يُمكن القول إنه ما قبل 2008 غير ما بعدها. العام الذي شهد فيه العالم أزمة اقتصادية مرتحلة من الشمال إلى الجنوب بفعل فقاعات رأسمالية الكوارث، لتنذر بتغيّر كبير في المشهد العالمي، فالاقتصاد بدرجة كبيرة يُؤثر في كل شيء، وليست أوروبا بعيدة عن هذا بالطبع.
منذ 2008 ويشهد العالم ما يُمكن تسميته بـ"الفوضى العارمة"، إذ وصلت الرأسمالية لمرحلة لم تعد تنفع معها الحلول
قبل أيام شهدت قضية إقليم كتالونيا محطة هامة، ويجدر بالأحرى القول إن أوروبا كلها شهدت محطة هامة، قد لا تقل أهمية وتأثيرًا عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإن كانت امتدادًا لها ولمجمل ما تشهده القارة العجوز بالتدريج، كحتمية تدفع نحوها السيرورة التاريخية.
اقرأ/ي أيضًا: في 8 نقاط.. كل ما تريد معرفته عن مجريات استفتاء استقلال كتالونيا
خلال السنوات العشر الأخيرة، وتحديدًا منذ 2008، ويشهد العالم ما يُمكن تسميته بـ"الفوضى العارمة". فقد وصلت أزمة الرأسمالية لمرحلة لم تعد تنفع معها الحلول، أو بتعبير المفكر المصري، أسامة القفاش: "لن يجدي الترقيع المالي، ولن يصلح العون القادم من مص دماء الشعوب، في إصلاح ما أفسده النسق ذاته"، وعليه كان طبيعيًا بدرجة ما أن يدخل العالم مرحلة إعادة التشكيل الصعبة لوجه السياسات بين السلطة والجماهير، فالأزمة التي ضربت سوق العقار في الولايات المتحدة محدثةً انهيارًا ماليًا مُرتحلًا، استقر أثره في أوروبا، كانت دافعًا لتوقع خروج هبات وانتفاضات اجتماعية، كان بعضها عنيفًا. من هؤلاء الذين توقعوا الهبات، جيمس بيتراس، أستاذ علم الاجتماع السياسي الأمريكي، الذي سمّى أزمة 2008 بـ"الكساد العالمي الجديد"، في إشارة إلى منه لأزمة "الكساد الكبير" في ثلاثينيات القرن الماضي.
توالت ملامح إعادة تشكيل وجه السياسات في أوروبا ما بعد الأزمة المالية، فازداد حضور أقصى اليمين، كما ازداد حضور أقصى اليسار في بعض الأحيان. وصل الأمر لدرجة أن حزبًا من أقصى اليمين المتطرف، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية وانكسار شوكة النازية التي ظُنّ أنها انكسرت للأبد، استطاع أن يدخل البوندستاغ (البرلمان الألماني). ليس ذلك فقط، بل ليكون ثالث أكبر حزبٍ في البوندستاغ، ليُعلن هزيمة ميركل وحزبها.
صحيح أنها ليست هزيمة في عدد الأصوات والتمثيل في البوندستاغ، لكنها هزيمة في الموقف السياسي، فلقد خسر حزب ميركل -أكثر الشخصيات انفتاحًا فيما يخص قضية اللاجئين- 8.7 نقطة عن الانتخابات الماضية، ليحقق نسبة 32.8% أي أنه يحتاج إلى حزبين آخرين على الأقل لتأسيس تحالف تكون نسبته في البوندستاغ الثلثين ليحقق ترجيحًا لمواقفه وسياساته، وهو أمر صعب المنال في ظل اختلاف كبير في سياسات الأحزاب، بما فيها حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، الحليف التقليدي لحزب ميركل، الحزب الديمقراطي المسيحي. وهذه أزمة ليست هينة تسبب فيها فوز حزب لا يُخفي بعض أعضائه انتماءهم لمن يسمون بـ"النازيين الجدد"، وفي ألمانيا!
