ألترا صوت – فريق التحرير
تستعيد هذه المساحة الأسبوعية، كل أربعاء، ترجماتٍ منسية مختلفة الاتجاهات والمواضيع، كُتب لها أن تؤدي دورًا معينًا في لحظةٍ ما، قبل أن يطوي الزمن صفحتها فيما بعد، لتصير ترجماتٍ "طي النسيان"، بعيدة عن اهتمامات الناشرين العرب. إنها، بجملةٍ أخرى، مساحة يخصصها "ألترا صوت" لرد الاعتبار لهذه الترجمات، عبر لفت انتباه القراء والناشرين العرب إليها، في محاولةٍ لجعلها قيد التداول مجددًا.
رسمت الكاتبة والروائية الألمانية كريستا فولف (1929 – 2011)، لنفسها ولكتاباتها مسارًا سمتهُ الأبرز النقد، والاقتراب من الأشياء أو القضايا دون التماهي معها، أو محو المسافة التي تفصلها عنها، ذلك أن هدفها الرئيسي كان دائمًا الاقتراب بهدف معاينة جوهر هذه القضايا، ولكن دون التخلي عن الزوايا الأخرى التي تتيح لها معاينتها وقراءتها من الخارج أيضًا.
أرادت فولف من روايتها هذه أن تكون أقرب إلى اليوميات الحميمية التي تروي أحداث يوم واحد من حياتها تحت المراقبة
وعبر هذه المسافات التي تفصل بينها وبين الأشياء والأشخاص والقضايا أيضًا، بشكلٍ تستطيع عنده التعامل معها نقديًا، استطاعت فولف نيل اعتراف المؤسسات الأدبية الرسمية وغير الرسمية في الألمانيتين، حيث مُنحت "جائزة الدولة" في ألمانيا الشرقية، و"جائزة بوشنر" في ألمانيا الغربية، متجاوزةً الجدار الذي كان يفصل آنذاك بين الشطرين، والصراع السياسي والأيديولوجي المحتدم بينهما.
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: إدغار آلان بو
وتمكنت مؤلفة "نحن نعرف ما سيأتي" أيضًا، من خلال هذا الحرص على وجود مسافاتٍ تفصلها عما يحيط بها، أن تكون اشتراكية دون التماهي مع سياسات وممارسات الأنظمة الاشتراكية وتأييدها، لا سيما في ألمانيا الشرقية، حيث كانت تتعامل مع النظام القائم هناك انطلاقًا من زاوية نظرٍ نقدية تثير أسئلة محرمة، لا سيما حول الحرية والقمع وفرض الوصايا على الأدب والفنون، وتدعوا جهارًا للقيام بإصلاحاتٍ جوهرية في بنية النظام القائم الذي انحرف عن مساره الاشتراكي.
وبارتفاع نسبة القمع، كانت فولف ترفع سقف نقدها، الأمر الذي جعلها مصدر إزعاجٍ للنظام في ألمانيا الشرقية، ليضعها وطيلة أكثر من ثلاث سنوات، تحت مراقبة الشرطة السياسية "ستازي"، التي زرعت أجهزة تنصت في أماكن مختلفة من بيتها. وباكتشافها أنها تحت المراقبة نهاية سبعينيات القرن الفائت أدركت استحالة إصلاح النظام الذي سينهار بعد نحو عقدٍ من تلك الحادثة.
وثقت الكاتبة الألمانية هذه التجربة في روايتها "ما يبقى"، التي كتبتها عام 1979، ولكنها انتظرت نحو عشر سنواتٍ لنشرها، حيث صدرت الرواية في طبعتها الأولى عام 1990، بعد عامٍ واحدٍ على سقوط جدار برلين، وقبل أسابيع قليلة من إعلان توحيد الأراضي الألمانية وطي صفحة الدولة الاشتراكية، وتزامنًا مع قرارها اعتزال العمل السياسي، والانسحاب من صفوف حزب الوحدة الاشتراكي الألماني.
وتحاول كرستا فولف في روايتها هذه التي صدرت نسختها العربية عام 1991 عن "دار الفارابي" في بيروت، ترجمة الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار، أن تنقل للقارئ مشاعرها لحظة اكتشافها أنها تحت المراقبة، وطبيعة الحياة التي عاشتها آنذاك مجردةً من خصوصيتها داخل المنزل وخارجه، في ظل حالة من الخوف والعزلة والقلق والإحباط والريبة تجاه الآخرين، لا سيما المقربين منها.
تحاول فولف في روايتها أن تنقل للقارئ مشاعرها لحظة اكتشافها أنها تحت المراقبة، وطبيعة الحياة التي عاشتها مجردةً من خصوصيتها
يقول بسام حجار في تقدمه للرواية إنها: "كتاب أرادته كريستا فولف أقرب إلى اليوميات الحميمية التي تروي أحداث يوم واحد من حياة الكاتبة على أثر اكتشافها بأن عناصر الشرطة السياسية تراقبها. يوم واحد من التداعيات والوساوس والأحاديث والإحساس العميق والقاتل بالعزلة. بل يوم واحد من العيش المكشوف، المعرّض في كل ثانية لأعين الآخرين ونظراتهم الكابية. وتحاول كريستا فولف في كتابها هذا أن تروي انهيار الوهم، والدمار العقلي الذي يخلفه في أعماق الذات".
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: وقائع مدينة ترافنك
ويضيف قائلًا إنها: "لغة متصلة في حوار وحيد وإن كان هذره لا يني ينبثق من أعماق متألمة ومُحبطة، أو يسترسل سعيًا وراء الصلة بالآخرين. صلة تنقطع، لا تني تنقطع، كلما اقترب من السؤال: ما الذي يبقى؟ - ما يبقى؟ يوميات. بل اعترافات الكاتب الذي ينتظر، حيال عجز لغته، اكتمال لغة جديدة، يذكرها مستهل الكتاب لكنه يجهل كنهها. لغة تدفع الإحساس بالغربة عن المدينة وعن والناس وعن الأبناء، وترفع شقاء أن تحيا وشقاء أن تدرك، بعد أن تحيا، أنك لم تعِش".
اقرأ/ي أيضًا: