بات مشروع اليوميات عند حسونة المصباحي مشروعًا واضحًا ومعلنًا وجزءًا من مشروعه الأدبي، وبات يتصيد كل مرة موضوعًا ليوميات جديدة يروي فيها معيشه اليومي، فبعد "يوميات الحمامات" و"يوميات ميونيخ" يطلق صاحب "هلوسات ترشيش" كتابه الجديد "يوميات الكورونا" عن دار نقوش عربية بتونس.
اليوميات مطبخ الكتابة الروائية الكبير الذي يستولي بطابعه الأمبريالي على كل شيء ليشيد روائيته الخاصة
يرتفع المصباحي بهذه الممارسة الفنية من واقعها العرضي عند بعض الكتاب إلى المشروع وإلى النشاط الدائم الملازم لحياة الكاتب دون أن يتركها خفية ونزيلة الأدراج بل يدفع بها للنشر في وقت قياسي. ولئن كان تجنيسه لكتابه "العودة إلى ميونخ" 2016 فيه شيء من التردد عندما أطلق عليه "مجموعة خواطر" على الرغم من أنها يوميات مؤرخة، فإن عبارة يوميات قد تصدرت عناوين كتبه الأخرى "يوميات ميونخ" و"يوميات الحمامات"2017 و"يوميات الكورونا"2020.
اقرأ/ي أيضًا: أدب اليوميات.. ممكن في الفضاء العربي؟
يوميات الكورونا
مثّلت أيام الحجر الصحي في آذار/مارس ونيسان/أبريل 2020 زمنًا استثنائيًا لكتّاب الذات في العالم، وخاصة كتاب اليوميات فالفترة المحدودة في الزمن حرّضت هؤلاء الكتاب على خوض هذه التجربة كما الفترات الاستثنائية الأخرى التي عاشتها البشرية كالحروب والانتفاضات والتي وهبت للكتاب أيضًا الوقت للكتابة وللتأمل. وهذا ما دفع بالعشرات منهم إلى كتابة يومياتهم مدفوعين بالرغبة في تسجيل الأحاسيس والمواقف أو بالرغبة في قتل الوقت وإهداره في شيء إيجابي والتغلب على الضجر فالساعات التي كانوا يهدرونها خارج البيت في العمل والتسوق والتنزه وقضاء أشياء ضرورية وأخرى غير ضرورية أصبحت تثقل عليهم وتشعرهم بغربة. غربة هذا الكائن الذي رمي في كل هذا الفائض من الوقت وعندما يقترن هذا الوقت الكبير بالخطر في حالة أيام الكورونا؛ الخطر من المرض ومن الخروج، يدفع كل ذلك الخطر الإنسان الكاتب إلى البحث عن ملجأ يحتمي به من كل ذلك فكان الكتابة.
هنا يمكن أن ننزل يوميات الكورونا لحسونة المصباحي التي امتدت بين 14 آذار/مارس إلى 3 أيار/مايو من سنة 2020 أي قرابة الشهر والنصف تكاد تكون كرونولوجية يومًا بيوم، باستثناء بعض البياضات القليلة التي توقّف فيها الكاتب عن التسجيل.
شكل اليوميات
يسجل حسونة المصباحي يومياته وفق شكل معين اجترحه لهذا الكتاب يتكرر في وتيرة دائمة، فتبدأ اليومية عادة بمقطع شعري أو فلسفي يقول الكاتب أنه يبدأ به نهاره ثم ينطلق في الموضوع الأساسي لليومية الذي قد يكون محفز الحديث فيه المقطع الذي بدأ به يومه وقد لا يكون له علاقة. وكأن بالكاتب يريد أن يحمي يومه بالأدب الجيد منذ الصباح قبل الانغماس في اليومي، فيطعم الكاتب الأديب مبكرًا قبل أن ينشغل بحاجة المفكّر والمثقف والكائن الاجتماعي. كما أن هذه المقاطع الافتتاحية تعطي ميكانزمات دفاع للذات الكاتبة لتواصل رحلة المقاومة التي تخوضها للبقاء في واقع سياسي واجتماعي رديء وهي في ذات الوقت جرعة الجمال والحياة قبل التوغل في وحل واقع الموت اليومي. وتوزعت مداخل اليوميات على الكتاب: سيف الرحبي، وليام بليك، طالياسين، راينر ماريا ريلكه، القديس بطرس، لي بو، دانتي، شوقي بزيغ، الياس كانيتي، فيتكانشتاين، سيروان، جون دون، بابلو نيرودا، جيم هريسون، نوري الجراح، أبي العتاهية، هولدرولين، بول ليوتو، لوران غسبار، كافكا، وليد الانصاري، بول الوار، غوته، المتنبي، أحمد فارس اللغوي، حنة آرنت، ميغال دو أونامونو، أبي تمام، البحتري.. كما يبدأ يومياته أحيانًا بمقاطع له كتبها على نحو شعري.