بل حتى هبات 2011 في أوروبا والولايات المتحدة، كانت من ملامح إعادة تشكيل وجه سياسات العالم، سواء تظاهرات "حركة احتلوا وول ستريت"، أو حتى ما وُصفت بـ"أعمال عنف" كتلك التي شهدتها بريطانيا في آب/أغسطس 2011، ووصفت بأنها الأعنف منذ 15 عامًا على الأقل. وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو ملمح هام أيضًا، سبق وأن تنبأ بمثله البعض على خلفية أزمة 2008 الممتد أثرها إلى الآن.
أحدث تلك الملامح يتمثل في استفتاء انفصال كتالونيا عن إسبانيا. صحيح أن القضية الكتالونية قديمة، لكنها سياسيًا كانت تتسم بقدر من ضبط النفس والتفاوض وعقد الصفقات مع الحكومة المركزية في إسبانيا، لكن الآن الأمر مُختلف، سيطر الغضب، أو كما قال جيمس بادكوك في مقاله بفورين بوليسي، (ترجمه ألترا صوت): "لم يعد الجيل الجديد من القوميين الكتالونيين مهتمين، بنفس درجة اهتمام جيل آبائهم، بالحصول على مزيد من الحكم الذاتي أو حتى صفقة مالية أفضل مع الحكومة المركزية، وإنما رغبوا في اختيار مستقبلهم وتحديد مصيرهم. ويبدو أن اللحظة المناسبة للتفاوض قد فاتت".
مع ما سبق، ومع ما يعرفه الواقع، يبدو أن ما حدث في كتالونيا لن يكون الأخير، فالنزعات الانفصالية في أوروبا، وإن كانت قديمة، لكنها كانت خافتة، بدأت تتصاعدت تدريجيًا، وقد أشار إليها رئيس وزراء أيرلندا السابق جون بروتون، في مقال له بصحيفة تايمز الأيرلندية، حين قال: "إن أوروبا تواجه أزمة اقتصادية، حيث تسبب هذه الأزمة توترات في النزعات الانقسامية الدفينة منذ زمن بعيد".
في إسبانيا.. هناك أيضًا الباسك
عانى إقليم الباسك تحت حكم الديكتاتور الإسباني فرانثيسكو فرانكو، ولدى سكان الإقليم مظلمة ليرونها إلى الوقت الحالي، بالنسبة إليهم كافية لتبرير مطالبهم بالانفصال عن إسبانيا. لكن سببًا أكثر أهمية يلوح في أفق الباسك لتعزيز مطلب الانفصال، وهو الأزمة الاقتصادية التي خلفت كسادًا في الإقليم الصناعي الغني.
في إسبانيا ليس إقليم كتالونيا وحده الذي رغب في الانفصال، فهناك أيضًا إقليم الباسك الذي خاض معارك مسلحة من أجل الاستقلال
شهد الباسك على مدار عقود تحركات انفصالية مُسلحة، متمثلة تحديدًا في حركة "إيتا" التي قررت إيقاف الأعمال المسلحة في 2011، ثم إعلانها التوقف عن حمل السلاح وتسليمه في نيسان/أبريل 2017. لكن ذلك لم يمنع استمرار المطالبة بالانفصال على مستوى واسع بين الباسكيين، الذين قد تزيد خطوة استفتاء كتالونيا من حماسهم لاتخاذ خطوات أكثر جذرية نحو الحلم القديم، خاصة وأنه بالإضافة إلى مظلمة فرانكو، لدى الباسك مظلمة اُخرى يتشاركها مع كتالونيا، وهي عدم تناسب ما يُساهم به الإقليم الغني في الاقتصاد الإسباني المركزي، مع ما يحصده منه، خصوصًا مع سياسات التقشف التي اتبعتها حكومات مدريد تماشيًا مع أجندة الاتحاد الأوروبي.
اقرأ/ي أيضًا: بعد استفتاء استقلال كتالونيا.. شبح الحرب الأهلية يُخيم على إسبانيا
وبالفعل، دعا رئيس حكومة إقليم الباسك، إينيغو أركولو، في 24 أيلول/سبتمبر المنصرم، الحكومة المركزية في مدريد، إلى السماح لإقليمه بإجراء استفتاء للانفصال عن إسبانيًا، في نفس الوقت الذي كانت تستعد فيه كتالونيا لإجراء استفتائها، مُعتبرًا أن إقليمي الباسك وكتالونيا "من حقهما أن يقررا مستقبلهما بصورة ديمقراطية، وبضمانات".
