يرى أشد المتفائلين بقرارات بايدن الأخيرة أن الصواريخ الأميركية بعيدة المدى التي سمحت واشنطن لكييف باستخدامها في ضرب أهداف داخل الأراضي الروسية، قد تساعد القوات الأوكرانية في الاحتفاظ بكورسك، لكنها لا تستطيع تغيير مسار الحرب بشكل كبير.
وإذا نظرت كييف إلى نصف الكوب الممتلئ فستكون بيدها ورقة ضغط قوية في محادثات السلام المتوقعة لإنهاء الحرب مع دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
في التفاصيل يكمن الشيطان
لاشك في أن القرار الأميركي إيجابي بشكلٍ عام على الموقف الأوكراني، لكن في تفاصيل الموافقة الأميركية توجد الكثير من التقييدات الاحترازية التي تهدف بشكلٍ أساسي إلى تقليل مخاطر التصعيد قدر الإمكان، وبسبب هذه القيود لن يكون بمقدور القوات الأوكرانية أن تغير مسار الحرب بشكلٍ كبير.
بقاء القوات الأوكرانية في كورسك الروسية يُحسن من وضع كييف في مفاوضات إنهاء الحرب مع روسيا
وذلك ما لفت إليه وزير الدفاع الأوكراني السابق أندريه زاجورودنيوك بقوله في تصريحٍ لصحيفة "نيويورك تايمز": "نعم، ستساعد الصواريخ المضادة للطائرات في كورسك، لكن العدد المتاح قليل جدًا وقرار السماح باستخدامها جاء هو الآخر متأخرًا جدًا".
مساحة صغيرة جدًا
القيد الأول الذي فرضته الإدارة الأميركية على استخدام كييف لصواريخها بعيدة المدى هو قيد جغرافي، حيث يقتصر إذْن استخدام صواريخ أتاكمز على منطقة كورسك التي تحاول أوكرانيا الاحتفاظ فيها بموطئ قدم صغير لاستخدامه كورقة تفاوضية إذا أجبر دونالد ترامب الجانبين على الدخول في محادثات سلام. وتجدر الإشارة ههنا إلى أن القوات الروسية والكورية الشمالية بدأت بالفعل في شن هجوم مضاد في محاولة لاستعادة كورسك قبل تنصيب ترامب في كانون الثاني/يناير المقبل، الأمر الذي يجعل قرار بايدن مهمًا لأوكرانيا.
وفي هذا الصدد، يرى زاجورودنيوك أن القدرة على ضرب الإمدادات ومراكز القيادة ونقاط التجمع في عمق المنطقة من شأنها أن تحدث فرقًا كبيرًا في الدفاع الأوكراني.
لكن الخبراء يشددون على أن القتال في كورسك تكتيكي، حيث يستخدم كلا الجانبان هجمات وحدات صغيرة متفرقة للغاية للاستيلاء على الأرض أو استعادتها.
والحقيقة المرة التي على أوكرانيا تجرعها في هذا السياق هي أن العديد من الأهداف النوعية التي تقع في نطاق صواريخ أتاكمز لا تزال مستثناةً من الاستهداف والضرب، ويتعلق الأمر بمئات القواعد الجوية وغيرها من المنشآت العسكرية في مناطق سمولينسك وكالوغا وبريانسك وتولا وليبيتسك وبيلغورود وفورونيج وروستوف وكراسنودار.
ولا شك أن روسيا التي تعاملت بحذرٍ مع القرار الأميركي بادرت إلى تفريق قواتها ومعداتها تجنبًا للضرب بصواريخ أتاكمز الأميركية بعيدة المدى. وبناءً عليه، فإن بنك الأهداف المتاح للأوكرانيين محدود جدًا حسب المتابعين.
فوات الأوان
يتعلق القيد الثاني بعامل الوقت، فقبل القرار أضاع الأميركيون وقتًا كبيرًا وهم يقدمون رجلًا ويؤخرون أخرى رغم مطالب الأوكرانيين المبكرة بالسماح لهم باستخدام الصواريخ بعيدة المدى في استهداف العمق الروسي، مع الإشارة إلى أنه في المرة الأولى التي تلقت فيها أوكرانيا صواريخ دقيقة من الغرب، في خريف عام 2022، نجح الأوكرانيون في تغيير قواعد اللعبة، إذْ أحدثت صواريخ GMLRS وصواريخ هيمار أميركية الصنع دمارًا في القيادة والسيطرة واللوجستيات الروسية، ولعبت دورًا رئيسيًا في نجاح الهجمات الأوكرانية في خيرسون وخاركيف. إلا أن ذلك كان قبل عامين. وبعدها، مُنح لموسكو الوقت الكافي للتكيف، من خلال تشتيت اللوجستيات وتركيز القوات أو في تطوير قدرات التشويش والاعتراض.
فبعد عام من الطلب، تلقت أوكرانيا لأول مرة صواريخ أتاكمز بمدى 300 كيلومتر، في أواخر عام 2023. وقد استخدمت هذه الصواريخ في تنفيذ العديد من الضربات التي استهدفت القواعد الجوية الروسية في شبه جزيرة القرم.
لكن النقاش العام حول السماح بإطلاق تلك الصواريخ نحو الأراضي الروسية طال أمده لدرجة أن موسكو اتخذت بالفعل تدابير مضادة. ففي آب/أغسطس الماضي، قدر معهد دراسة الحرب أن روسيا أعادت نشر طائرات من 16 قاعدة جوية على الأقل كانت ضمن نطاق صواريخ أتاكمز.
فرضت إدارة بايدن قيودًا عدة على استخدام أوكرانيا للصواريخ بعيدة المدى
ويرجع الكثير من المتابعين تردد إدارة بايدن في منح أوكرانيا الضوء الأخضر لاستخدام الصواريخ بعيدة المدى لضرب أهداف في العمق الروسي، إلى القلق الأميركي بشأن إدارة خطر التصعيد المباشر مع روسيا. لكن روسيا رفعت مستوى الرهان بتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مع كوريا الشمالية أرسلت الأخيرة بموجبها قواتها إلى المنطقة. واستباقًا لعودة ترامب باغتت موسكو الأوكرانيين بهجوم هائل الأسبوع الماضي استهدف منشآت الطاقة، وذلك تمهيدًا لشن هجوم واسع النطاق لاسترداد المناطق التي سيطر عليها الأوكرانيون في كورسك الروسية.
وينتقد الأوكرانيون على حلفائهم الأميركيون أنهم انتظروا كل هذه التطورات لاتخاذ قرارهم بالموافقة على استخدام الصواريخ الأميركية بعيدة المدى من طرف القوات الأوكرانية لضرب الأهداف الموجودة في الأراضي الروسية. لكن القرار على الرغم من أنه جاء متأخرًا فقد جاء أيضًا مقيدًا.
يعتقد المحللون للحرب الأوكرانية أن هذا الافتقار العام إلى الاستراتيجية أفسد جهود الدعم الغربي لكييف منذ بدء الحرب.
عدد محدود جدًا من الصواريخ
القيد الثالث على استخدام الأوكرانيين للصواريخ الأميركية بعيدة المدى ضد أهداف في العمق الروسي يتعلق بكمية الصواريخ، حيث تتحدث المصادر عن عشرات الصواريخ فقط، في حين تحتاج أوكرانيا للمئات من صواريخ أتاكمز لإحداث تغيير حقيقي على الميدان.
وفي هذا الصدد، سبق لرئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، كيريلو بودانوف، أن قال العام الماضي في لقاء صحفي إنه "إذا كان الأمر يتعلق بـ100 صاروخ، فلن يغير ذلك الوضع على الأرض"، مؤكدًا حاجة أوكرانيا إلى "مئات الصواريخ بعيدة المدى على الأقل".
إن الأعداد الدقيقة لصواريخ أتاكمز التي تلقتها أوكرانيا وعدد الصواريخ المتبقية لديها من هذه الصواريخ لا تزال سرية، لكن الجميع يعلم أن بعض المسؤولين في البنتاغون قاوموا إرسال أعداد كبيرة من تلك الصواريخ إلى أوكرانيا لأن مخزونات أميركا محدودة وضرورية لتلبية التزاماتها الدفاعية في أماكن أخرى وخاصة في المحيط الهادئ.
وبالنظر إلى الوضع الحالي، من غير المعروف ما إذا كانت إدارة بايدن تمتلك من الشجاعة ما يجعلها تزود كييف بحاجتها الكافية من صواريخ أتاكمز وغيرها من الصواريخ بعيدة المدى قبل تولي دونالد ترامب منصبه في البيت الأبيض بتاريخ 20 كانون الثاني/يناير المقبل.