يدخل الشاعر الأمريكي من أصل مغربي بوشعيب كادر في مجموعته الشعرية "ديوان المهاجر: أفواه يملؤها الملح" إلى أغوار النفس البشرية لنبش أدق تفاصيلها، وإظهار أحاسيسها الغائرة، فتبرز عارية من التنميق بصورة صادمة.
وتفكك المجموعة الصادرة عام 2022 عن دار سامح في السويد، المشاعر التي لا يستطيع الإنسان العادي البوح بها وتجريدها للوقوف عندها، أو بشكل أدق، تلك المشاعر الدفينة التي يُخشى من الدنو منها، خاصة تلك المتعلقة بالمصير والذات والوجود.
وتتناول المجموعة في 23 قصيدة معاناة المهاجرين في الغرب، والضغوطات الهائلة التي يتعرضون لها، نتيجة النظرة النمطية والصراع الهوياتي الذي يعيشون فيه، وكذلك الظروف الموضوعية التي تدفع الإنسان في شمال أفريقيا والعالم العربي للهجرة من بلدانهم متجهين إلى الغرب بحثًا عن الفردوس المفقود، في إسقاط لتجربة شخصية عاشها الشاعر بوشعيب نفسه، ما بين وطنه الأم، المغرب العربي، والولايات المتحدة الأمريكية حيث يقيم حاليًا.
يعمل الشاعر بوشعيب كادر في الوقت الحالي أستاذًا ورئيسًا لقسم الدراسات العربية في جامعة "تولين" بمدينة "نيو أورلينز"، وهو حاصل على دكتوراه دولة من جامعة "لويزيانا بلافاييت". وأصدر ثلاثة دواوين شعرية: ديوان "رسائل نيو أورلينز" عام 2017، وديوان" أحلام صغيرة" عام 2021، إضافة لمجموعته الشعرية الأخيرة "ديوان المهاجر: أفواه يملؤها الملح"، كما أنه ينشر أشعاره في عدة مجلات أدبية دولية محكمة في كل من أمريكا وتايوان، وكذلك في صحيفة "العربي الجديد".
عن "ديوان المهاجر: أفواه يملؤها الملح" وعن مصاعب الهجرة، وما يقاسيه الإنسان فيها من معاناة وحنين للوطن، جاء هذا الحوار مع الشاعر الأمريكي من أصل مغربي بوشعيب كادر.
- تفتح قصائد الديوان الباب لتساؤلات معقدة عن هموم ومعاناة الإنسان العربي في وطنه، ومنها الدكتاتورية، الظلم، القمع، الجوع، الإرهاب، الرغبة الملحة في ترك الوطن والهجرة منه بأي ثمن حتى ولو كان عبر قارب مطاطي بسيط في مجازفة خطرة غير مضمونة النتائج.. بتصورك ما هي أسباب هذا الوضع الكارثي؟
الرغبة في الهجرة هي قدر الإنسان المعاصر، وأميز هنا بين الهجرة والاغتراب، الهجرة حالة فردية تَتِمُّ بإرادة الإنسان لِيُحَسِّن وضعه الاجتماعي والاقتصادي، أو للتجمع العائلي أو للدراسة، أما الاغتراب فأسميه بالحالة القَسرية، وتضم هذه الفئة النازحين عن بلدانهم جراء الحروب الأهلية وأضيف إلى هذه الفئة فئة أخرى تشمل الكتاب والصحفيين الذين يتعرضون للقمع وللسجن في بلدانهم.
بوشعيب كادر: يمكن لحدث رياضي كتنظيم مونديال كأس العالم في قطر، وتأهل المنتخب المغربي إلى ربع نهائي، وما رافقهما من نجاحات.. أن يسهم في خلخلة الصور النمطية عنا أكثر مما فعله تاريخ الأدب العربي المعاصر بِرمته
واختصارًا أقول، تعرف بعض دول جنوب الصحراء توترات سياسية وانقلابات عسكرية، إضافة إلى مشكلة الأمن الغذائي، مما يُجبر مواطني هذه الدول إلى النزوح إلى بلدان شمال أفريقيا كمحطة أولى قبل العبور إلى الضفة الأخرى. حاولت في هذا الديوان الشعري رصد معاناة هؤلاء المهاجرين وضمنهم بعض مواطني شمال أفريقيا وسوريا، عبر الإمساك بالخيوط التي تربط الهجرة بالاغتراب ونَسجتهما معًا في قالب شعري.
- تطرقت العديد من قصائد المجموعة لتحليل سيكولوجية الإنسان المهاجر وتأثير الصراع النفسي الذي يعيشه ما بين هويته الثقافية وثقافة المجتمع المضيف.. يا ترى أين تكمن وظيفة الشعر الحديث.. تفكيك مآسي الإنسان المعاصر وتحليل أسبابها؟ أم أن هذه الوظيفة محصورة فقط في الجانب الجمالي؟
قمت في هذا الديوان الشعري برصد معاناة المهاجر، عبر خلق انزياحات شعرية تقبض على لحظة الصدمة عنده. إنّ صراع المهاجرين والمغتربين متعدد الأوجه، ويعيشونه يوميًا على أكثر من مستوى، في الحياة اليومية، بدءًا من اللغة إلى أسلوب العيش والقوانين المنظمة للحياة.. إلخ.