بلجيكا.. أثرياء فلامندي يريدون الانفصال عن فقراء والون
بلجيكا، الدولة التي كانت جزءًا من هولندا حتى عام 1830، تنقسم لثلاثة أقاليم إدارية: إقليم فلامندي الشمالي وإقليم والون الجنوبي إضافة إلى إقليم بروكسل العاصمة.
ثمة نزعات انفصالية قديمة تعرفها بلجيكا على ضوء الاختلاف العرقي واللغوي والثقافي بين أقاليمها، خاصة الشمالي والجنوبي، فإقليم فلامندي يتحدث الهولندية مع ثقافة تنتمي لشمال أوروبا، فيما يتحدث إقليم والون الجنوبي الفرنسية مع ثقافة أكثر ارتباطًا بفرنسا وطابعها اللاتيني الكاثوليكي.
لكن ما يُؤجج الحس الانفصالي، إضافةً لما سبق، هو مجددًا الاقتصاد، إذ يقترب متوسط دخل الفرد في إقليم فلامندي (يمثل أكثر من 44% من مساحة بلجيكا) من 30 ألف يورو، في حين أن متوسط دخل الفرد في الإقليم الجنوبي، والون، يبلغ حوالي 20 ألف يورو. الإقليم الشمالي هو الأغنى، وذلك ما تكشفه أيضًا معدلات البطالة هناك التي تقل بنسبة معقولة عن باقي أنحاء بلجيكا، إذ تبلغ معدلات البطالة في فلامندي 4.55% في حين أنها تفوق الضعف في والون إذ تبلغ 10.12%.
إذن، وبتعبير الصحفي خالد شمت، فإن سكان إقليم فلامندي "الأثرياء" باتوا غير راغبين في تقاسم الأعباء المالية مع "فقراء" إقليم والون الجنوبي.
الانفصال عن إيطاليا.. مطلب أهل الشمال
الانفصال عن روما مطلب يتشارك فيه إقليمان شماليان، الأول تيرول والثاني البندقية. أما إقليم تيرول الواقع شمال إيطاليا على جبال الألب، والمعروف أيضًا بمقاطعة بولسانو، فهو إقليم غني بالنفط يتحدث 70% سكانه بالألمانية، ويرى سياسيون ينتمون إليه أنهم ليسوا إيطاليين، وأن إيطاليا دولة مُستعمِرة، لذا يسعون إلى الانفصال عنها، لدرجة أنهم طالبوا بشراء "حريتهم من الهيمنة الخارجية الإيطالية"، مقابل 15 مليار يورو، هو نصيب تيرول من إجمالي الدين الإيطالي البالغ في 2014 أكثر من تريليوني يورو.
من جهة أخرى هناك البندقية، عاصمة إقليم فينيتو الشمالي، التي يُحاول أبناؤها استعادة مجد مدينتهم التاريخية. ويبدو لهم أن ذلك لن يتحقق في ظل التورط مع بلد مدينة بمئات المليارات، في حين أن البندقية تعتبر من أغنى مدن إيطاليا بالسياحة والصناعة، ويُساهم سكانها في الاقتصاد الإيطالي المتداعي بنحو 70 مليار يورو كضرائب، في مقابل أنهم لا يحصلون سوى على 50 مليار يورو فقط كخدمات من الحكومة المركزية.
يطالب إقليمان مختلفان شمال إيطاليا بالانفصال لأسباب اقتصادية تتعلق بتداعي الاقتصاد الإيطالي الرازح تحت مئات المليارات من الديون
والاستفتاءات الشعبية واستطلاعات الرأي تكشف عن رغبة أغلبية سكان الإقليم في الانفصال عن إيطاليا، آخرها كان استفتاء شعبي أجري عبر الإنترنت في آذار/مارس 2014، صوت فيه لصالح الانفصال أكثر من 88%.
اقرأ/ي أيضًا: