطلاب.
وتظهر استطلاعات الرأي بالفعل أن حصة الطلاب الصينيين الذين يفضلون الدراسة في آسيا أو أوروبا بدلًا من الولايات المتحدة آخذة في الارتفاع.
وإذا أقدمت الصين على الحد من تدفق طلابها المتفوقين إلى الولايات المتحدة، فإن العديد من المختبرات والشركات الجامعية الأميركية ستواجه مشاكل خطيرة. وإزاء هذا الوضع، تتآكل ميزة الابتكار التي تتمتع بها الجامعات الأميركية على نظيراتها الأجنبية، حيث كانت تنتج أكثر البحوث العلمية التي يستعين بها العالم.
ما العمل؟
إنّ الجاذبية التي يتمتع بها القطاع الخاص تعزز الابتكار قصير الأجل والفوائد الاقتصادية، لكنها تستنزف أيضًا مصادر الابتكار في المستقبل.
يتطلب الأمر من الولايات المتحدة، كخطوةٍ أولى، تطويرَ قدراتها الاستخباراتية لمعرفة مدى تقدم أين تقف وأين تتخلف في مجال التقنيات الناشئة.
كما يتعين عليها إضفاء الطابع المؤسسي على الجهود الرامية إلى بناء علاقاتٍ أقوى مع الشركات والجامعات، مع توفير قنواتٍ لتبادل الخبرات بشكل أسرع وأكثر تواترًا، والاستثمار في البنية الأساسية الوطنية اللازمة للابتكار التكنولوجي.
والأمر الآخر المهم معرفتُه هو أنّ تعزيز قوة المعرفة لا يتوقف على تطوير قدراتٍ جديدة، بل يتعداه إلى إصلاح المشاكل التي تعتري نظام الهجرة في البلاد وميزانية الدفاع.
وبالتالي يتعين على الكونغرس أن يقر إصلاحات الهجرة للسماح لعددٍ أكبر من أفضل وألمع طلاب العالم بالبقاء والعمل في الولايات المتحدة بعد تخرجهم من الجامعات الأميركية، شريطة أن تكون هناك تدابير لحماية الملكية الفكرية الأميركية والحماية من مخاطر التجسس.
وأخيرًا، تحتاج الولايات المتحدة إلى إصلاح التعليم من رياض الأطفال إلى المرحلة الثانوية، والتحذير من مغبة تدهور هذا القطاع وما يمثله من تهديد لازدهار البلاد وأمنها وزعامتها العالمية في المستقبل.