المحظوظون في هذا العالم يخوضون حروبًا على كل شيء. يريدون أن تمتنع الناس، كل الناس، عن تناول الأطعمة السريعة، وبعضهم يدعونا للتخلي عن اللحوم والاكتفاء بالطعام النباتي، وبعضهم الآخر يذهب أبعد في دعوته حيث يشترط على كل نبتة يتناولها أن تقدم له تاريخ تربيتها وولادتها، وضمانًا بأنها لم تبلغ رشدها بمساعدة مواد كيميائية.
الحرب على الأطعمة جزء من حرب أكبر تطاول كل مناحي حياتنا تقريبًا. ثمة دعوات ملحة للتوقف عن استخدام السيارات، ودعوات أخرى للتعايش مع حشرات الغابة بوصفنا دخلاء على عالمها
الحرب على الأطعمة جزء من حرب أكبر تطاول كل مناحي حياتنا تقريبًا. ثمة دعوات ملحة للتوقف عن استخدام السيارات، ودعوات أخرى للتعايش مع حشرات الغابة بوصفنا دخلاء على عالمها، وثمة دعوات أخرى تريدنا أن نسامح الدببة إذا قتلت أو جرحت أطفالنا، ذلك أن هذه طبيعتها، وهي تتصرف وفقًا لطبيعتها. وحيث إننا في هذه "السلسلة الغذائية" نقبع في موقع أدنى منها، فيفترض بنا أن نتقبل واقع أن تفترسنا إذا شاءت.
كل هذه الحروب والدعوات الإيمانية تنطلق من افتراض أننا نملك كل وقت العالم للاعتناء بما يجدر بنا العناية به. من تتوجه لهم هذه الدعوات يفترض أن يصرفوا أوقاتًا متسعة على تحضير طعامهم، وأوقاتًا أكثر طولًا وإجهادًا على ترتيب أعضاء أجسامهم وتدريبها وتمرينها، وأوقاتًا واسعة أخرى على متعة التعرف على الطبيعة بنسختها التي لم يداخلها تطور بشري من أي نوع. والحال، يجدر بنا أن نتأكد جيدًا أن هؤلاء محظوظون، وهم إذ يعلنون ما يعلنونه فإنهم ينطلقون من واقع أنهم محظوظون ويظنون الناس كلها تنعم بما ينعمون به.
ولنفترض أننا نملك مثل هذا الوقت الفائض للتفكير مليًا بما نأكله قبل أن نأكله، فهذا يفترض منا أن نبدأ التفكير بالأكل قبل الشعور بالجوع بوقت طويل طبعًا، ولنفترض أننا نملك كل هذا الوقت أيضًا، فهذا يفترض أيضًا أن نملك من النقود ما يسمح لنا بتجربة ما يدعونا هؤلاء إلى تجربته. وهذا بيت القصيد.
لنفترض أننا نريد العودة إلى الطبيعة، بوصفنا طبيعيين. هل يفترض بنا هذا أن نملك بطاقات ائتمان وحسابات في المصارف؟ أن يكون العالم محكومًا بالنقود، وأن تكون النقود روحه ونسغه، فهذا مما يفت في عضد هذه الدعوات المتواترة. إذ لو أردنا أن نذهب بهذه الدعوات إلى أصلها وأن نتّبع منطقها، فهذا يعني أننا يجب أن نزرع ما نريد تحويله إلى طعام، أو أن نقطفه عن الأشجار كما تفعل قرود الغابة. ولنفترض أن هذا ممكن في بعض الأماكن والدول التي لا تعاني من اكتظاظ سكاني تدفعها إلى تبريد كل ما فيها في ثلاجات بمن فيهم البشر أنفسهم، فهل يفترض أن يتسامح معنا مالكو الأراضي ونحن نقطف الأثمار من أشجارهم كما يتسامحون مع سنجاب؟
الأرجح أن هذه الدعوات تضمر تحت غلافها الإنساني قدرًا من التعالي على بني البشر لا يطاق. أن تتوقف مطاعم الوجبات السريعة عن العمل، فهذا يعني أن مئات الملايين من الذين يعملون معظم ساعات أيامهم كل أسبوع، سيخسرون فرصة الحصول على طعام لا يصرفون وقتًا طويلًا في إعداده، ولا يكلفهم أموالًا باهظة تدفع للذين يخدمونهم وهم يقدمونه لهم. وبالتالي، لا تبدو هذه الدعوات المتواترة أكثر من اعتداء على أوقات هؤلاء ودفعهم دفعًا إلى مرتبة أدنى من هذه التي يجدون أنفسهم على درجتها. أما دعوة استهلاك المنتوجات العضوية فقط لا غير، فتضمر في بعض ما تضمره دعوة لمقاطعة كل النتاج الزراعي الذي يصدر من العوالم المتأخرة عن العالم المتقدم الذي تديره المصارف وشركات إنتاج النقود.
العالم في حقيقة الأمر لا يملك وقتًا لكل هذا الترف. هذا العالم يعاني من قلة النوم وضيق الوقت. لا وقت لنحب، ولا وقت لنهتم بأطفالنا، مع ذلك ثمة فئة من المحظوظين تحسب هذا العالم يملك كل الوقت الذي يريد أنفاقه بلا حساب، إلى الحد الذي يجعلهم يعترضون على نقل الخضار في شاحنات مبردة.