وكم ذا بمصر من المضحكات
كما قال أبو الطيبِ
وصحف تطن طنين الذباب
وأخرى تشن على الأقربِ
وهذا يلوذ بقصر السفير
ويطنب في ورده الأعذبِ
وهذا يصيح مع الصائحين
على غير قصدٍ ولا مأربِ
- حافظ إبراهيم
يقول الكاتب الصحافي صلاح عيسى (1939 - 2017) عن ثورة عام 1919: "في آذار/مارس 1919 تغيّرت مصر فجأة أو هكذا بدت بالنسبة لمن احتلوها طويلًا (...) سرقوا عرقنا وعاشوا بالنيابة عنا، متنا بالبلهارسيا والانلكستوما والبلاجرا والدودة الشريطية وعرفنا معنى الجوع الحقيقي، في الظلام كنا نهتف "يا رب يا متجلي أهلك العثمانلي.. أو يا رب يا عزيز تاخد الإنجليز".
انحاز صلاح عيسى إلى صعاليك الشوارع ودراويشها، وثوراتها ضد العسكر المماليك منذ فجر التاريخ
تحتار في وصف كتاب الصحفي المصري صلاح عيسى "هوامش المقريزي" (دار الكرمة، 2019)، لكن يبدو أن المهم في بداية قراءة الكتاب هو آخره، وهو حكاية الهوامش التي بُنيت عليها هذا الكتاب كله.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الشرطة في مصر"..من أمن الرعية إلى أمن الحاكم
أوعز كثير من أصدقاء صلاح عيسى أن يتجه لنشر الدراسات الاستراتيجية والأكاديمية ذات الطابع العميق والثقل القوي من ناحية التاريخ. لكن عيسى كان موسوعي الحكايات، ينظر لها بعين المؤرخ المتصيد لأخطاء الملوك، منحازًا إلى صعاليك الشوارع ودراويشها، وثوراتها ضد العسكر المماليك منذ فجر التاريخ، وحتى آخر ما سجله في كتابه.
كتب عيسى في هذا الكتاب عما أراد أن يسميه "التطور الطبيعي للتاريخ" بدايةً من العصر الأموي، ومرورًا بالمماليك وبطش العثمانيين، وحتى صفاقة وحماقة الفرنسيس وبطش واستبداد المستمعر الإنجليزي، وانتهاءً بمن لعقوا أحذية السلطة في العصر الحديث في سبيل مكان على يمين الرؤساء.
صلاح عيسى كاتب صحافي من الطراز الثقيل، وُلد في أسرة ريفية في إحدى القرى الصغيرة بمحافظة الدقهلية، تدرج في اهتمامه بالصحافة حتى أمسى واحدًا من أهم الأسماء داخلها، في عهد عبد الناصر تم اعتقاله، كعادة كل الصحفيين في وقتها. وهو أمر لم ينسه عيسى، لكن عقدة الدكتاتور الوطني طاردته فكان ممن بكوا عبد الناصر بعد وفاته.
هوامش المقريزي.. أو هوامش عيسى؟
يكتب صلاح عيسى في هذا الكتاب حكاية هوامشه التاريخية التي تتحمل الكثير من الإسقاط السياسي في كل العصور، 180 حكاية جمعها من بين حواشي التاريخ عن الظلم والاستبداد وعن سخرية الزمان من الطغاة بعدما دكوا الأرض دكًا تحت أقدام العباد، هذه الحكايات التي اضطر إلى كتابتها تحت اسم مستعار وهو "هوامش المقريزي" حماية لنفسه من مخبري الصحافة ووشاتها.
حكايات الاستبداد تلك تصلح للتطبيق والإسقاط في كل العصور، بدأ حكايته في العصر الأموي، ثم عرّج على العصر الفاطمي، حيث حكى كيف تحكم ولاة الأمر حتى في سيناريو خُطب الجمعة فيحكاية أسماها "العجة والبصارة" التي يروي فيها كيف تحولت العظات التي تقال قبيل كل صلاة جمعة إلى حديث سياسي ساخن، ضاق به الفاطميون فأعزوا بمنع الحديث في السياسة على المنابر فصعد الخطيب إلى المنبر يتحدث عن كيفية صنع البصارة، وهي أكلة مصرية تُصنع من الفول المجروش، وظل الواعظ على المنبر يحكي هذا الحديث العجيب عن العجة والبصارة والناس تراقبه وتكتم الضحك، حتى أمره العسكر بعدم الحديث عن الطعام في ساعة الوعظ.
طغاة المماليك
عرّج عيسى على دولة المماليك التي كتب فيها جُل ما كتبه عن الطواغيت من عسكر المماليك، منهم خمارويه الذي اشتهر بولعه بالذهب، الذي قيل عنه إنه غطى جذوع الأشجار الضخمة بالنحاس الأصفر المطلي بالذهب، فكانت الشمس إذا طلعت على هذه الأشجار "لا يستطيع أن ينظر إليها أحد من شدة اتقاد ذلك النحاس المموه بالذهب".