فترة الكورونا فترة سياسية وطنية ودولية، فهي حرب دولية علمية من أجل الوصول إلى اللقاح، وهي حرب دولية لإنقاذ الاقتصاد
عكست هذه العتبات النصية لليوميات ثقافة الكاتب من ناحية وذائقته الفنية وتنوع مشارب حياته الثقافية التي تنغمس عميقًا في قراءة الشعر والفلسفة. واختيار الكاتب لعبارات ذات شحنات شعرية يبدو رغبة منه في تكثيف لحظة البداية واشراقة النص الذي سيأتي بعده. ولعل ظهور نصوص شعرية لحسونة المصباحي في هذا الكتاب لدليل آخر على الحاجة إلى الشعر في هذه التجربة الحياتية الخاصة، حيث تنادي العزلة من ناحية وطبيعة الكتابة الشذرية في اليوميات من ناحية ثانية هذا النوع من الكتابة.
اليوميات السياسية
إن فترة الجائحة والتي تستمر إلى تاريخ هذا المقال في موجتها الثانية فترة سياسية بامتياز، فترة سياسية وطنية ودولية، فهي حرب دولية علمية من أجل الوصول إلى اللقاح، وهي حرب دولية لإنقاذ الاقتصاد، وهي حرب دولية من أجل الفوز بالانتخابات، وهي حروب خارجية وداخلية من أجل السيطرة على الشعوب وإدارتها، لذلك طغت على يوميات حسونة المصباحي النبرة السياسية، فصب حسونة جام غضبه، كمواطن محجوز في بيته وكاتب ملاحظ، على السياسيين وادارتهم للأزمة من رئيس الدولة إلى الحكومة ووزرائها مترصدًا إخفاقاتهم يومًا بيوم ولحظة بلحظة.
اقرأ/ي أيضًا: يوميّات لأينشتاين تنشر لأول مرّة تكشف عن عنصريّته القبيحة!
حرّر فن اليوميات الأديب حسونة المصباحي من إكراهات الأدب وشروطه، ومن قوانينه من حبكة وتخييل وإيقاع محسوب وتخف، ففي اليوميات لا يحتاج الكاتب أن يتوارى وراء شخصية خيالية ليمرر موقفه من اللحظة السياسية والايديولوجية لذلك يقدّم حسونة المصباحي مواقفه بكل حرية ودون مواربة أو رمز ويسمي الأشياء بمسمياتها. يتكلم في اليوميات كما يتكلم المواطن حسونة المصباحي في المقهى وفي جلساته العامة. مع وعي بأنه لا يتحدث إلى أهله وأصدقائه ومعارفه فقط، إنما يتحدث لقرائه في كل مكان، لذلك يحتاج أحيانًا أن يعرّف بالمعرّف ويفسر ويوضح هويات الأشياء خاصة منها المحلي.
يبدو حسونة على امتداد شهر ونصف متوترًا وغاضبًا من السلطة في كل تمظهراتها، مراجعًا زلاته القليلة في مباركتها كما فعل مع وزير الصحة حين سحب شكره له الذي دونه على صفحته بالفيسبوك بعد أن مارس طقسًا دينيًا في مكان عمله ومع فريقه، واعتبر ذلك ممارسة حزبية استعراضية تضرب مدنية الدولة.
كما انتقد بشدة الرئيس قيس سعيد منذ يوم توليه السلطة وظهوره في البرلمان إلى آخر أيام التدوين، متتبعًا ظهوره بين الجماهير كل مرة ضاربًا عرض الحائط بالبروتوكل الأمني والصحي، وقد توقف حسونة المصباحي طويلًا عند مسألة الشعبوية التي وصف بها الرئيس وخطورتها.
يوميات الخوف
يبدأ حسونة المصباحي كتابه "يوميات ميونخ" بقوله: "أنا أحب الحياة دائمًا، وأظن أن الحياة تحبني هي أيضًا، لكن ليس دائمًا". نستحضر هذه العبارة ونحن نقرأ كتابه "يوميات الكورونا"، فالواقع الذي يواجهه الكاتب في هذه اليوميات هو واقع مضاد أو ضديد للحياة التي يحب، وهذا ما يجعل نبرة الغضب أقوى في هذه اليوميات كشكل من أشكال المقاومة من ناحية والرفض من ناحية ثانية، وهذا ما يدفع بالكاتب إلى رؤية كوابيس في ليله يسرع إلى تسجيلها في اليوم الموالي. كوابيس تختلط فيها الأمكنة التونسية بالأمكنة الألمانية التي عاشها ويختلط فيها الناس، تونسيين وأجانب ليرتفع منسوب العنف بين غرباء في الشارع ينظرون إليه نظرات حازمة، وأطفال يحملون السكاكين ويطعنونه وهو يبحث عن البيض البيولوجي الذي تعود على اقتنائه من الباعة على الرصيف. كابوس كافكاوي يروي فيه الكاتب نفسه وهروبه من القتلة ولا ينجو من المطاردة إلا بالنهوض من النوم.
حرر فن اليوميات الأديب حسونة المصباحي من إكراهات الأدب وشروطه، ومن قوانينه من حبكة وتخييل وإيقاع محسوب
في موقع آخر يؤكد الكاتب تلك السوداوية التي يعيشها ويفسر ذلك بأن في مثل هذه الأزمنة يقدم الفرد على قراءة الكتب السوداوية يقول في يومية 24 آذار/مارس: "أفتتح نهاري بهذه الجملة لسيوران (لم أجد في صرح الفكر أيه مقولة أسند عليها جبيني، مقابل ذلك، ما أجملك وسادة أيها السديم).. في أوقات الشدة والأزمات، أحب أن أقرأ مؤلفات الفلاسفة المتشائمين، أو السوداويين كما ينعتهم البعض".
اقرأ/ي أيضًا: في مطبخ الكتابة
كان يقرأ سيوران ويعيد رواية كونراد "قلب في الظلمات" ويوميات كافكا وأعمال ستيفان زفايغ ويختلق الأسباب لكي يتحدث عنهم وعن كتبهم فيقول مثلًا يوم 22 أذار/مارس: "نمت ساعة واستيقظت وبي رغبة في شاهدة فيلم. وبما أنني لم أعثر على أي فيلم يستحق الاهتمام فإني عدت إلى الفراش لأغرق في قراءة كتاب لستيفان زفايغ اقتنيته من باريس في الشهر الماضي.. وهو يتضمن مقالات له مجهولة نتبين من خلالها مواقفه السياسية تجاه العديد من القضايا التي شهدها عصره الموسوم بالحروب، والنزاعات والتقلبات الخطيرة".
إن هذا النص يفسر لنا طبيعة ما يكتبه حسونة المصباحي اليوم في هذه اليوميات باعتبارها حاجة ذاتية وتقليدًا من تقاليد الكتاب الكبار، الذين لا يفوتون الفرصة لكي يسجلوا مواقفهم من واقع بلدانهم السياسي وما يحدث حولهم خاصة أزمنة الأزمات.
إن هروب كاتب اليوميات إلى كتب الكتّاب السوداوين يأتي من حاجتين محاولة فهم العالم ومقارنته بواقعه ضمن الإيمان بالعود الأبدي أو العود التاريخي، ومن ناحية أخرى ليتزود بالشحنة النفسية والفلسفية لتغذية الكتابة فلم تكن تلك الكتب إلا ذرائع للحديث عن سير هؤلاء الكتاب وأعمالهم التي تتقاطع مع الواقع النفسي الذي عاشه في تلك الأيام الثقيلة.
ويتمظهر الخوف أيضًا في يوميات حميمة كتلك التي سجل فيها تحرك أسنانه مهددة بالسقوط فأثارت فيه رعب الشيخوخة: "فجر هذا اليوم، أحسست أن هناك بعضًا من أسناني تهدد بالسقوط.. يا لشقاء الشيخوخة ويا لظلمها وقبحها".
حسونة المصباحي: "أنا أحب الحياة دائمًا، وأظن أن الحياة تحبني هي أيضًا، لكن ليس دائمًا"
إن حسونة المصباحي بثقافته المتنوعة يعلم جيدًا كيف ينجح في أدب الكتابة عن الذات واليوميات تحديدًا والتي تتحمل كل شيء: الانفعال، المعلومة، المقال، الكوابيس، المقتطفات، الهذيان، المقال السياسي، البورتريه، التاريخ، والمذكرات والصمت، ولن تحتاج إلا إلى ايقاع ذكي يحكمها لتبقى لصيقة بذات كاتبها خارجة من معطفه الخاص لتصل إلى المتلقي بعرقه الخاص وأنفاسه الخاصة التي لا يمكن أن يخطئها وهو ما نسميه بكل بساطة بالأسلوب. فـ"الأسلوب هو الرجل" كما يقول جورج بوفون. وهذا ما لمسناه في كل يوميات حسونة المصباحي. ظل أسلوبه الروائي والقصصي حاضرًا، وظلت كتابة الذات تتلون بالتخييلي وظلت الجملة تشي بصاحبها.
اقرأ/ي أيضًا: رامبرانت.. يوميات المرح والاضطهاد
تقول أناييس نن: "اليوميات ذات قيمة للكاتب، وأنا متأكدة من ذلك، ووجها السلبي متعلق حصرًا بمداها، فإذا كانت محدودة، مبتذلة، ضيقة الأفق، فهي عديمة القيمة وإن كانت نامية في العمق والمساحة، فقد تكون ضرورية للكاتب. إنها تغذي كومبيوتر الروائي بالطعام الحي". هكذا نرى أهمية هذه اليوميات لحسونة المصباحي التي سنرى أثرها في أعماله القادمة كما رصدنا أثر يومياته السابقة في أعماله الروائية اللاحقة. إن اليوميات في جانب من جوانبها مطبخ الكتابة الروائية الكبير الذي يستولي بطابعه الأمبريالي على كل شيء ليشيد روائيته الخاصة.
اقرأ/ي أيضًا: