نستعيد الثورة في ذاكرتنا ونتساءل: كيف مرت كل هذه السنون وكيف انقضت جميع الأحلام إلى التراب، وأصبحنا بين قتيل ومعتقل ومنفي ومخبر أمني؟
تفاجأنا في العام الماضي عندما انتشر هاشتاج #عواجيز_يناير على منصات التواصل الاجتماعي، في إشارة إلى شباب الثورة المصرية، 25 كانون الثاني/يناير 2011.
كان الجيل الأصغر، جيل "زد"، ممن لم يروا الثورة يغرّدون ويدوّنون رافضين أخذ النصيحة من "عواجيز يناير"، وهو أمر صحي. فنحن، شباب الثورة، رفضنا أخذ النصائح من الأجيال السابقة، ولم نحترم نضالهم ونعتناهم بالعجائز الذين عفا الزمن عن أفكارهم البالية.
تلك هي فورة الشباب ونزقها الصحي، وطيشها المختال.
13 عامًا مرت على ذكرى الثورة الشعبية الأعظم في تاريخ مصر الحديث والأكثر إيلامًا ووجعًا. ثورة أزاحت النظام العسكري المستمر منذ 1952، وحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي استمر 30 عامًا، ثم رأينا جميعًا ما حدث تاليًا، وكيف أكلت الثورة نفسها، وارتكبت الأحزاب السياسية والتيارات المدنية الكثير من الأخطاء، وتصرف السياسيون بعنجهية وكبر وغباء.
في ظروف أخرى، كان الشعب المصري سيملأ الشوارع والميادين، ويذهب في قوافل بشرية إلى معبر رفح من أجل كسر الحصار، لكن ما يعيشه هو كسر لإرادته بدلًا من كسر الحصار
كما رأينا كيف التف عليها الفلول وأعداء التنوير من جميع الجهات، كقول المثل الشعبي "العِجل وقع هاتوا السكينة"، فارتددنا سنوات وسنوات إلى الخلف، وظلت الثورة حلمًا لاح في الأفق، وفكرة إنسانية آسرة تجذرت في عقول من رآها، وكابوسًا مزعجًا في صدور كل الحكام والمسؤولين والمجرمين في حق هذا الشعب.
لن أخوض في النوستالجيا والتحسر على الفرص الضائعة، وما كان بالإمكان تحقيقه وما خسرناه بسوء التصرف والإدارة، ولن أخوض في المراجعات الفكرية للأحداث الثورية كافة حتى لحظة الانطفاء.
تمر ذكرى الثورة هذا العام، وكالعادة يحاول إعلام النظام المصري إبعاد الأذهان عنها، وتشويهها وإلباسها ثوب الجريمة والعمالة بالباطل وإلقاء اللوم عليها في ما تلا من فشل اقتصادي وسياسي وتمزق مجتمعي لم يحدث له مثيل من قبل.
تتزين شاشات التلفاز بشعار 25 يناير (عيد الشرطة المصرية)، ولا يشيرون إليها حتى بالاسم. يرتعبون من اللفظ، ويربطون يوم الثورة بالاحتفاء بالشرطة المصرية التي ثار عليها الشعب، بسبب جرائمها وتجاوزاتها القانونية وانتهاكاتها الموثّقة.
تمر ذكرى الثورة هذا العام في ظل أحداث استثنائية في الإقليم؛ الحرب على غزة. كان الشعب المصري دائم الحضور ومقدامًا في المبادرة إذا ذُكرت القضية الفلسطينية، ومع أكثر فترات الأنظمة المصرية، ما قبل الثورة، ضعفًا وتبعية، لم نشهد أبدًا ما نراه اليوم من انبطاح وانحسار للدور المصري لدرجة دفعت إسرائيل إلى اتهام مصر أمام محكمة العدل الدولية بأنها المسؤولة عن منع دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.
