أثارت تصريحات نُقلت عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مقابلة له مع قناة التلفزة ميدياست إيطاليا يوم الأحد، موجةً من الانتقادات الإسرائيلية تحديدًا ومن عدة دول أخرى. حيث قال لافروف في تعليقه بشأن وجود النازية الجديدة في أوكرانيا رغم كون الرئيس الأوكراني يهوديًا، إنه "يمكن أن تكون النازية موجودة في أوكرانيا ولو كان الرئيس يهوديًا"، متابعًا في إجابته على نفس السؤال "قد أكون مخطئًا، ولكن كان لدى أدولف هتلر دم يهودي أيضًا، وهذا لا يعني أي شيء على الإطلاق".
التصعيد يبدو أبعد من التصريحات نفسها، وربما يمكن فهمه في سياق التوازنات الإقليمية التي تحاول الحكومة الإسرائيلية الحفاظ عليها فيما يتعلق بأوكرانيا
تأتي هذه التصريحات من لافروف في الوقت الذي أحيت فيه إسرائيل يوم "ذكرى الهولوكوست والبطولة" الذي صادف يوم 28 نيسان/أبريل 2022، وهو تاريخ مختلف عن يوم الهولوكوست الدولي الذي يصادف 27 كانون الثاني/ يناير من كل عام.
أول الردود الإسرائيلية على تصريحات لافروف جاءت من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت، حيث قال بيان صادر عن مكتبه "إنني أتعامل بحزم مع تصريحات وزير الخارجية الروسي، أقواله غير صحيحة ونواياه غير أخلاقية"، مضيفًا "أن الهدف من هذه الأكاذيب هو اتهام اليهود أنفسهم بأبشع الجرائم في التاريخ، التي ارتكبت ضدهم، وإعفاء أعداء إسرائيل من المسؤولية".
تصريحات بينيت الذي فضل السكوت طويلًا، هي الأولى منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، التي يقدم فيها إدانةً واضحة لموسكو. حيث تابع البيان قائلًا بأنه "لا توجد حرب في عصرنا مثل الهولوكوست أو يمكن أن تقارن بها، واستخدامها كأداة سياسية ضد اليهود يجب أن يتوقف". أما وزير الخارجية الإسرائيلي ورئيس الوزراء المناوب يائير لابيد فقد قال إن "تصريحات لافروف لا تغتفر ومخزية، وخظأ تاريخي فظيع". مضيفًا "لم يقتل اليهود أنفسهم في الهولوكوست"، مشيرًا إلى أن هذه التصريحات هي أكثر أشكال العنصرية ضد اليهود انحطاطًا، إذ تلقي اللوم عليهم في الجرائم التي جرت بحقهم.
من جانبه قال رئيس مؤسسة ياد فاشيم (مؤسسة إسرائيلية تبحث في أحداث الهولوكوست)، إن تصريحات وزير الخارجية الروسي تحول الضحايا إلى مجرمين على أساس ترويج ادعاء غير صحيح عن أن هتلر كان من أصل يهودي. كما أدان وزير الخارجية الأوكراني دميترو كولبيا التصريحات، قائلًا "لا يستطيع لافروف إخفاء المعاداة للسامية المتجذرة لدى النخب الروسية".
وانتقدت تصريحات لافروف من قبل وزارة الخارجية الأمريكية على لسان المتحدث باسمها نيد برايس الذي قال إن تصريحات لافروف "دنيئة وتمثل أدنى أشكال العنصرية والدعاية والأكاذيب الخبيثة". فيما أشار برايس إلى تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد باعتبارها أفضل رد على لافروف، مضيفًا "الكرملين يثبت باستمرار أنه لا قاع لهبوطه وهذا أحدث مثال على ذلك". كما علق وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على التصريحات بقوله "يتعين على العالم أن يتحدث علنًا ضد مثل هذا الخطاب الدنيء والخطير". كما انتقدها رئيس الوزراء الإيطالي والكندي ومفوض شؤون الحياة اليهودية في الحكومة الألمانية.
اجتزاء متبادل
بالعودة إلى تصريح سيرجي لافروف كاملًا، فقد جاء الجزء الإشكالي في إجابة وزير الخارجية الروسي ضمن رده على تعليق من محاور فيما يتعلق بتبريرات الحرب الروسية على أوكرانيا. إذ أشار إلى القلق من توسع الناتو وحظر اللغة الروسية وظهور النازيين الجدد، ليرد المحاور مشيرًا إلى أن الرئيس الأوكراني لا يرى أي معنى في الحديث الروسي عن محاربة النازية، مضيفًا أن زيلنسكي يهودي وأن النازيين في كتيبة آزوف هم عدة آلاف.