في حكايات طغاة المماليك، يورد عيسى العجب منها ما قيل عن تأسيس ديوان البرطيل أو ديوان البذل، وهو الاسم الفخم للرشوة، وهو ديوان تأسس في عهد إسماعيل ابن الناصر بن قلاوون، الذي من فرط فساده جعل الفساد شرعيًا في البلاد، وبات الناس يشترون الوظائف بالرشوة أو لقضاء الحاجات، وتحول الأمر إلى شكله الرسمي حتى ذكر "أن الأمير بلباي الإينالي اشترى حكم ولاية صفد بعشرين ألف دينار، ثم طمع لتولي العديد من الوظائف الأخرى فدفع برطيلًا جديدًا فأصبح بذلك قائدًا للجيش وناظرًا للوقف ونائبًا للسلطان في دمشق".
في مطلع القرن: طغاة المستمعرين ومن والهم
في القسم الثاني من الكتاب، يتحدث فيه عيسى عن العصر الوسيط في مطلع القرن التاسع عشر حتى العشرين، فيتناول موقف الصحافة من حادثة دنشواي الشهيرة، التي كان تناولها مختلفًا للحدث، منها ما ندّد بشكل واضح بالحادثة، ومنها من انحاز للمستعمر وهاجم الفلاحين الأجلاف "الذين قتلوا ضابطًا إنجليزيًا رقيق القلب، كان فحسب يتسلى بصيد الحمام فأخطأ وقتل امرأة لا قيمة لها، وحرق جرنًا (فرن خبز) تافه الشأن".
في "هوامش المقريزي"، يكتب صلاح عيسى عن هوامش التاريخ التي تتحمل الكثير من الإسقاط السياسي على كل العصور
بين هؤلاء وأؤلئك من وقف موقف المحايد مثل "الهلال"، التي توسعت في نشر كل شيء جرى في حفل تكريم اللورد كرومر بدار الأوبرا الخديوية عام 1907 وبعد الحادث بعام، دون أن تكتب سطرًا واحدًا عن الأمر.
الشعب لا يفنى.. الشعوب لا تموت
يروي عيسى مما يرويه عن الفدائيين وعلاقاتهم بالشعب، خاصة تلك الكتلة غير المسيسة التي تقف على مسافة واحدة مما يفعله الفدائيون في المستعمر من كر وفر، منهم كانت بائعة فجل مصرية، رأت توفيق العوب – وهو فدائي قديم من جماعة اليد السوداء التي أسّسها الشيخ مصطفى الغاياتي لمقاومة الاحتلال الانجليزي.
اقرأ/ي أيضًا: السنوات الأخيرة لدولة المماليك "العسكرية"
يحكي عيسى عن توفيق العزب نفسه أنه أثناء إحدى عملياته تصدى لموظف كبير وهو المستر "هامتون" كبير مهندسي السكة الحديد، وفي آخر لحظة رأته بائعة الفجل وهي تخرج من إحدى المنحيات في الشارع، وبعد القبض عليه استدعى البوليس بائعة الفجل عدة مرات وعرضوا عليها العزب بين فريق عرض قانوني، وقالت ببلاهة مصطنعة وقتها "مش فيهم"، وللضغط عليها عرض البوليس عليها آلاف الجنيهات كمكافأة للاستدلال عليه فرفضتها وأكدت أنها لم تر شيئًا.
حكاية الهوامش.. قصص الناس والحرافيش
في نهاية الكتاب، يخصص عيسى عدة صفحات عما تسببت له حكايات الهوامش وإسقاطاتها السياسية التي أزعجت الرقابة، وتسببت في قطع في رزقه وإزعاج وتهديدات مستمرة له، بل ومؤامرات من زملاء المهنة الذين اتخذوها مطية للتقرب من ذوي النفوذ كما يحدث في كل عصر.
لكل زمان مماليكه، وهو ما يجعل كل حكايات صلاح عيسى في "هوامش المقريزي" جديرة بالمتابعة والتأمل
حكى عيسى عن قضية التنظيمات السرية التي تسببت في اعتقاله في السبعينات أيضًا بتدبير ممن أسموا أنفسهم "الصحافيون الوطنيون بدار التحرير"، حيث نسبوا له تهمة التمويل من دول شيوعية في محاولة لاستنفار "يقظة القيادة المصرية".
اقرأ/ي أيضًا: 800 عامٍ على مدينة المنصورة في مصر.. معالم منسية وتاريخ مجيد
على أي حال فإن لكل زمان مماليكه، وهو ما يجعل كل حكاية من 180 حكاية التي حكاها صلاح عيسى جديرة بالمتابعة والتأمل.
اقرأ/ي أيضًا: