كانت حياة دانييل أورتيغا، رئيس نيكاراغوا، حافلة بالتناقضات الغريبة. إذ إن الرجل الذي صارع ضد الحكومة في نهاية السبعينات مع الجبهة الساندينية للتحرير الوطني، ليس هو نفسه الرئيس الذي خسر انتخابات عام 1990 بعد استبعاده للفلاحين، ولا الرجل الذي نجح في العودة بعد سنوات طويلة في انتخابات 2006 و2011. وهو ليس بالتأكيد نفسه، من يدير عمليات القمع المنظمة ضد المعارضة في هذه الفترة.
كانت حياة دانييل أورتيغا، رئيس نيكاراغوا، حافلة بالتناقضات الغريبة والمواقف والأفكار المختلفة
يبين المؤرخ والمحاضر الجامعي جيفري غولد، في هذه المقالة المترجمة عن مجلة "جاكوبين"، أن أورتيغا لم يتعلم من الأزمات التاريخية الكثيرة التي تعرضت لها بلاده، وهو يعيد الآن، بشخصيته الإشكالية والمتناقضة، أشكال القمع المنظمة التي قام بها الفاشيون والديكتاتوريون في بلاده وفي القارة اللاتينية جميعها.
في عام 1983، كنت أقرأ الصحف القديمة في الأرشيف الوطني لنيكاراغوا في قبو البيت الرئاسي ومقر الحكومة. وكنتُ مدفونًا في صراع عُمالي من عام 1944، فلم أنتبه كثيرًا للمحادثة التي كانت تجري على بعد بضعة أقدام مني. بعض الناس كانوا يتحدثون عن عائلاتهم وعن البيسبول. رفعتُ نظري ورأيتُ دانييل أورتيغا يتحدث إلى موظف الأرشيف، ومعه مساعده والحارس. حيّاني ثم واصل حديثه باسترخاء شديد بالنسبة لرئيس دولة تخوض بلاده حربًا.
على الرغم من أنني إلى حد ما كنتُ منتقدًا لأورتيغا وللقيادة الساندينية، إلا أنه ترك لديّ انطباعًا قويًا كإنسان مهذب ومتواضع تمامًا. قبلها ببضعة أيام، كان شقيقه هومبيرتو، الذي كان وزيرًا للدفاع آنذاك، قد ترك لديّ هو الآخر انطباعًا لا يُمحى عندما قام بملاعبة ابنتنا ذات الأعوام الثلاثة على ركبته في مطعم مكشوف.
اقرأ/ي أيضًا: روبين داريو.. حداثة لاتينية
هذه الذكرى تجعل من الاتفاق مع التقارير الإخبارية حول دور أورتيغا النشط في القمع العنيف للناشطين المناهضين للحكومة عسيرًا. في نيسان/أبريل، بدأ الطلاب ومعهم بعض الفلاحين وغيرهم الاحتجاج على استجابة الحكومة البطيئة لحريق هائل في منطقة محمية، ثم على ضرائب الضمان الاجتماعي الجديدة. توسعت الحركة بعدها بسرعة كردٍ على جهود الحكومة في سحق الاحتجاجات. ذكريات ثورية أم لا، علينا أن نواجه الواقع.
بينما كان أورتيغا يغادر الأرشيف في ذلك اليوم في عام 1983، قال للمجموعة "استمروا في العمل الجيد. إنه مهم جدًا لبلدنا". وعلى مدار السنوات القليلة التالية، وأنا أنهي البحث الخاص برسالتي، استرجعتُ هذه المحادثة وفكرت: "أتمنى لو أنه اهتم بالتاريخ فعلًا".
بوصفه رئيسًا في فترة الثمانينيات، وافق أورتيغا وبقية قادة حزب الجبهة الساندينية على رؤية خاصة بتاريخ نيكاراغوا تستبعد إلى حد كبير حركات العمال والفلاحين التي لم يكن أوغستو ساندينو أو الساندينيون هم من قادها. وقتها، رأيتُ صلة مباشرة بين وجهة النظر تلك للتاريخ، والمسافة المتنامية بين الحكومة الساندينية والمناضلين من الفلاحين الذين كافحوا من أجل الأرض لعقود.
أدت الهزيمة الانتخابية للجبهة الساندينية للتحرير الوطني، في عام 1990، – التي كانت ترجع بشكل جزئي للاستبعاد النسبي لقواعد الفلاحين في الحزب - إلى تفكك ما كان قيادة متجانسة إلى حد ما. انشق كثير من المفكرين الساندينيين والقيادات رفيعة المستوى عن أورتيغا في مؤتمر الحزب في عام 1994. شكا المنشقون، بقيادة النائب السابق للرئيس والكاتب الشهير سيرجيو راميريز، من انعدام الديمقراطية الداخلية التي منعت الانتقاد والمعارضة، لسيطرة أورتيغا على حزب الجبهة الساندينية للتحرير الوطني.
وقتها شكل المنشقون حزبًا جديدًا، هو حركة التجديد السانيدينة Movimiento Renovador Sandinista، ولكنهم واجهوا صعوبة في الدخول في حوار جدي مع بقية مناصري حزب الجبهة الساندينية للتحرير الوطني. كان الكثيرون من هؤلاء العمال الحضريين والريفيين قد اكتسبوا صوتًا وكرامةً خلال الثورة؛ معظمهم كان قد فقد أحباءه في الثورة أو خلال حرب الكونترا. عمومًا، كانوا يدينون بالامتنان الشديد إلى حزب الجبهة الساندينية للتحرير الوطني، وبالتالي إلى أورتيغا. انضم بطلا الساندينية (دورا ماريا تيليز، التي قادت الاستيلاء على القصر الوطني في عام 1978، وهنري رويز، قائد حرب العصابات الرئيسي طوال السبعينات وأحد القادة التسعة في الثمانينيات)، إلى راميريز لرئاسة حركة التجديد الساندينية.
إلا أنهما لم يتمكنا من اختراق جدار التضامن الذي ساعدا في بنائه خلال السبعينات والثمانينات: كان أي هجوم على حزب الجبهة الساندينية للتحرير الوطني هجومًا على الثورة وكل ما هو مقدس لدى شعب نيكاراغوا. لم تكن هناك حركات اجتماعية قائمة على المساواة أو تناهض الليبرالية الجديدة بحيث يمكن لحركة التجديد الساندينية المشاركة من خلالها وبناء حزب من الصفر إلى القمة. عام 2006، كان يمكن أن يفوز عضو حركة التجديد الساندينية وعمدة ماناغوا الشهير هنري ليويتز بالانتخابات الرئاسية، لكنه توفي بسبب نوبة قلبية قُبيل إجرائها. منذ تلك النقطة البارزة، لم تتمكن حركة التجديد الساندينية من الحصول على دعم شعبي كبير، وقد يتغير ذلك مع الثورة الحالية.
إذً ما الذي يفسر ازدياد الدعم لأورتيغا بين انتخابه في 2006 و2011؟ في عام 2006، كان قد حصل على 38% من الأصوات، لكنه في عام 2011 حصل على أكثر من 60%. لم يتمكن المفكرون الساندينيون السابقون مثل تيليز ورويز، وغيرهم كالصحفي كارلوس فرناندو شامورو، من تقديم إجابات مقنعة على هذا السؤال. إلا أنهم استنكروا بشجاعة النزعات الاستبدادية المتزايدة لإدارة أورتيغا، بما في ذلك الضغط من أجل إدخال تغييرات دستورية لإزالة الحدود الزمنية للولايات. وبالمثل، شجبوا الطريقة السرية التي وافق بها أورتيغا على مشروع بناء قناة تصل بين المحيطين لها ممول صيني، ما سيؤثر على مساحة كبيرة من أراضي الفلاحين السكان الأصليين. منحتهم هذه المعارضة المتواصلة درجة من الشرعية داخل حركة الاحتجاج الضخمة.
ومع ذلك، من الصعب التأكد من درجة الدعم التي يحظى بها أورتيغا حتى الآن. في انتخابات عام 2016 والتي كانت موضع تساؤل كبير، حصل أورتيغا على أكثر من 70% من الأصوات – وكانت معدلات الامتناع عن التصويت ما بين 30%، وفقًا للمجلس الانتخابي الأعلى، و70% وفقًا لجماعات المعارضة الرئيسية.
لا تساعدنا التعليقات الرافضة المعتادة عن (مدفوعات النظام المباشرة للفقراء) أو asistencialismo، كأمر هام في دعم أورتيغا كثيرًا. التقدميون من الثمانينيات عليهم أن يتذكروا الشعور الجديد بالكرامة والتمكين اللذين شعر بهما شعب نيكاراغوا عندما خرج من الفقر المدقع. المحسوبية لا تزال موجودة ومستمرة، ولكن هذه أداة مفاهيمية ضعيفة لفهم هذه الصورة المنحرفة الجديدة من الساندينية.
الخطاب المضاد لأورتيغا هو الآخر لا يساعدنا على الفهم، رغم أنه يساعد في تفسير دعم جزء من اليسار الدولي الذي أثرت كراهيته للإمبريالية الأمريكية على قدرته على التفكير النقدي. ومثل الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، يستطيع أورتيغا أن يشير بفخر إلى الدور الرئيسي للنخبة الثرية والكنيسة الكاثوليكية في المعارضة. وبالمثل، يمكنهم وصف الدعوات لإزالة أورتيغا بالانقلاب ضد حكومة منتخبة متحالفة مع اليسار الأمريكي اللاتيني. يمكن للنظام أن يثبت بسهولة أن بعض القيادات الطلابية من التحالف المدني للعدالة والديمقراطية دخلوا بشكل منتظم في حوار مع الجمهوريين أمثال ماركو روبيو وتيد كروز ومع حزب التحالف الجمهوري القومي اليميني السلفادوري (ARENA). ولكن مهما كان الدور الفعلي للولايات المتحدة، فإنها سترحب بالتأكيد "بتغيير النظام".
اقرأ/ي أيضًا: إشكالية خطاب ترامب ضد فنزويلا.. إعادة إنتاج النظام عبر تهديده
يمكن أن يعرض نظام أورتيغا صورًا لعشرات الآلاف من المؤيدين في احتفال 19 تموز/يوليو، والذين يحمل العديد منهم تراب هذه الأرض. بالتأكيد يظن الكثيرون منهم أن رحلتهم من الفقر المدقع ستتعرقل إذا أُطيح بأورتيغا من منصبه. وهناك مظاهرة حديثة أبرزت عائلات الـ21 الذين سقطوا من رجال الشرطة. وجوه الناجين لا علاقة لها بالادعاء. تدحض هذه الصور فكرة أن المعارضة غير مسلحة، على الرغم من عدم وجود أي دعم من أي قوة أجنبية أو "شيطانية" بالأسلحة المتطورة.
وعلى الرغم من فعاليته، فإن الخطاب المناهض للتهديد الخارجي بتغيير النظام العنيف مُحرف بشدة. المعارضة ليست متجانسة: فهي تشمل اليمينيين والديموقراطيين الاجتماعيين والأناركيين، وبلا شك تتلقى بعض الدعم من بعض الجوانب المظلمة جدًا في العالم. لا يوجد ما يُخبر بنتيجة الصراع الحالي أو بما سيحدث إذا ما نجحوا في إسقاط ما وصفه المحتجون بأنه نظام إرهاب، وهو نظام سجن المئات منهم. هناك أدلة قاطعة على أن حكومة أورتيغا مسؤولة عن معظم الوفيات التي فاقت الثلاثمائة حالة منذ نيسان/أبريل الماضي. وقد أدانت لجنة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان "الاستخدام المفرط والتعسفي للقوة" لنظام أورتيغا.
أدت الهزيمة الانتخابية للجبهة الساندينية للتحرير الوطني في عام 1990، إلى تفكك ما كان قيادة متجانسة إلى حد ما. وانشق كثير من المفكرين الساندينيين عن أورتيغا
بالعودة إلى تعليقات أورتيغا لموظف الأرشيف عام 1983. بشكل ما، بالنسبة لكثيرين من أنصاره لا يزال أورتيغا يمتلك هالة كاريزمية من العظمة التاريخية. ومع ذلك، من ناحية أخرى، فهو يُظهر جهلًا بالتاريخ كما خلق صورًا بغيضة تنساب منها السخرية التاريخية. كان أنصاره المسلحون شبه العسكريين يرتدون قمصانًا زرقاء ويُطلق عليهم نفس الشيء.
هل نسي أورتيغا "القمصان الزرقاء"، وهي جماعة مؤيدة لسوموزا وللفاشية منذ منتصف الثلاثينات؟ أو نسي أنه في أواخر السبعينات والثمانينات، قامت فرق الموت اليمينية السلفادورية بأعمالها الإرهابية مرتدية أغطية تخفي الرؤوس؟ اليوم، هناك أغطية رأس شديدة الشبه تغطي رؤوس القمصان الزرقاء وهم يطلقون النار على على المتظاهرين الذين يقاومون بأسلحة محلية الصنع من وراء حواجز مؤقتة مرصوفة بالحجارة. نسخ متماثلة تمامًا لتلك التي بناها مقاتلو الساندينية في عامي 1978 و1979، في العديد من المواقع نفسها، مثل الأحياء المحلية في مونيمبو وسوتيافا والأحياء الشرقية من ماناغوا. ألا يوجد إحساس بالعار؟ أو معنى للتاريخ؟ وكيف يمكن لجبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني في السلفادور مواصلة دعم أورتيغا، مع رؤية هؤلاء الرجال المقنعين الذين يطلقون النار على المتظاهرين؟ ألا يشعرون بالغثيان من حالة الديجا فو هذه؟
اليوم، يبدو أن النظام قد جرف الحواجز بعيدًا، وربما بدأ في قمع الانتفاضة التي استمرت ثلاثة أشهر، على الأقل في الوقت الراهن. لا يمكن لليسار الدولي أن يساهم في سلام أكثر ثباتًا متأصل في العدالة الاجتماعية من خلال تزويد النظام بشرعية أهدرها بالعنف. يجب على حزب الجبهة الساندينية للتحرير الوطني، بنضاله ومقاومته التي تبلغ سبعة وخمسين عامًا، أن يعيد الآن تشكيل نفسه، خطوة بخطوة.
اقرأ/ي أيضًا: