ألترا صوت – فريق التحرير
تستعيد هذه المساحة الأسبوعية، كل أربعاء، ترجماتٍ منسية مختلفة الاتجاهات والمواضيع، كُتب لها أن تؤدي دورًا معينًا في لحظةٍ ما، قبل أن يطوي الزمن صفحتها فيما بعد، لتصير ترجماتٍ "طي النسيان"، بعيدة عن اهتمامات الناشرين العرب. إنها، بجملةٍ أخرى، مساحة يخصصها "ألترا صوت" لرد الاعتبار لهذه الترجمات، عبر لفت انتباه القراء والناشرين العرب إليها، في محاولةٍ لجعلها قيد التداول مجددًا.
إرنستو ساباتو (1911 – 2011) كاتبٌ يخاف الوفرة والاتساع. الروائي الأرجنتيني الذي عاش نحو قرنٍ من الزمن، قدّم ثلاث رواياتٍ فقط، نُشرت بضغطٍ من زوجته ماتيلدي التي نجحت في منعه من التخلص منها، وإنقاذها من المصير الذي انتهت إليه بقية أعماله، إذ كان ناقدًا قاسيًا لكتاباته، وغير راضٍ عنها، والسبب، بحسب تعبيره، ميوله نحو تدمير الذات والإحباط، نتيجة لحظات الكآبة التي كانت: "تشغل معظم أوقات حياتي، ويبدو لي فيها أن كل شيءٍ مريع، وأن المجتمع الذي نعيش فيه مخيف، وأن تواصلي مع الآخرين يكاد يكون أمرًا محالًا".
إن "النفق" في المستوى الأول اعتراف مجرمٍ بأنه قتل بدافع الغيرة، وفي مستوى أعمق، أو في المستوى الأشد عمقًا، هي مأساة الوحدة
لعل هذا ما يفسر إذًا ضيق منجزه الأدبي الذي اقتصر على ثلاث رواياتٍ فقط، هي: "النفق"، و"أبطال وقبور"، و"ملاك الجحيم"، وهي الأعمال التي استطاعت ماتيلدي إنقاذها من المحرقة التي نصبها ساباتو لكتاباته، والتي بدت كافية لترسيخ اسمه في الخارطة الأدبية للقارة اللاتينية، بصفته كاتبًا أسس لنفسه مسارًا أدبيًا يفترق عن الواقعية السحرية، ويقوم على اعتبار الرواية أقرب إلى قصيدة ميتافيزيقية.
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: اليوم المرتجى لسمك الموز
يُعتبر ابتعاد إرنستو ساباتو عن الواقعية السحرية، وسلوكه مسارًا أدبيًا يتقاطع مع نظرته إلى الحياة وموقفه منها أيضًا، من الأسباب التي جعلت شهرته متواضعة مقارنةً بكتّاب أمريكا اللاتينية، لا سيما مواطنه بورخيس الذي كان على خلافٍ معه، ويرى أن ما يعيبه هو عدم امتلاكه نفسًا طويلًا يسمح له بكتابة ولو رواية واحدة فقط، إذ إن الميزة التي تتفوق بها الرواية على بقية الأجناس الأدبية، بالإضافة إلى البحث والفلسفة، هي قدرتها على الإجابة عن: "التساؤلات التي تطرحها أشد معضلات الحياة غموضًا: الله، المصير، معنى الحياة، الأمل".
تُقدِّم نظرة الكاتب الأرجنتيني إلى الرواية، تفسيراتٍ كافية لتوضيح الأسباب التي دفعته باتجاه عالمها الذي دخله رسميًا عبر "النفق"، روايته الأولى التي صدرت عام 1948، ونقلها عبد السلام عقيل إلى اللغة العربية في ثمانينيات القرن الفائت، حيث صدرت عام 1988 عن "دار الأهالي" في العاصمة السورية دمشق، وأعيد إصدارها في طبعة جديدة عن الدار نفسها عام 2004.
يروي إرنستو ساباتو في "النفق"، قصة خوان بابلو كاستيل، وهو رسامٌ يفقد القدرة على التواصل مع الآخرين، ويعيش بعيدًا عنهم أيضًا، لقناعته بأن ما من أحد يفهمه، قبل أن تظهر في حياته ماريا اريبارني، المرأة التي صادفها في أحد معارضه واقفةً أمام إحدى لوحاته، تتأمل تفاصيل لم ينتبه لها أحد سواها، الأمر الذي لفت انتباه كاستيل الذي أراد أن يعرف سبب اهتمامها بتلك التفاصيل، ولكن ماريا اختفت فجأة، مخلفةً عنده شعورًا بأنه عثر على من يفهمه أخيرًا.
يبحث كاستيل عن المرأة لشهورٍ طويلة، قبل أن يعثر عليها مصادفةً ذات يوم، لتبدأ حينها علاقتهما العاطفية، بعد لقاءٍ بدا مفاجئًا، إذ لم يكن رومانسيًا بقدر ما كان ذو أبعادٍ فلسفية، لا سيما بالنسبة لكاستيل الذي استفاض في الحديث عن الحياة والموت، ومأساة البشرية المتمثلة في الولادة التي تأتي بأناسٍ جدد بعد وفاة من سبقهم، ولكن ذلك لم يمنع ماريا من مبادلته الحب، دون أن تعرف أن حبّه لها سيكون مشوهًا تمامًا.
تنتهي هذه العلاقة بين الطرفين بقتل كاستيل لماريا، بعد اضطراباتٍ مختلفة شهدتها علاقتهما، وتسببت بها غيرة كاستيل، وارتيابه من تصرفات ماريا، وتدقيقه في أصغر تفاصيل حياتها وتحركاتها، بالإضافة إلى شعوره بأنها تخلت عنه: "اقتربت من سريرها، وحينما دنوت منها، قالت وقد سيطر الحزن عليها: ما الذي أنت مقدم عليه يا خوان بابلو؟ أجبتها ويدي اليسرى تتمسك بشعرها: يجب أن أقتلك يا ماريا، لقد تخليت عني. ثم غرست السكين في صدرها وأنا أبكي، فأطبقت فكيها، وأغمضت عينيها".
تروي "النفق" حكاية رسام يفقد القدرة على التواصل مع الآخرين، ويعيش نتيجة ذلك في عزلة تامة، وسط شعوره بأن لا أحد يفهمه
يقول إرنستو ساباتو في وصف روايته هذه: "هي في المستوى الأول، اعتراف مجرم بأنه قتل بدافع الغيرة، وفي مستوى أعمق، أو في المستوى الأشد عمقًا، مأساة الوحدة، مأساة البحث عن المطلق. لو أن ما يُقرأ في تلك القراءة الأولى كان حقيقة، لما كانت النفق سوى رواية نفسانية. وأنا أحاول أمرًا آخر. ليس في هذه الرواية وحسب، بل في الروايات الأخرى التي نشرت أيضًا".
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: قلعة آكسل
ويضيف: "النفق مكتوبة بلسان مجنون، وهذا النمط من الشخصيات يستدعي، لكي يكون ممكنًا، أن ينصرف كليًا إلى هاجسه فقط. يرى، ويسمع، ويروي، ما ينبغي أن يرى بهواه الخاص المتأجج. ولكن كيف يمكنني أن أتماثل، وكيف يمكنني ألا أتماثل وكاستيل؟ فليس هناك أي حدث من أحداث هذه الرواية مأخوذ من الحياة الواقعية".
اقرأ/ي أيضًا: