"هل عليّ أن أُعقلن كآبتي؟
لأجل ماذا، طالما أنّ العقلنة تتطلّب مجهودًا؟
من هو حزين ليس بمقدوره بذل هذا المجهود."
- فيرناندو بيسوا، كتاب اللاطمأنينة
ندلق أرواحنا في سفن مبحرة نحو العدم. نتطلّع الى الآفاق التي احمرّت كعيني صبيّة ذرفت دموعًا كموج البحر يوم الوداع. في هذه الأرض، ينبت زرع يأكل منه الناس وزهور يتأمّلون جمالها ويكتبون عنها شعرًا. لكن، هناك في أقاصي زوايا الوجع المظلم، تنبت انكسارات وتمثّلات عن ترك الحياة. أفكار تتسابق الى الذهن تخدّر الجسد كحقن منومة وتحمله في رحلة ألف ليلة وليلة في بحر من الشقاء.
(الوجوه بيضاء
منقطعة عن نور الكون.
على أبر الوجع تقف عجوز بأقدامها الدامية
تترقب قوتا لن ينزل من السماء..)
ماذا يعني أن ندلق أرواحنا كما يُدلق الماء في الساقية؟
كلّ الظلمات تتّحد وتعبر ذوات البشر، تغلق حياتهم كدفتر الحالة المدنيّة المهترئ وتنتظر وقع خطى الجنود على السحاب. ريشة تطفو فوق النّهر، تتقاذفها التيارات المائيّة من مكان الى آخر لتصل بها الى الهاوية. هنا، يكون الانسان متأرجحًا بين اتّخاذ القرار أو العودة إلى السبات، بين قتل الخصم أو اتّباع شياطين الشّر الكامنة في ركن قصيّ في دهليز القدر. تقرفص في الظلام الموحش وتشير ببنانها الى أشباح العدم التي تتراقص على وقع الفراغ كأنّها في حفلة راقصة من القرن الماضي.
يهوى الإنسان الغرق في اللامعنى، تعوّد ذلك منذ بداية البدايات. ينزل من بطن أمّه باكياً رافضا الخضوع لقوانين هذا السجن البلوريّ الذي يعلم مسبقًا أنّه لن يقدر على كسره أو تجاوزه.. لكن رغم ذلك يستنزف قواه ويقضي حياته في المحاولة متجاهلًا ذلك الصوت الداخليّ الذي يذكّره، في كلّ مرّة، بوهنه ويعرض أمامه صور ضعفه كقطعة لحم نتنة.
(ماذا لو ثَقَبْتُ السماء؟
ماذا لو ركبتُ رياح أسئلتي
وصعدت بمساميري ومطرقتي
لأدقّ قلقي على صليب الرجاء؟)
تمضي الأيام متتالية كشريط مملّ يعاد ملايين المرات بتفاصيله التي تمثّل عالمًا تتسيّده العتمة والسكون. يحمل الانسان أوجاعه في فمه لتقيئها في أوّل الطريق ثمّ يعيد ازدرادها بنهم. يجثو الوجود على قلبه كالصخرة على صدر بلال الحبشيّ، يحاول أن يكفر بآلهتهم ولكنّ الوقت فات، وصوته تنكّر له في هيئة مهرّج نزقٍ يسخر منه مبتعدًا ببطء نحو الضفّة الأخرى من النّهر. يُقذَفُ من قعر جبّ مقيّد بأغلال من نار، يرتطم بأحجار مدبّبة فيتناثر قطعًا صغيرة كحبات رمل عَلِقَتْ بعجلات العربات المارّة من الطريق المحاذي للشاطئ. يحاول ان ينزع غضبه ويضعه في قوارير زجاجيّة يرفقها برسائل الى أولئك القابعين في جزر مهجورة منذ عقود. يريد أن يشاركهم حكاياته ومصائبه. يسكب دموعه في آنية من الفخار ويتركها تنشف لتتبخّر وتتحوّل الى نشيم تتنفّسه الجماجم التي تحدّق فيه منذ الأزل. خبرها واعتاد تجهّمها كأنّها تعبّر عن ضجرها من الحياة الأخرويّة. هو يفضّل البقاء بين الحياة والموت.. لطالما كان حائرًا بين خيارين لا يقدر على الحسم فيهما. الحسك أمر صعب لا يتّخذه سوى من تحجّرت مشاعره ودفعها في صالون منزله للزينة.
الموت ذاكرة، وهو لا يريد أن تسجّله أو تتعرّف عليه.. يريد أن يغمض عينيه ويعود كلّ شيء كما كان سابقًا.. ظلام دامس وعدم ممتد على طول السّهول النائية. يريد أن يتّخذ مجلسه في الوسط، في حلقة العبور بين المجانين يشاهد الرؤوس التي تضجّ بتفاهة الحياة والجماجم التي زُرِعَتْ في حقول الموت.
(يد تمتدّ من ماء آسن
تقتلع الوجع من قلب محتضر.
في الليل، تعوي ذئاب كثيرة
عواء يصمّ الآذان..
قمر يشع على أوكار الثعابين
واليد ما زالت ممتدّة تستأصل الروح من البدن
تناجي صباحا تأخر في القدوم..)
اقرأ/ي أيضًا: