تفاقمت في الأسابيع الأخيرة حدة الخلافات داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل، بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بعد أن هدد عضو مجلس الحرب، بيني غانتس، بالاستقالة من الحكومة إذا لم تجرِ الموافقة على خطة لغزة ما بعد الحرب بحلول 8 حزيران/يونيو 2024. وكان وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، أعلن قبل ذلك أنه لن يوافق على حكم إسرائيلي عسكري في غزة بعد انتهاء الحرب، وأنه طلب تشكيل هيئة حكم بديلة من ـحركة "حماس"، لكنه لم يتلقَّ ردًا من نتنياهو. وقد باتت مسألة اليوم التالي للحرب في قطاع غزة تمثل نقطة الخلاف الرئيس في صفوف القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية، على الرغم من أن الخلافات تمتد لتشمل قضايا أخرى، مثل اتفاق تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس، وتعيين كبار قادة الجيش والأجهزة الأمنية، ومسألة سنّ قانون تجنيد اليهود الحريديم، وتشكيل لجان التحقيق في الفشل الأمني والاستخباراتي والعسكري يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
مسألة اليوم التالي للحرب
منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزة، تبنى نتنياهو المواقف الأشدّ تطرفًا وعدوانية داخل ائتلافه الحكومي إزاء الشعب الفلسطيني؛ فدعا إلى تهجير الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء، ونشط سياسيًا ودبلوماسيًا على الصعيد الدولي لتحقيق هذا الهدف، بيد أنه فشل في ذلك. ويتمسك نتنياهو بهدف القضاء على حكم حماس وقوتها العسكرية في قطاع غزة، ويرفض تقديم رؤية لكيفية انتهاء الحرب، أو تحديد الفترة التي ستستغرقها، علمًا أنه يسعى لإطالة أمدها ما أمكن، أملًا في تحسين شعبيته وشعبية حزبه وائتلافه الحكومي، التي انهارت عشية هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
ومنذ الأيام الأولى، رفض نتنياهو الرؤية الأميركية لليوم التالي للحرب على قطاع غزة، والتي دعت إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع بعد تحقيق أهداف الحرب، وإعادة السلطة الفلسطينية "المجددة" أو "المستصلحة" إليه. وأكد نتنياهو مرارًا رفضه لإنشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتمسك بالسيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع لفترة زمنية غير محددة.
ونتيجة الضغط المستمر لتقديم تصور عن اليوم التالي للحرب في قطاع غزة، من جانب الإدارة الأميركية والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، طرح نتنياهو في 23 شباط/ فبراير 2024، أي بعد أكثر من أربعة شهور من بدء الحرب، تصوره لليوم التالي في وثيقة مقتضبة لم يوضح فيها كيفية انتهاء الحرب وتوقيته. وأشارت الوثيقة إلى أنه "بعد القضاء على حكم حماس وقوتها العسكرية في قطاع غزة"، تأتي مرحلة انتقالية غير محددة زمنيًا، يخضع فيها القطاع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، تمامًا كما هي الحال في الضفة الغربية المحتلة، وتقوم إسرائيل خلال هذه المرحلة الانتقالية بعمليات عسكرية في جميع أنحاء القطاع وقت ما تشاء، وستبني كذلك جدارًا أمنيًا فوق الأرض وتحتها يمتد على الحدود بين قطاع غزة ومصر، وستعمل على إنهاء نشاط وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في القطاع. أما مسألة إعادة اعمار قطاع غزة فستجري فقط بعد نزع السلاح من القطاع، بوساطة دول تقبلها إسرائيل. وعلى صعيد الإدارة المدنية للقطاع، رأت الوثيقة أن هذه الإدارة سوف تستند قدر الإمكان إلى عناصر محلية غير مرتبطة بدول أو بأجسام تؤيد "الارهاب".
مقترح الحكم العسكري المباشر
بعد الفشل في إقامة إدارة مدنية من سكان محليين في قطاع غزة، تكون بديلًا من حكم حماس، وفي ضوء عودة سيطرة حماس على المدن والمخيمات والبلدات التي ينسحب منها الجيش الإسرائيلي، تفجر خلاف حاد بين نتنياهو وأنصاره من اليمين المتطرف والفاشي من ناحية، والمؤسسة العسكرية والأمنية من ناحية أخرى، بشأن مسألة توفير بديل من حكم حماس في القطاع. فقد أكدت المؤسسة العسكرية والأمنية أن عدم طرح بديل من حكم حماس في اليوم التالي للحرب، والذي يجب الشروع في بلورته حالًا، كي يحل محل حماس في الأماكن التي ينسحب منها الجيش الإسرائيلي، يفتح المجال واسعًا لعودة سيطرة حماس في كل مرة ينسحب فيها الحيش الإسرائيلي؛ ما يستدعي العودة إلى احتلالها مجددًا، وهو ما لا يستطيع الجيش الإسرائيلي الاستمرار فيه. وفي مواجهة ذلك طلب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، عقد اجتماع بين المؤسسة العسكرية ونتنياهو، من أجل وضع استراتيجية شاملة لإدارة المواجهات الدائرة في الجنوب والشمال على الحدود مع لبنان بما في ذلك معالجة مسألة اليوم التالي للحرب في قطاع غزة. بيد أن نتنياهو رفض عقد هذا الاجتماع. بعد ذلك، اقترح العميد رومان غوفمان، في وثيقة صاغها في نيسان/ إبريل 2024، في أثناء فترة عمله القصيرة في وحدة تنسيق أعمال الحكومة في الأراضي المحتلة، التابعة للجيش الإسرائيلي، إقامة حكم عسكري اسرائيلي مؤقت في قطاع غزة، بديلًا من حكم حماس. ووزع هذه الوثيقة على أعضاء المجلس الأمني المصغر. وقد أولى نتنياهو الوثيقة اهتمامًا خاصًا، وعيّن على الأثر العميد غوفمان سكرتيرًا عسكريًا لرئيس الحكومة.
موقف غالانت والمؤسسة العسكرية
أثار رفض نتنياهو المستمر لإجراء بحث معمق لليوم التالي للحرب، وتعيين غوفمان سكرتيرًا عسكريًا لرئيس الحكومة، شكوكًا قوية في المستويين العسكري والسياسي، بأن نتنياهو يسعى لإقامة حكم عسكري إسرائيلي في قطاع غزة؛ وهو الأمر الذي لم ينفه أو يؤكده. لذا، طلب غالانت في 15 أيار/مايو 2024 من نتنياهو الإعلان أن إسرائيل لن تقيم حكمًا عسكريًا في القطاع، ورأى أن رفض نتنياهو إجراء بحث معمق في مسألة اليوم التالي للحرب، لإيجاد بديل من حكم حماس في القطاع، يعني أنه يسعى لإقامة حكم عسكري إسرائيلي فيه، وهو "أمر خطير وسيئ لإسرائيل"؛ إذ سيستنزف ذلك قدرات إسرائيل العسكرية والأمنية، في الوقت الذي تواجه فيه تهديدات استراتيجية أخرى أهمّ من المخاطر القائمة في القطاع. وبناء عليه، هدد غالانت بالاستقالة من منصبه إذا فرض نتنياهو حكمًا عسكريًا على القطاع.
وتسربت وثيقة وضعتها المؤسسة العسكرية إلى وسائل الاعلام الإسرائيلية بشأن البدائل من حكم حماس في قطاع غزة، أكدت أن إقامة حكم عسكري إسرائيلي هو الخيار الأسوأ بالنسبة إلى إسرائيل، وأنه يستدعي تخصيص قوة عسكرية كبيرة يصعب على الجيش الإسرائيلي توفيرها، ويتطلب ذلك أيضًا استدعاء قوات الاحتياط للخدمة فترة أطول في الجيش، وأن كل ذلك سيأتي على حساب الجبهات الأخرى التي تواجهها إسرائيل. وأشارت الوثيقة إلى أن تكلفة الحكم العسكري السنوية في قطاع غزة ستبلغ نحو 20 مليار شيكل في السنة (الدولار يساوي 3.66 شيكلًا إسرائيليًا)، إلى جانب الخسائر في الأرواح التي سيتكبدها الجيش.
وحذرت وثيقة أخرى كتبها نائب رئيس هيئة الأمن القومي يورام حمو، عشية استقالته من منصبه، وجرى تسريب أجزاء منها إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية، من أن عدم إيجاد بديل من حكم حماس، وإقامة حكم عسكري إسرائيلي في القطاع، سيقود مع مرور الوقت إلى عودتها للحكم فيه.
إنذار غانتس بالانسحاب من الحكومة
بعد ثلاثة أيام من تهديد غالانت بالاستقالة من منصبه، إذا ما اتخذ نتنياهو قرارًا بفرض حكم عسكري على قطاع غزة، وجّه غانتس إنذارًا إلى نتنياهو، دعاه فيه إلى إجراء تغيير استراتيجي في سياسته، وإلا فإن حزب "المعسكر الرسمي" سوف ينسحب من الائتلاف الحكومي في فترة أقصاها 8 حزيران/يونيو 2024. وطلب منه أن يقر خطة في اجتماع كابينت الحرب لتحقيق ستة أهداف، هي: أولًا، إعادة المحتجزين الإسرائيليين في أقرب وقت. ثانيًا، القضاء على حكم حماس وقوتها العسكرية في قطاع غزة وتجريد القطاع من السلاح وضمان السيطرة الأمنية الإسرائيلية عليه. ثالثًا، إقامة إدارة أميركية – أوروبية -عربية - فلسطينية لإدارة قطاع غزة مدنيًا، تكون خالية من "حماس وعباس". رابعًا، إعادة المهجرين الإسرائيليين من سكان الشمال إلى بلداتهم في فترة أقصاها 1 أيلول/ سبتمبر 2024. خامسًا، دفع التطبيع مع السعودية قدمًا، في إطار رؤية شاملة لخلق تحالف يشمل الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية وإسرائيل ودول عربية ضد إيران. سادسًا، سن قانون الخدمة العسكرية الذي يعالج خدمة اليهود الحريديم في الجيش الإسرائيلي الذي يضمن خدمة متساوية لجميع الإسرائيليين.
وباستثناء موقفه المؤيد لخدمة الحريديم في الجيش، فإن المواقف التي حددها غانتس في إنذاره نتنياهو بشأن قطاع غزة تتفق في جوهرها مع مواقف اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل؛ فهي تدعو إلى استمرار السيطرة الأمنية على القطاع بعد القضاء على حكم حماس وترفض عودة السلطة الفلسطينية إليه، وتدعو إلى أن تكون "الإدارة المدنية" في قطاع غزة خالية من "حماس وعباس" متناغمة بذلك مع شعار نتنياهو الرافض لوجود "حماستان وفتحستان" في القطاع.
من الواضح أن الأهداف الستة التي اشترطها غانتس جاءت أساسًا غطاءً لتبرير انسحاب حزبه "المعسكر الرسمي" من الائتلاف الحكومي، من دون أن يخسر ناخبيه المحتملين الذين يتبنون مواقف اليمين واليمين المتطرف، ولكنهم لا يريدون التصويت لنتنياهو. فاستطلاعات الرأي العام تظهر أن نحو 50 في المئة من المصوتين لحزب "المعسكر الرسمي" يريدون أن يبقى غانتس في الائتلاف الحكومي.
خاتمة
من غير الواضح تأثير المواقف التي اتخذها الوزيران في كابينت الحرب، غالانت وغانتس، في سياسة نتنياهو تجاه جملة من القضايا، سواء أكان ذلك يتعلق بمسألة اليوم التالي للحرب أم بعقد صفقة تبادل للأسرى بين إسرائيل وحماس قبل توسيع الهجوم على رفح، أم بمسألة اتخاذ القرار بتوسيع الهجوم العسكري الإسرائيلي على رفح. لكن الأكيد أن الضغوط تتزايد على نتنياهو من جانب المؤسسة العسكرية والأمنية ومن داخل كابينت الحرب وقيادة الوفد الإسرائيلي المفاوض لتبادل الأسرى، وأهالي المحتجزين الإسرائيليين، والإدارة الأميركية؛ من أجل تليين موقفه في قضية تبادل الأسرى، وقبول صيغة تسمح بوقف الحرب توافق عليها حماس. وقد ازدادت هذه الضغوط بالتأكيد بعد طلب الادّعاء في المحكمة الجنائية الدولية إصدار أمر اعتقال في حق نتنياهو وغالانت، وقرار محكمة العدل الدولية الداعي إلى وقف العدوان الإسرائيلي على رفح، وإن كان تأثير هذه الضغوط لم يتبلور بعد.