يعيش المهاجر ما يشبه حالة انفصام بين واقع يَستحسِنُه مادَّيًا لكنه يرفضه أخلاقيًا. يَرتبط الانفصام الذي أتحدث عنه بالذات، بما هي محفل يتقاطع فيه التاريخي والديني، الفردي والجماعي؛ فلا يمكن أن نقول للمهاجر انسَ كل شيء وابدأ حياتك من جديد، انسلخ عن كل شيء تعلمته، وتربَّيت عليه، وشَكِّلَ وجدانك.. بطبيعة الحال هذا غير ممكن. يَتَحدَّدُ الإبداع بحسب زاوية النظر التي نكتب منها، ليست هناك كتابة محايدة أو بريئة، الكاتب مع أول كلمة يخطها يضع نفسه في قلب الصراع.
بالنسبة لي شخصيًا، في "ديوان المهاجر: أفواه يملؤها الملح"، عَملت بنفس الطريقة التي يشتغل بها المخرج السينمائي، وهي تسليط الضوء على المناطق المظلمة في حياة المهاجرين، والمغتربين، تلك الحياة المليئة بالقلق، والخوف والتحديات التي يواجهونها. فكل شيء باهِرٌ وصادم ومُقلق في الآن نفسه. وتكمن وظيفة الشعر في التقاط ذاك الإدهاش وتلك الصدمة. من جهة أخرى، كتبت هذا الديوان الشعري للتنديد بالعقلية الاستعمارية التي تنظر إلى المهاجرين الملونين باعتبارهم أشخاصًا أقل قيمة مِن الإنسان الأبيض.
- تتناول قصيدتك "مرضى لا يستحقون الحياة" جائحة كورونا والعزلة التي فرضتها على المصابين بها.. يا ترى إلى أي حد تشبه تلك العزلة عزلة المهاجرين في المجتمعات الغربية؟ وما هي الروابط ما بين الحالتين؟
أوجه التقاطع حاضرة بقوة، مع بعض الاختلاف، ذلك أَنَّ العزلة للتحصين من الإصابة بجائحة كورونا كانت ضرورة دَعَت إليها منظمة الصحة العالمية، واندَرجت ضمن حالة الطوارئ المرتبطة بالصحة العامة، لكنها عزلة مؤقتة. يعيش أغلب المهاجرين مُتكتلين مع من هم من بلدانهم الأصلية، وينأون بأنفسهم عن الاختلاط بمواطني البلد المضيف وثقافته. وتظل نقط التماس الوحيدة معهم هي أماكن العمل. هي عزلة مقصودة، مُفَكَّرٌ فيها من طرف المهاجرين والمغتربين، الغاية منها المحافظة على الهوية. بالنسبة للمهاجر المثقف، فإن العزلة تكون إلى حدٍّ ما مفروضة عليه، لا أقصد هنا العزلة الاجتماعية ولكن العزلة الثقافية، فعلى خلاف المهاجر الاعتيادي الذي يَنزوي في مكانه ويتحرُّك ضمن محيطه الآمن والمريح، فإن المثقف يسعى جاهدًا للخروج من الهامش والالتحاق بالمركز.
- يرى البعض أن النظرة النمطية التي يعاني المهاجرون منها قد عرت المجتمعات الغربية، وكشفت زيف الإعلام الغربي بما يتعلق بحقوق الإنسان واحترام كرامته، مهما كانت هويته وثقافته وقوميته، هل تتفق مع هذه الرؤية؟ أم أن لك وجهة نظر مختلفة إزاء ذلك؟
مازالت الصور النمطية موجودة ولن تتغير، وهذا الديوان الشعري برمته هو نقد للسياسة الأوروبية في تعاملها مع المهاجرين العرب والأفارقة. أعطيك مثالًا: عندما يتحدث الإعلام والمؤسَّسات الثقافية الغربية عن الإنسان العربي، فهي تربطه قصدًا بالإسلام بدلًا من ربطه بالثقافة والأدب. يتم تسويق هذه الصورة في الخطاب الإعلامي السمعي البصري والمكتوب، وسينمائيًا بتفعيل الرؤية الاستعمارية التي تُظهِر المهاجر متخلِّفًا، مهدّدًا للصحة العامة وتضعه في خانة المشبوهين. إنّها معركة التمثيل التي نخسرها يوميًا، لضعف أدبنا بكل أجناسة في خلخلة الصُّور التي ثَبَّتنا فيه الغرب. يمكن لحدث رياضي كتنظيم مونديال كأس العالم في قطر، وتأهل المنتخب المغربي إلى ربع نهائي، وما رافقهما من نجاحات أن يسهم في خلخلة الصور النمطية عنا أكثر مما فعله تاريخ الأدب العربي المعاصر بِرمته. والمثال الثاني من القارة الأسيوية، وتحديدًا كوريا الجنوبية التي حَقَّق إنتاجها السمعي البصري في مجال الثقافة الشعبية، نجاحات باهرة في تفكيك الصور النمطية للغرب عن الآخر المختلف. تشهد كوريا الآن نهضة متميزة اسمها "الهايو" أو الموجة الكورية في مجال السينما، والغناء، والرقص تم عالم الموضة أو قطاع الأزياء.. إلخ، وذاع صيت هذه الموجة الكورية في الولايات المتحدة الأمريكية وبدأ في الانتشار عالميًا. ونقلت هذه النجاحات إلى المكتوب فَأُدرجَت كلمات جديدة في قاموس إكسفورد الإنجليزي. مثل هذه الإنجازات في الثقافة الشعبية الكورية الجنوبية، هو ما نحتاجه في لَفتِ الانتباه إلينا كفاعلين في الثقافة العالمية. إننا جِدُّ متخلِّفين على مستوى الصورة التي نُقدِّمها عن أنفسنا للآخر. تنقصنا ثلاثة أشياء في العالم العربي لتحقيق ما حَقّقه النّموذج الكوري: الإرادة، المعرفة والقدرة.
بوشعيب كادر: سيظل شكل العلاقة بين الغرب والشرق على ما هو عليه، علاقة عمودية تطبعها صفتي الهيمنة والتعالي، ولا أعتقد أنها ستتحول في يوم ما إلى علاقة تناظرية
- إلى أي مدى تجد أنه بات ضروريًا أن يتناول الأدب والفن بكافة أشكالهما قضايا الهجرة واللجوء بغية تحليل هذه الظاهرة وتفسير أبعادها ونتائجها؟
موضوع الهجرة موجود، كتبه روائيون وشعراء وصوره فنانون تشكيليون، وأخرجَه سينمائيون، وعَزَفه وغناه مطربون، كل واحد من هؤلاء، قَدَّمَه بطريقتة الخاصة. وبشكل عام لا يحظى الأدب العربي ونظيره المهجري بكل أجناسه بالاهتمام الكافي، لغياب سياسة ثقافية واضحة المعالم في العالم العربي، إضافة إلى ضعف التعليم فيه وعدم تنافسيته. وأعطي مثالًا من تجربتي الشخصية في الجامعة الأمريكية لأكثر من عقدين، لأقول إن الأدب العربي في الولايات المتحدة الأمريكية لا حضور له على الإطلاق، لا يقرأ ولا يدرس في الأقسام الثانوية أو في الجامعات.
- ماهو شكل العلاقة المتخيلة ما بين الشرق والغرب مستقبلًا عقب وصول أعداد كبيرة من المسلمين إلى أوروبا بعد الربيع العربي؟
أجيال جديدة تكتب الآن بلغة المستعمر، وتستعمل أجناس أدبية أخرى للتعبير عن قضاياها المرتبطة بالهوية، غير أَنَّ المتابعات النقدية للأدب العربي الذي يكتبه أدباء المهجر، فهي شبه غائبة لأسباب أجهلها. أَما شكل العلاقة بين الغرب والشرق فستظل على ما هي عليه، علاقة عمودية تطبعها صفتي الهيمنة والتعالي، ولا أعتقد أنها ستتحول في يوم ما إلى علاقة تناظرية لأن عقدة النقص أَصَّلها المُستَعمِر فينا.
- هل من الضروري أن يتخلى المهاجر أو اللاجئ عن هويته بغية الاندماج في المجتمع المضيف؟ وما مدى خطورة الصدام الهوياتي مستقبلًا ما بين الشرق والغرب؟
لا يمكن استبدال هوية بأخرى، لأن الهوية متأصلة في الفرد والجماعات، فصفة التخلي غير واردة أصلًا. هناك حلان، إما أن نعيش كمهاجرين منعزلين بإرادتنا عما تقدمه ثقافات البلد المضيف، أو نستفيد مما هو موجود في تلك البلدان، من لغة وثقافة وفنون، ننتقي منها ما يفيدنا ونترك جانبًا ما لا يفيدنا. حاولت في هذا الديوان الشعري استنطاق مناطق الصمت عند المهاجر، وتركته يعبر عن نفسه وقلقه اليومي، عن حزنه وذكرياته عن وضعية الشتات التي يعيشها، حاولت الاقتراب من لغته، ومتخيله.
- هاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من عقدين من الزمن، يا ترى كيف قاومت مصاعب الهجرة وتأثيراتها؟ وهل الشعر لديك أحد أدوات هذه المقاومة؟ وماهي أصعب المواقف والظروف التي مررت بها؟
كانت دهشة أكثر منها مصاعب، حيث هاجرت للدراسة في الولايات المتحدة. لم تكن عندي مصاعب أو على الأقل لم تكن بالحدة التي تواجه المهاجرين إلى أوروبا. الصعوبات والتحديات كانت على المستوى النفسي، الإحساس المستمر بالفقد، وهذا الإحساس الغريب أنك تعيش بين هويتين، وثقافتين، وهذا ما عبرت عنه في ديواني الشعري.