اختفى الراعي حُميدان الصلّوح في البرية التي جاء منها. حُذفت شجرةُ الليمون الصغيرة من قائمة رواة وشهود الأرض المحتلة. لن يضحك العامل العائد من ورديته الليلة في معمل السكر حين يقرر شرب الشاي ولا يجد سكرًا في منزله. لن يكون بوسع أطفال المدارس بعد الآن أن يعيشوا قصص كليلة ودمنة كلعبة من ألعاب الطفولة.
هؤلاء وسواهم شُطبوا عندما اغتيل كتاب القصة القصيرة في المنهاج التعليمي السوري، والغريب أن ذلك تزامن مع بدايات الثورة، خلال العام الدراسي 2011-2012.
حُذفت مادة القصة القصيرة من المناهج السورية إثر تغييرات لتطوير المناهج التربوية، في سياق سوريا التي طمح بشار الأسد أن يطبعها بطابع اللبرلة الاقتصادية
جاء حذف كتاب القصة إثر تغييرات لتطوير المناهج التربوية، في سياق سوريا التي طمح بشار الأسد إلى أن يطبعها بطابع قائم على لبرلة اقتصادية، وإطلاق يد رجال الأعمال، وجذب الاستثمارات، والادعاء بطي صفحة دكتاتورية والده بإلباسها ثوبًا عصريًا، والسعي لاكتساب شرعية سياسية عربية ودولية، لغض النظر عن مسألة التوريث التي أعلنت نجاح أول حكم سلالي في جمهورية عربية. وفي سياق هذه التغييرات كان لا بد من تغيير المناهج، وهو أمر تم قبل ذلك بزمن، لكن الذي جرى في هذا الوقت هو حذف مادة القصة، وهي مادة رديفة تعزّز مادة اللغة العربية من جانب، وتضع التلاميذ في عالم قصصي متنوع يقدّم لهم صورًا وأفكارًا محلية وعالمية. هذا كما تبدو من بعيد، لكنها تعبّر في العمق عن جوهر التصور السوري المعاصر لبلد عانى من الاستعمار والطغيان، ودائمًا وجد نفسه داعمًا لحوار منذ بدايات القرن العشرين.
بيّن ذلك التزامن أن الواقع السوري الجديد لم يعد قابلًا لأن يُصنع زورًا من قصر الدكتاتور أو من مكاتب أجهزته الأمنية، بل من خلال الشعب الذي يسعى إلى تغيير صيغة الحكم لتصبح أكثر تعبيرًا عنه كشعب حي يريد استعادة زمام شخصيته التاريخية.
في وجه من الوجوه، مثّل كتاب القصة المحذوفُ صورةً مصغرة لقصة سوريا المختلف عليها، بين سلطة لا تريد أن تغيّر سوى اسمها، وبين شعب يريد تغيير تلك السلطة التي لم يعرف عنها سوى العنف والكذب. صحيح أن الأمرين التقيا صدفةً، لكنها صدفةٌ تحمل دلالة خاصة لو أمعنا النظر فيها: هناك قصة رمزية تُحذف في مقابل تحولها إلى قصة واقعية.
إسقاط هذه المادة إدانة لهشاشة علاقة النظام بسرديته، واللافت أنه حين أسقطها لم يضع بدلًا منها سوى منهاج عولمي بلا ملامح سورية أو عربية.
يعود تاريخ هذه المادة مع المنهاج القديم كله إلى بدايات سبعينيات القرن الماضي، وجرى توحيدها بين سوريا والأردن وفلسطين بداية عام 1976. وبما أن المناهج الأردنية مقررة في مدارس الضفة الغربية آنذاك كان من الطبيعي أن يشملها التوحيد الذي استمر حتى عام 1992، وبعد ذلك استمرت الكتب في سوريا وحدها حتى بدايات الثورة.
جرّبتُ فاعلية هذا الكتاب مرتين، تلميذًا في الأولى، ومعلمًا في الثانية، وفي المرتين ظهر أمران لا يمكن التغاضي عنهما؛ الأول أن القص أحد أهم وسائل التعليم، والثاني أن التلاميذ يقومون من خلاله بإنشاء مقاربات حاسمة. ففي آخر سنة لي في هذه المهنة، وفي درس قصة "مظاهرة في غزة" التي تحكي كيف قامت فتاة مقعدة بإلهاب تشييع شهيد، لتحوّله إلى مواجهة مع جيش الاحتلال انتهت بأربعة شهداء. وقتها قام تلميذ ليملأ الصف بصرخة من اكتشف سرًّا: "هذا ما يحدث عندنا في داريا!".
أما أنا فلن أنسى قصة "شجرة الليمون الصغيرة" التي سحرتني الرسومات المرافقة لها في كتاب خالتي التي تكبرني عمرًا، قبل أن أكون قادرًا على القراءة، فحكتها بطريقة مؤثرة مستجيبةً لإلحاحي. ولاحقًا رحتُ، حين صرتُ تلميذًا، ومن ثم معلمًا؛ أستعيد صوت خالتي مع النص وكأنها شجرة الليمون الصغيرة نفسها وهي تحكي قصة عائلة أبي باسم. منذ أعطاها الأب لابنه باسم غرسةً ليزرعها في البيت، لا في البيّارة. ستتحدث الشجرة كيف جاء الجنود الصهاينة وقتلوا أبا باسم في أرضه، وكيف هُجّر باسم وأمه إلى مخيمات بعيدة، ومن ثم عودة باسم فدائيًا، حيث عرفته منذ اللمسة الأولى من رائحته، فالأشجار لا تنسى رائحة من يزرعها، ووقتها سيفجر باسم البيت بالدخلاء الذين فيه، وسيحكي للشجرة الأشياء التي لم تكن شاهدة عليها، لتحكي لنا في تلك القصة.
جرى توحيد المناهج بين سوريا والأردن وفلسطين بداية عام 1976. وبما أن المناهج الأردنية مقررة في مدارس الضفة الغربية كان من الطبيعي أن يشملها التوحيد الذي استمر حتى عام 1992
هذا النهج، سيستمر في صف لاحق، مع قصة "معركة الشاغور"، الذي يضع التلاميذ في أجواء الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي. ولاحقًا سيكونون على موعد دسم مع قصص غسان كنفاني الذي سيقرؤه في مختارات قصصية بعنوان "حق لا يموت"، وهي مختارات بشكل رئيسي من روايتي "عن الرجال والبنادق" و"أم سعد" وبعض من قصص الكاتب القصيرة. مع غسان كنفاني يتعرف السوري الصغير إلى أسئلة المقاومة والحق والواجب،إضافة إلى حالات إنسانية متعددة الملامح.
إلى جانب ذلك هناك قصص في مواضيع إنسانية متعددة، ربما ليست كلها صالحة لأطفال اليوم نظرًا إلى المَلَكات التي يتمتعون بها، وفرص اطلاعهم الواسعة بحكم التكنولوجيا، وإن كان هذا يقود إلى اختيار قصص أقل سذاجة فإنه لا يقود بحال إلى فكرة حذف الكتاب.
سقطت تلك النصوص في وقت أنشأ فيه الواقع السوري نصوصًا أخرى، أبطالها هم قراؤها. فمن أطفال درعا إلى سواهم في عموم البلاد كُتبت قصةُ سوريّةٌ جديدة، لا يمكن لمنهاج مقبل إلا أن تصبح أسّه وأساسه.
حين جاؤوا ليحذفوا قصة سوريا قام الواقع بكتابتها من جديد. وبذا رأينا الواقع يحمي نصوصه كي تحمي النصوص الواقع. هذه علاقة سرية لا يعرفها إلا من يصنعون القصص بدمائهم.