يضم كتاب "ثلاثية حول الرواية"، (المشروع القومي للترجمة، ترجمة بدر الدين عرودكي)، ثلاثة من كتب ميلان كونديرا "التنظيرية": فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار. وكان لزامًا وضع هذه المفردة، "التنظيرية"، بين مزدوجتين ذلك أن الكاتب الفرنسي ـ التشيكي يسارع إلى نفي صفة "المنظر" عن نفسه، مؤكدًا في تقديم "فن الرواية"، (وهو ما ينسحب على الكتابين الآخرين)، أن "كل ما في هذا الكتاب ليس إلا عبارة عن اعترافات حرفي". وبما أن عمل كل روائي ينطوي على رؤية مضمرة لتاريخ الرواية، وعلى فكرة معينة حول ما هي الرواية، فقد سعى كونديرا إلى جعل "هذه الفكرة عما هي الرواية، المحايثة لرواياتي، تتكلم".
كونديرا في تنظيره، كما في رواياته، منحاز إلى مفهوم محدد عن الرواية: إنها، أساسًا وأصلًا، آلة سبر للوجود الإنساني، مادتها الخام هي الإنسان بوصفه إنسانًا
نحن إذًا أمام تأملات طليقة وأفكار متحررة من قيود الأكاديميين ومساطر النقاد.. تذكير بدروس مهدورة، وبتجارب عظيمة مهملة، وبأسماء منسية كانت تستحق الخلود، وبطرق واعدة تم تجاهلها إلى أن امحت عن خريطة الفن الروائي..
وكونديرا هنا، كما في رواياته، منحاز إلى مفهوم محدد عن الرواية: إنها، أساسًا وأصلًا، آلة سبر للوجود الإنساني، مادتها الخام هي الإنسان بوصفه إنسانًا.. وإذا كان يستذكر ما ذهب إليه سارتر، في الأربعينات من القرن الماضي، في الوقوف مع "أدب المواقف" بمواجهة "أدب الطبائع"، فإنه يسحب قصب السبق من الفيلسوف الفرنسي، بل ومن الفلسفة برمتها، مؤكدًا أن "الانعطاف الذي حول فن الرواية بصورة رصينة عن افتتانه السيكولوجي (فحص الطبائع) ووجهه نحو التحليل الوجودي (تحليل المواقف التي تضيء الجوانب الرئيسية للشرط الإنساني) قد حدث قبل عشرين أو ثلاثين عامًا من استحواذ موضة الوجودية على أوروبا، ولقد استُلهم لا من قبل الفلاسفة، بل من قبل منطق تطور فن الرواية نفسه". وبالطبع فإن كافكا يقف على رأس أولئك الذين طوروا هذا التوجه الروائي. (كتاب الستار).
في حواره مع كريستيان سالمون، يقول كونديرا: "لنبدأ بالتأكيد أن رواياتي ليست روايات سيكولوجية، وبعبارة أكثر دقة: توجد رواياتي فيما وراء جماليات الرواية التي توصف عادة بالرواية السيكولوجية". ثم يستدرك: "لكن افهمني جيدًا. إذا كنت أضع نفسي فيما وراء الرواية السيكولوجية فلا يعني هذا أنني أريد حرمان شخصياتي من الحياة الداخلية، وإنما يعني فقط أن ثمة ألغازًا ومسائل أخرى تلاحقها رواياتي في المقام الأول". يلخص محاوره هذه النظرة بعبارة من رواية "خفة الكائن"، حيث كتب كونديرا: "ليست الرواية اعترافًا من اعترافات المؤلف، بل هي سبر ما هي الحياة الإنسانية في الفخ الذي صار عليه العالم". (كتاب فن الرواية).
