انفتحت عيناه على ضوء مفاجئ، مذهولًا، لم يكن يعرف ما الذي يحدث، قبل أن يدرك فجأة أن فُوهة بندقية تلامس صدغه. بدت الغرفة مليئة بالجنود وعناصر المخابرات، وكان الفتى الذي دخل للتو العشرينات من عمره، مصدومًا أكثر منه خائفًا. قبل أن يسحبوه إلى الخارج، وضع على عجل سترة خفيفة على بيجامته. عندها، صرخ الضابط: "من الأفضل أن تأخذ زوجًا إضافيًا من الجوارب".
حدث كل ذلك قبل أن تغرق بلاده في الحرب. وفي وقت كان من النادر، أن تلفت فيه سوريا انتباه وسائل الإعلام الأوروبية. كان محمد يبلغ من العمر 20 عامًا، يدرس هندسة الكمبيوتر في جامعة محلية في حلب. أسس مع زملائه في الجامعة عبد الله ومحمود موقعًا إلكترونيًا وضعوا فيه المقالات والبيانات المنسوخة من وسائل الإعلام المحلية والأجنبية. أطلقوا على الموقع اسم "المقاومة"، ووضعوا فيه محتوى مرتبطًا بالأحداث الجارية، مثل الحرب في العراق.
يقول محمد: "كانت الصفحة تافهة، لكن كان فيها عدّاد للزوار، وكنا مراهقين متحمسين لأي شخص يصفق لنا. تحدثنا مع بعضنا البعض بحماس: واو، 20 زائرًا! ولم نأخذ في الاعتبار العواقب".
كان ذلك في عام 2007، وكانت الانتخابات الرئاسية في سوريا تقترب. بشار الأسد الذي ظل في منصبه لمدة 7 أعوام هو المرشح الوحيد، يمكنك أن ترى صوره في كل مكان، والأغاني التي تتغنى به تُبث على أجهزة الراديو في كل زاوية من زوايا البلاد. أما ضباط المخابرات، فيراقبون بعناية المعارضين أو حتى المعارضين المحتملين. في وقت ما من تلك المرحلة، كان أحد هؤلاء الضباط، يجلس أمام الشاشة يتصفح الموقع الذي أسسه محمد ورفاقه.
عودة
ولد محمد في المملكة العربية السعودية، حيث هاجر والداه مثل العديد من السوريين في الثمانينات مع التوترات المتزايدة في بلادهم. كان سوق العمل في دول الخليج مفتوحًا، وكثيرًا ما يغادر الشباب إليه بعد التخرج لتجنب الخدمة العسكرية. كانت العائلة تعود إلى سوريا في إجازة الصيف فقط، ولم يعد محمد لفترة أطول، إلا بعد تخرجه من المدرسة الثانوية في عام 2004.
يقول: "ظننت أنني في بلد حر. الناس متساوون فيه. ولاحظت لاحقًا أن عدم المساواة في سوريا مختلفة تمامًا عن أي مكان آخر. صحيح أنه لم يكن على النساء تغطية شعرهن، لكنني فهمت أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك. كنت على وشك بداية دراستي، لكن لتأجيل الخدمة العسكرية تحتاج إلى بعض الأوراق. أثناء محاولتي الحصول عليها، رأيت لأول مرة أنني بلا أي قيمة بالنسبة لمسؤولي النظام. كان بإمكانهم البصق في وجهي دون أن يُسمح لي بالرد. كان علي أن أناديهم ’سيدي’ رغم أنني لم أتحدث مع والدي قط بهذه الطريقة. في طفولتي، تعلمنا أن نتوجه بهذه الطريقة إلى الله وليس إلى الحاكم. كان عمري 17 عامًا ولم أرغب في أن أطلق على أي شخص اسم سيدي".
ذات مرة، قال رجل قضى عقدين من الزمن في السجن لمحمد: "يا ابني، المساومة هي الحل. عليك أن تعرف مقدار الكرامة التي يمكنك التضحية بها من أجل البقاء على قيد الحياة دون أن تفقد نفسك"
اعتقال
في تلك الليلة، قام الضباط بتقييد يديه خلف ظهره ووضعوا عِصابة سوداء على عينيه، ثم أدخلوه في سيارة واقتادوه إلى إحدى مراكز المخابرات المنتشرة في أنحاء حلب. كان الجو باردًا وبدا المكان قذرًا. جلس على الأرض محاولًا تحريك حاجبه قليلًا ليتعرف على المكان. فجأة شعر بركلة، أزالوا الأصفاد وعصابة العين عنه وأمره الضباط بخلع ملابسه. عندما أبقى الملابس الداخلية، صاح الضابط بغضب: "كل شيء". بعد ذلك، كان عليه أن يجلس القرفصاء لعدة مرات، ليتم التحقق من أنه لم يخف أي شيء في فتحة الشرج.
بعد ذلك بقليل، في مقر المخابرات، رأى زميله عبد الله وخمن سبب وجودهما هناك. كان صديقه في حالة مزرية، فقد تشوهت ساقاه وكان بالكاد قادرًا على المشي.
يحكي محمد قصة جلسات الاستماع: "في البداية قالوا إنني أحاول القيام بمحاولة اغتيال. سألوني إذا كنت أنتمي إلى تنظيم القاعدة. واكتشفت لاحقًا أن أحد أفراد عائلتي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، الجماعة المعادية للنظام. لم أكن أعرفه، ولم يكن لي أي علاقة بتنظيم القاعدة. ولكن عندما تشعر أنهم يريدون توريطك في جرائم خطيرة، فلن تتردد في الاعتراف بالجرائم الأصغر. العديد من أسئلتهم لم تكن منطقية بالنسبة لي. لقد أرادوا معرفة عدد الفتيات في مجموعتي في الكلية، وما إذا كنت أحبهن أم نمت معهن. لاحقًا، سألوني عن رأيي في بعض الآيات القرآنية. سألوا عن عائلتي، وبخصوص روابطي مع السعودية، أو ما تعلمته عن سوريا هناك. "ماذا سيقول لكم معلموك السعوديون عني؟"، سخر أحد الضباط، وفي سؤال ساخر آخر: "هل سأذهب إلى النار أم إلى الجنة؟"، يعلق محمد "ماذا كان من المفترض أن أجيب؟ أنا لست الله. سألوني فيما بعد كيف التقيت في عبد الله ومحمود. هذه الليلة كانت مرهقة، واستمر التحقيق عدة ساعات".
لاحقًا في تلك الليلة، وضعوه في زنزانة مكتظة. كانت الأرضية باردة، وقفل الباب الحديدي الثقيل يصدر صوتًا عاليًا في كل مرة يتم فيها إخراج المزيد من السجناء. في الأيام التالية، يتابع محمد، "لقد بذلوا قصارى جهدهم لجعلي أشك في كلامي. هل أنت متأكد؟ قال عبد الله ذلك... وظلوا يكررون نفس العبارات. لقد طرحوا نفس الأسئلة لمدة أربعة أو خمسة أيام. ضربوني كثيرًا لدرجة أنني سقطت أرضًا".
لقد أدرك مدى خطورة وضعه، كان يفكر في أنهم إذا حكموا عليه بالسجن 10 أعوام، فسيكون عمره 30 عامًا عند خروجه. ربما لا يزال بإمكانه الزواج وإنجاب أربعة أطفال؟ ولكن إذا حصل على 20 عامًا، فسيكون الأمر أصعب. في ذلك الوقت، فكر متحسرًا، كم يحب الأطفال.
شبح وسجادة
كان فرع المخابرات رقم 235، المعروف باسم "فرع فلسطين"، يعتبر من أسوأ فروع المخابرات، وإلى هناك أخذوه بعد 28 يومًا من اعتقاله.
يقول محمد: "طوال الطريق إلى دمشق، كنت أفكر فقط أنني أتمنى لو كانت لدي الشجاعة للانتحار. سمعت صرخات أشخاص يتم تعذيبهم في الممرات. كانت تلك أصوات الناس الذين كانت أجسادهم مربوطة بألواح قابلة للطي، وهو نوع تعذيب يستهدف بشكل أساسي العمود الفقري، ويسمونه ’السجادة الطائرة’. هناك أيضًا أولئك الذين تم تعليقهم من معصميهم وظهورهم إلى السقف وتركوا في هذا الوضع لعدة ساعات. أجبرهم شد العضلات في حزام الكتف، الوقوف على أصابع أقدامهم طوال هذا الوقت، وهو ما يسمى الشبح".
يستمر محمد: "كانوا يعرفون أنه حتى في ظل أسوأ أنواع التعذيب، لن أكشف لهم عن أي أسماء أو معلومات مهمة، لأنني ببساطة لا أملكها. كان علي فقط أن أؤكد ما شهد به عبد الله في وقت سابق. لكن هل لكلماتي أي أهمية؟ بعد عدة استجوابات، سلموني قطعة من الورق وطلبوا مني التوقيع عليها. ’ألا يجب أن أقرأ أولًا؟’ سألت. سمعت الرد: افعل ما أقول".
الحفلة
حوالي 10 أسابيع مرت. أخرج الحراس محمد من زنزانته، وغطوا عينيه، ووضعوه في السيارة مع سجناء آخرين. وتم نقلهم إلى صيدنايا، على بعد 30 كيلومترًا من دمشق. يمكن رؤية مبنى السجن على خرائط جوجل، فهو يشبه الحرف "Y" ويمكنك حتى "تقييمه"، تمامًا مثل صالون لتصفيف الشعر أو مطعم للوجبات السريعة. ومع ذلك، لا يمكنك العثور على صورة توضح الظروف الموجودة بالداخل. في البداية هناك ما يطلق عليه السجانون "حفلة ترحيب". حيث يطُلب من السجناء الركض للأمام، والعصبات السوداء لا تزال على عيونهم، يسقط السجناء متعثرين بأشياء كثيرة في طريقهم.
لاحقًا يتم نقلهم، كما يحكي محمد، إلى الطابق السفلي. وهنا، أي في السجن، لم يعد التعذيب جزءًا من الاستجواب، فقد كشف السجناء بالفعل عما عرفوه في الأقبية القذرة للمخابرات. لقد كان التعذيب في صيدنايا جزءًا من "تدريب" السجناء، حتى يصبحوا أكثر طاعة، بعد تعرضهم للإذلال، وحتى لا يتسببوا بأي متاعب للحراس.
كما لو أنه كوكب آخر
ومع ذلك، فإن أسوأ أنواع التعذيب بالنسبة لمحمد أصبح روتينيًا. في الأشهر الأولى كان يعاني من الاكتئاب، ولم يستطع قبول ما حدث له، ثم اعتاد على ذلك. وقد ساعده في ذلك قراءة دواوين الشعر التي حصل عليها السجناء القدامى عن طريق رشوة الحراس. تعلم محمد اللغة الإنجليزية من اللبنانيين الذين تقاسم معهم الزنزانة، وكان شخص آخر يقوم بتعليم سجناء آخرين فن الخط، أما رجل مسن، فاكتفى بتفسير الأحلام.
أما عن الحياة خلف القضبان، فيقول محمد إنها تشبه الولادة الثانية، ولكن على كوكب مختلف، كل شيء يصبح غير عقلاني، وتتوقف القواعد عن التطبيق. ويوضح: "الحياة بلا أمل هي جحيم. ولكن ماذا لو أصبح الأمل أسوأ عدو؟ كان السجناء يرددون كل يوم وبحماس: هل سمعتم أن فلان حوكم؟ لقد أعطوه خمس سنوات فقط! ثم يقارنون "جريمته" بـ"جريمتهم". كان الأمل هو طعامنا الرئيسي. لكن الأمل خطير. إنه يخدعك ويجعلك تنسى الحقيقة السيئة، وهي أنك محتجز هنا دون حكم عليك، والله أعلم إلى متى. أدركت أنني إذا أردت البقاء على قيد الحياة هناك، يجب أن أنسى الحياة خارج أسوار صيدنايا، وتوقفت عن الثقة بالأمل. قررت أن أفكاري ستهتم فقط بالأمور اليومية البسيطة، مثل انتظار الوجبة التالية من الطعام أو التحدث مع السجناء".
ذات مرة، قال رجل قضى عقدين من الزمن في السجن لمحمد: "يا ابني، المساومة هي الحل. عليك أن تعرف مقدار الكرامة التي يمكنك التضحية بها من أجل البقاء على قيد الحياة دون أن تفقد نفسك".
العالم خلف الجبل
في بداية عام 2011، قبيل انطلاق الانتفاضة الشعبية، تم تنظيم محكمة في مبنى السجن، وجلس السجناء الذين اعتبروا الأقل تهديدًا على مقاعد مؤقتة. يحكي محمد كيف "كانت المحاكمة مهزلة، والأحكام كانت محددة سلفًا. لقد حُكم عليّ بالسجن لمدة 4 سنوات، ما معناه أن سيتم إطلاق سراحي قريبًا".
وقبل إطلاق سراحه، تم نقله إلى فرع المخابرات الذي اعتقل فيه بداية. هناك سألوه "عما إذا تم إعادة تأهيله"، في صيغة بدت وكأنها لُقنت له، ردد أنه سيكون مواطنًا صالحًا من الآن فصاعدًا، وأنه لن يهتم إلا بالدراسة والعمل والأسرة.
وفي أحد أيام شباط/فبراير 2011، حوالي منتصف الليل، انفتح باب زنزانته المعدني الثقيل وصاح الحارس: "خذ أغراضك وأخرج!". يقول محمد: "شعرت بمزيج غريب من المشاعر، كنت سعيدًا بنفس الدرجة من الخوف والإثارة والقلق. كان من المفترض أن أعود إلى حياتي الطبيعية، لكنني كنت أتساءل عما إذا كان هناك شيء مثل الحياة الطبيعية بالنسبة لي بعد هذه السنوات الأربع".
لا يزال محمد يتذكر: "في السجن، كنت أتسلق كل يوم تقريبًا إلى نافذة الزنزانة التي كنت أستطيع من خلالها رؤية قطعة من العالم كنت أفتقدها. كنت سأرى أكثر من ذلك بكثير، لولا الجبل الحجري السيئ الذي حجب الرؤية، لقد كرهت ذلك. ومع ذلك، في مخيلتي، كان العالم خلفه يبدو وكأنه جنة، مكان لا مشاكل فيه. ورغم أنني عرفت الحياة خارج أسوار السجن، إلا أنني بدأت أتخيل هذا العالم الغامض المليء بالحب والخير والسلام والسعادة. ثم في الواقع، لم أجده هناك".
عندما أطلق سراح محمد، لم يغادر المنزل إلا نادرًا ولبعض الوقت، خوفًا من أن يتم تجنيده أو احتجازه لأدنى جريمة. وبعد شهر، وصل الربيع العربي إلى سوريا وبدأ جيش النظام في قمع الاحتجاجات السلمية بوحشية.
النار فتحت على المتظاهرين، يحكي محمد ويتابع، "في مكان ما في منتصف التقاطع، وسط المدينة، ظل الناس يتحدثون باستغراب عما فعله النظام. هززت كتفي. فكرت: هذا هو النظام. ورغم موافقتي على الشعارات التي رددت في المظاهرات، إلا أنني لم أنضم إلى المتظاهرين. ليس بعد ما مررت به. كنت أخشى أن أكون خلف أسوار صيدنايا مرة أخرى إذا قمت بالخطوة الخاطئة". لم يكن خوفه بعيدًا عن الواقع، فعلى مدى السنوات الأربع بعد ذلك، شهدت هذه الأسوار إعدام ما بين 5000 إلى 13000 سجين.
خطأ
يقول محمد: "تعلم الأطفال السوريون منذ سن مبكرة أنه لا ينبغي قول كل شيء بصوت عالٍ، لأن كل سائق سيارة أجرة وبائع في السوق يمكن أن يكون مخبرًا". يتابع: "قد يقوم شخص ما باستفزازك عمدًا، من خلال انتقاد الرئيس. ةعليك أن تدافع عنه أو تستنكره وتشهد على براءتك".
لكن ربما لم يكن محمد يعرف ذلك، فقد نشأ في الخارج. وفي السنوات القليلة الماضية تعلم في سوريا أن كل المؤسسات تقوم على الفساد. وحصل عن طريق الرشوة على ثلاث شهادات تفيد بأنه قضى السنوات الأخيرة في السجن. سلم واحدة إلى الجامعة، التي سمحت له باستئناف الدراسة والحصول على دبلوم الهندسة قبل إغلاقها. والثانية ذهبت إلى الجيش لحماية نفسه من التجنيد، والثالثة للمسؤولين السويديين كدليل على أنه تعرض للاضطهاد في سوريا وأنه في خطر إذا عاد.
في ستوكهولم، قدم محمد تقريرًا إلى مركز الصليب الأحمر للاجئين المعذبين. لم يتحدث في الواقع مع معالجه النفسي عن وجوده في السجن. تحدث بشكل رئيسي عن الذنب، الذنب الذي لم يستطيع التخلص منه لسنوات. يشعر أنه خذل عائلته. إذ كانت لديه مهمة ليقوم بها: إنهاء دراسته، والعثور على وظيفة جيدة، وإعالة والدته، التي على الرغم من تقدمها في السن ومرضها، إلا أنها تحمل ثقلًا كبيرًا على كتفيها. وقال: "أعلم أنها وضعت أملها فيّ وأنا خذلتها، وأهدرت الوقت في السجن".