كانت الأنظمة السابقة، رغم فسادها، تسيطر إلى حد ما على معبر رفح وتفرض سيادتها وتتحكم في دخول المساعدات الإنسانية، بل تسمح في بعض الأحيان بالإمدادات العسكرية تحديًا للحصار المفروض على القطاع. وفي سنة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي (2012 - 2013)، شهد معبر رفح فترةً ذهبيةً في تاريخه، حيث سُمح بحرية التنقل من داخل القطاع إلى خارجه عبر الأراضي المصرية بكل سهولة ويسر.
مع بدء الحرب في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، سمح الأمن المصري بتظاهرات محدودة تضامنًا مع فلسطين، وهدف من ورائها لمنح "تفويض شعبي" طالب فيه الرئيس السيسي بحماية الأمن القومي المصري، لكن التظاهرات انقلبت إلى هتافات ضد النظام وضد التفويض، وانتهت إلى القبض على عشرات المتظاهرين وحبسهم على ذمة قضايا سياسية.
في ظروف طبيعية، كان الشعب المصري سيملأ الشوارع والميادين ويتظاهر أمام السفارات الأجنبية، ويذهب في قوافل بشرية إلى معبر رفح من أجل كسر الحصار، لكن ما يعيشه الشعب المصري اليوم هو كسر لإرادته بدلًا من كسر الحصار.
إذا رجعنا إلى ثورة كانون الثاني/يناير، فسنلحظ أن التظاهرات التضامنية الضعيفة التي لم تتجاوز أعدادها العشرات من الصحفيين والنشطاء، أمام نقابة الصحفيين المصرية، تصدر مشهدها شباب الثورة من المعارضة المصرية، وهذا الأمر تحديدًا تسبّب بالإزعاج للنظام المصري، خاصة أن الهتافات على غير هوى الأمن، فالمحامية الحقوقية ماهينور المصري، التي لها باعِ طويل من العمل والنضال الحقوقي والسياسي، والتي اعتقلت لمرات عدة وأُفرج عنها في تموز/يوليو 2021، هتفت "عملوها أحفاد مانديلا.. واحنا في عار وفي خوف ومذلة".
أمّا الشاعر والناشط السياسي أحمد دومة، الذي اُعتقل لمدة 10 سنوات في ظل النظام الحالي، قبل أن يُفرج عنه بعفو رئاسي في آب/أغسطس الماضي، بعد مطالبات ومناشدات دولية وحقوقية عديدة، فهتافاته كانت الأكثر جرأة، ويبدو أنها أوجعت النظام المصري، هتف دومة: "مصر مشاركة في الحصار.. معبر بينّا وبين أهالينا.. والصهيوني متحكّم فينا"، ثم تلاه بهتاف: "طول ما الدم العربي رخيص.. يسقط يسقط أي رئيس".
تلك هي الرؤية التي تتبناها الثورة المصرية وما أنتجته من معارضة، فلكم اختلفت المعايير والقواعد إذا حكمت الثورة؟
لم تمر هذه الأحداث بخير، فالمحامي أيمن محفوظ، أحد المحامين الذين طالما استخدمهم الأمن للانقضاض على النشطاء والسياسيين والحقوقيين، تقدم ببلاغ للنائب العام يتهم دومة بتكدير السلم العام ونشر أخبار كاذبة وترديد شعارات مناهضة للدولة، كما طالب الإعلامي المقرّب من النظام، أحمد موسى، بالقبض على دومة ومحاكمته، واتهمه بترديد عبارات جماعة الإخوان المسلمين، وترديد كلام الصهاينة ضد مصر!
ثورةٌ منطفئة هُنا وحربٌ مشتعلة هُناك، وجميعنا محاصرون ومكبّلون، لا نملك إلا حق الكلمة، وأحيانًا يُسلب منّا هذا الحق عنوة، لكننا نتشبث بأسمال ضمائرنا، ونحاول ونحاول ونحاول.