خدش الطفل سيارة الضابط الطبيب، غضب الضابط واستقل سيارته ودهس الطفل وأسرته.. انتهى الخبر.
جرت الأحداث يوم الأحد الماضي، داخل أسوار التجمع السكني "مدينتي" بالقاهرة الجديدة شرق العاصمة المصرية، طفل يلهو أمام منزله ويخدش سيارة أحد سكان الكومباوند، يخرج الأب والأم من منزلهم بحثًا عن صاحب السيارة لتقديم الاعتذار، لكن ضابط القوات المسلحة بدرجة نقيب لا يرضيه الاعتذار ويستقل سيارته ويدهس الطفل وأسرته، تموت الأم التي تعمل صيدلانية، ويصاب الأب وأطفاله الثلاثة بكسور وإصابات خطيرة وعاهات مستديمة، عاد الأب الذي يعمل كطبيب بيطري في الكويت، لقضاء إجازة عيد الأضحى مع أسرته، قبل أن تتحول حياته إلى مأساة بسبب خدش في سيارة الباشا!
نُشر الخبر في إعلام المتحدة وبعض الجرائد المقربة من النظام في مصر بقليل من التضليل وإخفاء المعلومات ومحاولة تغيير دفة الجريمة، على أنها سرعة زائدة تسببت في وقوع الحادث دون شبهة جنائية أو تعمد للقتل، ولكن الشهادات التي نشرها بعض الأهالي والشهود مدفوعين بغضبهم كشفت عن رواية مختلفة.
كومباوند مدينتي هو مشروع لتجمع سكني راقي، أقامته مجموعة طلعت مصطفى العقارية المملوكة لرجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى، العضو البارز في الحزب الوطني الحاكم في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك
نشرتُ تغريدة على صفحتي الشخصية على تويتر، أشرت فيها إلى بعض المعلومات بناءً على الشهادات التي نُشرت، وإلى محاولات التضليل التي تحدث من إعلام المتحدة، انتشرت التغريدة على نطاق واسع، وبعدها بساعات صفحة صحيح مصر، وهي صفحة معنية بتقصي الحقائق والأخبار الكاذبة والمضللة، توصلت إلى زوج الأم المتوفاة ووثقت شهادته وأكدت صحة رواية الأهالي عن القتل العمد.
نشرت وزارة الداخلية المصرية بيانًا تنفي خلاله "صحة ما تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي بأن مرتكب حادث التصادم بإحدى التجمعات السكنية بالقاهرة الجديدة، والذي أسفر عن وفاة إحدى السيدات (صيدلانية) وإصابة آخرون ضابط شرطة". رغم أن المعلومات التي تداولت على مواقع التواصل الاجتماعي نصت على أن المتهم ضابط طبيب بدرجة نقيب في القوات المسلحة المصرية وليس ضابط شرطة، نفت الداخلية أنه ضابط شرطة بينما لم تشر إلى كونه ضابط جيش!
كومباوند مدينتي هو مشروع لتجمع سكني راقي، أقامته مجموعة طلعت مصطفى العقارية المملوكة لرجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى، العضو البارز في الحزب الوطني الحاكم في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، والذي امتلك هذه الأراضي التي تمتد لثمانية آلاف فدان، بالأمر المباشر من وزير الإسكان السابق محمد إبراهيم سليمان في صفقة فساد شبه مجانية بين هيئة المجتمعات العمرانية ومجموعة طلعت مصطفي، تسببت في إهدار أكثر من 25 مليار جنيه من المال العام، في حينها (أيار/مايو 2007).
ومن المفارقة أن هشام طلعت مصطفى نفسه تورط بعد ذلك في جريمة قتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم عام 2008 في دولة الإمارات، بتحريضه لمنفذ الجريمة ضابط أمن الدولة السابق محسن السكري، وصدر ضد الرجلين حكمًا قضائيًا بالإعدام عام 2009، قبل أن تخفض محكمة النقض العقوبة إلى 15 عامًا لطلعت مصطفى والمؤبد 25 عامًا للسكري، لم يقض أي منهما العقوبة كاملة، فهما الآن أحرار بعد أن أصدر السيسي قرارًا بالعفو الرئاسي عن طلعت مصطفى في يونيو/حزيران 2017، وقرارًا آخر بالعفو عن السكري في أيار/مايو 2020، الذي نُفّذ فعليًا في أيلول/سبتمبر من العام الماضي.
تميل الطبقات الاجتماعية العليا في مصر إلى السكن بعيدًا عن ضوضاء المدينة داخل تجمعات مؤمنة ومغلقة، توفر لهم كل الخدمات وتبعدهم عن التعامل والاحتكاك بالطبقات الأدنى. ينتمي سكان الكومباوند لطبقة معينة تجمعهم أخلاقها وثقافتها المشتركة ومقدار مدخراتهم، بينما تسعى الطبقات الأدنى إلى محاولات للترقي الطبقي بالانتقال إلى داخل تلك المدن الجديدة حيث رفاه المعيشة والهدوء والأمان وفخر الانتماء إلى الكومباوند الفلاني الذي لا يسكنه إلا الأثرياء.
كشف هذا الحادث، على بشاعته، زيف الأمان والحماية المتوهمة التي يقدمها الكومباوند كخدمة إضافية لقاطنيه، فلم تعد الأموال هي الحاكم الذي يحمي أصحابه من بطش أصحاب السلطة، ولم تعد الأسوار المؤمنة بشركات الحراسة الخاصة كافية لحماية من بداخلها، فأينما كنت يمكن أن تُقتل من شخص تملّكه جنون العظمة، فقط لأنه ينتمي لمنظومة ما من منظومات السلطة والقوة والحماية المؤسسية.
ليس هذا وحسب، إنما أيضًا امتلاك الثروة التي تُمكّن الأشخاص من شراء الفيلات والقصور ليست بالضرورة ضمانة على معرفتهم والتصاقهم بسلوكيات الطبقة التي يحاولون التقرب منها، ومقطع الفيديو الذي انتشر منذ ثلاثة أشهر لمشاجرة غوغائية من داخل إحدى التجمعات السكنية الراقية بمدينة الشيخ زايد، خير دليل على ذلك، فالثراء المفاجئ أبدًا لا يجعل من الشخص غنيًا.
لم تعد الأموال هي الحاكم الذي يحمي أصحابه من بطش أصحاب السلطة، ولم تعد الأسوار المؤمنة بشركات الحراسة الخاصة كافية لحماية من بداخلها، فأينما كنت يمكن أن تُقتل من شخص تملّكه جنون العظمة
جريمة مدينتي ليست الأولى من نوعها، في الفترة الأخيرة، التي يشوبها اتهامات استغلال للسلطة أو جنون عظمة لأشخاص ينتمون لأجهزة سيادية وأمنية، ففي الأسبوع الأول من كانون الأول/ديسمبر الماضي، اعتدى ضابط طيار بالقوات المسلحة على طاقم تمريض وعاملات في مستشفى قويسنا المركزي، إحدى المستشفيات المصرية، وتسبب في إصابة خمس ممرضات وثلاث عاملات وإجهاض ممرضة أخرى.
اضطر المتحدث الرسمي للقوات المسلحة إلى إصدار بيان مقتضب، يشير إلى "متابعة القوات المسلحة عن كثب ما أُثير بمواقع التواصل الاجتماعي بشأن واقعة مستشفى قويسنا المركزي، وتؤكد على كامل احترامها لمبدأ سيادة القانون، وتهيب بالجميع تحري الدقة، والانتظار لحين انتهاء التحقيقات". هذا البيان المقتضب لم يذكر أي معلومات أو تفاصيل تخص الضابط المتهم الذي أحيل بعد ذلك لمحاكمة عسكرية قضت ببراءته من الاتهامات الموجّهة إليه بالاعتداء على الطاقم الطبي.
وقبل هذه الواقعة بثلاثة أشهر فقط، كان هناك جريمة قتل بشعة أخرى تورط فيها القاضي أيمن حجاج، الذي قتل زوجته المذيعة شيماء جمال وشوّه وجهها وجثتها، ولكن هذه المرة أدانته المحكمة بالقتل، وحكمت عليه بالإعدام في 11 أيلول/سبتمبر 2022، ولا نعلم بعد هل يطبّق القانون أو ننتظر عفوًا رئاسيًا كما هشام طلعت مصطفى.