وفي سياق رد الوزير الروسي على سؤال المحاور، أشار إلى أن المعتقلين من كتيبة آزوف ووحدات أخرى كانوا يرتدون صلبانًا معقوفة وحملوا شعارات الكتائب النازية من الرايخ الثالث سواء على ملابسهم أو كوشوم على أجسادهم. أما النص الإشكالي فقد جاء عندما قال إن "حجة زيلنسكي هي: كيف يمكن أن تكون هناك نازية في أوكرانيا إذا كان يهوديًا؟ قد أكون مخطئًا ولكن كان لأدولف هتلر دم يهودي أيضًا. هذا لا يعني شيئا على الإطلاق. يقول الشعب اليهودي الحكيم إن أكثر المعادين للسامية حماسةً هم عادةً يهود. وكما نقول لكل عائلة خروفها الأسود"، وهو مثل يُقال للإشارة إلى وجود أفراد ضمن الجماعة يختلفون عن الأغلبية.
هذه التصريحات الكاملة غابت في جل التغطية الإعلامية، إذ تم تداول مقاطع محددة، فيما عملت إسرائيل على استغلال الحدث من أجل تعزيز سرديتها عن الهولوكوست باعتبارها وريثًا شرعيًا للضحايًا، ولكن أيضًا لتعزيز توازنات إقليمية.
بناءً على هذه التصريحات من لافروف، استدعت وزارة الخارجية الإسرائيلية، السفير الروسي في إسرائيل وأبلغته بموقفها من التصريحات، فيما اتفق الجانبان على عدم مناقشة الأمر علنًا والإبقاء عليه ضمن المسارات الدبلوماسية، بحسب صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية. رغم ذلك، يظهر أن وزارة الخارجية الروسية تتمسك بتصريحات لافروف، كما ردت علنًا على الانتقادات الموجهة لها. فقد أصدرت اليوم الثلاثاء بيانًا قالت فيه إن إسرائيل تدعم النازيين الجدد في أوكرانيا، وإن تصريحات يائير لابيد معادية للتاريخ وتفسر دعم الحكومة الإسرائيلية لنظام النازيين الجدد في كييف. وأعاد البيان الإشارة إلى أن أصول زيلنسكي اليهودية لم تمنع النازيين الجدد من إدارة أوكرانيا، مضيفًا أن معاداة السامية لا تقتصر على الحياة اليومية في أوكرانيا بل يتم دعمها من قبل نظام الحكم. ولم يتطرق البيان إلى حديث لافروف خلال مقابلته الصحفية عن هتلر، في اجتزاء مقابل.
كيف نفهم ما حدث في سياق التوازنات الإسرائيلية حول حرب أوكرانيا؟
هذا التصعيد، يبدو أبعد من التصريحات نفسها، وربما يمكن فهمه في سياق التوازنات الإقليمية التي تحاول الحكومة الإسرائيلية الحفاظ عليها فيما يتعلق بالحرب الروسية على أوكرانيا. كانت إسرائيل منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، قد اتخذت مواقف أقل حدة ضد موسكو، مما وجهت لها العديد من الانتقادات في حينه، ورفضت إرسال أسلحة لأوكرانيا، وبررت ذلك طوال الوقت بمحاولتها لعب دور الوسيط بين موسكو وكييف من أجل التوصل لاتفاق إنهاء الحرب، مع ارتباط ذلك في سياق متشابك من المصالح الإسرائيلية مع روسيا، وبالأخص فيما يخص حرية العمل الإسرائيلي في سوريا وتقديم إسرائيل نفسها كوسيط عالمي بالإضافة إلى مصالح المرتبطة بقطاع الصناعات العسكرية.
مؤخرًا، أشارت تقارير حديثة إلى زيادة المساعدات الإسرائيلية إلى أوكرانيا بما فيها العسكرية، إلّا أن هذه المساعدات لا تحتوي على أي أسلحة هجومية، بل اقتصرت على مساعدات مكملة مثل معدات الرؤية الليلة والسترات الواقية. وهو تحول تدريجي في الموقف الإسرائيلي الذي كان يرفض إرسال مساعدات عسكرية، إذ اقتصرت المساعدات على الجوانب المدنية والإنسانية.
لم يعبر هذا التوجه عن انقلاب إسرائيلي تام في الموقف الذي اتخذ مسبقًا من الحرب في أوكرانيا، رغم الميل الجزئي نحو إدانة محدودة وخطابية للحرب الروسية نتيجةً للضغوط الدولية، ووجود أفراد في المستوى العسكري والسياسي يميلون إلى اتخاذ موقف أكثر وضوحًا، وأيضًا خشية إسرائيل أن تفقد الصناعات العسكرية الإسرائيلية سمعتها في العالم. رغم هذا الميل، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت رفض إدانة الغزو بشكلٍ واضح، وتهرب من ذلك عدة مرات، مع التأكيد على دعم الشعب الأوكراني، فيما ترك هذه المهمة إلى مستوى وزير الخارجية يائير لابيد الذي يتوافق مع بينت على سقف الخطاب الموجه ضد روسيا، لكنه كان قد أشار قبل شهر إلى أن روسيا قد ارتكبت جرائم حرب في أوكرانيا.
بالتوازي، تسعى إسرائيل للحفاظ على خط متوازن ومتحفظ بشأن الحرب الروسية، حيث ترفض تحويل الإدانات الكلامية إلى جهود على أرض الواقع. على سبيل المثال، رفضت تل أبيب اتخاذ عقوبات ضد رجال أعمال روس أو قطع العلاقات الدبلوماسية معهم. كما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي موسكو وكان على اتصال مستمر مع الرئيس فلاديمير بوتين في الفترة الماضية. من الطرف الآخر، ردت موسكو على ذلك من خلال عدم تصنيف إسرائيل ضمن الدول غير الصديقة التي يحتاج التعامل معها إلى موافقة حكومية.
كما أن موسكو تحاول التأكيد على هذا التوازن بنفس الطريقة ومن خلال ملفات إقليمية أخرى. على سبيل المثال، ردت روسيا على كل موقف إسرائيلي معارض للحرب في أوكرانيا من خلال تعليقات بشأن العمليات الإسرائيلية في سوريا والأراضي الفلسطينية. في اليوم الأول للحرب وبعد إدانة إسرائيل غير الصريحة للهجوم على أوكرانيا، أشارت البعثة الروسية في الأمم المتحدة إلى أن موسكو تعتبر أن الجولان السوري المحتل جزء لا يتجزأ من سوريا، مشيرةً إلى القلق من المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية في الجولان. وعقب تصريحات لابيد حول ارتكاب روسيا جرائم حرب في أوكرانيا، تحدث الرئيس الروسي ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس هاتفيًا، وأشار بوتين خلال المكالمة إلى رفضه الممارسات الإسرائيلية التي تحول دون وصول المصلين إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، فيما أكد على موقف روسيا الداعم للقضية الفلسطينية. وبعدها بأيام تحدث وزير الخارجية الروسي مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية.
ضمن هذا المسار، تبدو تصريحات لافروف فرصة بالنسبة للحكومة الإسرائيلية لتعزيز الجبهة الكلامية مع روسيا على حساب الواقع على الأرض، حيث لا يزال موقفها المتحفظ بشأن الحرب في أوكرانيا غير مرضٍ لحلفائها في بروكسل وواشنطن. وفي هذا السياق، فإن حربًا كلامية وإن اتصلت بغزو أوكرانيا، لكنها منفصلة عن الموقف منه، تبدو فرصة متاحة أمام الإدارة الإسرائيلية التي تواجه أزمة داخلية حادة، إذ يمكنها الانخراط في الاستقطاب الأوروبي الأمريكي ضد الحرب على أوكرانيا، لكن بدون أي تغيير في سياساتها المتحفظة بشأن هذا الملف على أرض الواقع.
وفي حين يبدو من تصريحات المسؤولين الأوروبيين أنهم يرون في الأزمة فرصة لنزع الشرعية عن التحركات الروسية في أوكرانيا، فإن التصريحات الإسرائيلية حرصت على عدم التعليق على الأمر، والتأكيد على أن القضية مرتبطة بتاريخ الهلوكوست واللاسامية وحسب. في صورة تبدو مرضية أكثر لحلفاء إسرائيل الغربيين، لكنها لا تنقلب على التوازنات التي تديرها تل أبيب مع موسكو في نفس الوقت، منذ بدأت التلويح بنيتها غزو كييف.
يبدو من تصريحات المسؤولين الأوروبيين أنهم يرون في الأزمة فرصة لمزيد من نزع الشرعية عن التحركات الروسية في أوكرانيا
هذه الاستراتيجية لا تبدو نابية عن سياسات الخارجية الإسرائيلية بشأن مسألتي الهلوكوست ومعاداة السامية، حيث إن تاريخًا طويلًا من الانتقائية ميز هذه السياسات. فليس بعيدًا عن الاتحاد الأوروبي، تساهلت إسرائيل مع تصريحات معادية للسامية من قبل حلفائها في اليمين المتطرف في شرق القارة. ناهيك عن استثمار ملف معاداة السامية في ترتيب التحالفات الإقليمية والدولية طوال العقود الماضية.