والمؤلف منحاز أيضًا، مع كثير من الحنين، إلى ذلك الدرب القديم الذي حادت عنه الرواية لاحقًا، إرث رابليه البهيج، عندما كان الروائي أكثر خفة وحرية وجرأة في التجريب، وأقل تجهمًا وانصياعًا لسببية الحكاية المهيمنة ولقواعد البناء الروائي الصارمة. "ما أسعد أيام رابليه.. إن اللحظة الاستثنائية لولادة فن جديد تضفي على كتاب رابليه ثراء لا يصدق، نجد فيه كل شيء: المحتمل والمستحيل، المجاز، الهزل، العمالقة والبشر الأسوياء، النوادر والتأملات، الرحلات الحقيقية والعجيبة، الخلافات المعقدة، الاستطرادات ذات المهارة اللغوية المحضة. يشعر روائيو اليوم بحنين حاسد إلى هذا العالم الخليط على نحو ساحر للروائيين الأوائل وإلى الحرية المرحة التي يسكنونه معها". (كتاب الوصايا المغدورة).
وثمة انحياز آخر: إلى روائيي أوروبا الوسطى: كافكا، هاشيك، بروخ، غومبروفيتش، موزيل.. وهؤلاء، مع رابليه وستيرن وفيلدينغ وسرفانتس ودستويفسكي وتولستوي وجويس وبروست، يشكلون محاور ارتكازية يدور حولها المؤلف في معظم فقرات كتبه الثلاثة..
في الجزء السابع من كتاب "الستار"، يتحدث كونديرا عن الظروف التي أحاطت بولادة الأمة التشيكية و"نهضتها بعد القرنين السابع عشر والثامن عشر اللذين كانت اللغة التشيكية خلالهما تتعايش إلى جانب الألمانية كلغة منزلية". ويتساءل عن الدافع الذي حدا بهذه الأمة الوليدة إلى استبعاد خيار البقاء ضمن ثقافة أمة عظيمة (الألمانية) موجودة على مستوى أرفع بكثير من مستوى الثقافة التشيكية: "وضع فريد: كان التشيكيون وجميعهم ثنائيو اللغة يملكون فرصة للاختيار: الولادة أو عدم الولادة، أن يكونوا أو أن لا يكونوا... ومع ذلك فقد انتهوا إلى تفضيل الثقافة الوليدة على الثقافة الناضجة للألمان. حاولت أن أفهمهم. على ماذا كان يقوم سحر الغواية الوطنية؟ أكان سحر سفرة في المجهول؟ حنينًا إلى ماض ولى؟ أريحية نبيلة تفضل الضعيف على القوي؟". غير أنه لن يتسنى للكاتب ذي الأصل التشيكي أن يعرف الإجابة، "كنت ألاحظ، مذهولًا، أنني لا أعرف كيف ولماذا أصبحنا ما كنا عليه.. لم تكن معرفة الأحداث التاريخية هي التي تنقصني. كنت بحاجة لمعرفة أخرى، المعرفة التي، كما كان يمكن أن يقول فلوبير، تذهب إلى روح الوضع التاريخي، التي تدرك مضمونه الإنساني. ربما كان يمكن لرواية، لرواية كبرى، أن تجعلني أفهم كيف أمكن للتشيكيين في ذلك الحين أن يعيشوا قرارهم. سوى أن هذه الرواية لم تكتب. وهناك حالات يكون فيها غياب الرواية غير قابل للعلاج".
كونديرا: الأجلاف، الأفكار المسبقة، الكيتش.. هذه هي حلقة الأعداء التي تتهدد مستقبل الرواية، بل ومستقبل الحضارة الإنسانية نفسها
كان رابليه قد نحت مصطلح "الأجلاف" بالفرنسية، قاصدًا أولئك الذين لا يفهمون الفكاهة ولا يتقبلونها، ولقد ناصبوا رواياته العداء لأنها تنطوي على فلسفة للحياة عمادها الفكاهة. ثم جاء غوستاف فلوبير فوضع "قاموس الأفكار المسبقة"، تلك الكليشهات التي تسيطر على معظم عقول البشر طيلة الوقت. وبعده طور الروائي النمساوي هرمان بروخ مفهوم "الكيتش"، والمقصود به ذلك الموقف الذي يكون فيه الإنسان مستعدًا لإثارة إعجاب الناس بأي ثمن، وبالطبع لكي يثير إعجابهم فلا بد له من أن يقول ما يروق لهم، ما يريدون هم سماعه..
كونديرا: الأجلاف، الأفكار المسبقة، الكيتش.. هذه هي حلقة الأعداء التي تتهدد مستقبل الرواية، بل ومستقبل الحضارة الإنسانية نفسها.