لطالما مثَّلت القدس علامة فارقة في الأعمال الحضاريَّة للأمم؛ وإذا قلنا بكون الأديان حركية اجتماعية تاريخيَّة، وانتقالات من طور من التاريخ لطور آخرَ، فإن القدس كانت محور هذه الانتقالات، بها اكتسبت المدينة طابعها الأسطوريَّ وشرطها الوجودي.
الكاتبة والصحافية الإيطالية باولا كاريدي، التي عاشت أزيد من 11 سنة بالقدس، تحضر معنا في حوار خاص لـ "الترا صوت"، حول صورة القدس فيالأدب الأوروبي
هكذا نجد القدس حاضرة بعمق في كثير من الثقافات الإنسانية، وكل تعبيراتها، وعلى رأسها الأدب. وما دمنا نسعى لرصدِ صورة فلسطين بعيون أوروبية، نضيق حقل النظر بهذا الحوار ونخص تلك المدينة به، على لسان باولا كاريدي، الكاتبة والصحافية الإيطالية، التي عاشت أزيد من 11 سنة بالقدس، وعنها كتبت كتابات عديدة، والتي تحضر معنا في حوار خاص لـ "الترا صوت"، مجيبة عن: أي صورة للقدس داخل الأدب الأوروبي؟
خلال السنوات التي قضيتها بالقدس، ماذا عنت المدينة فيها بالنسبة لباولا كاريدي، الإنسانة والكاتبة؟
بالنسبة لي، القدس كانت أهم فصلٍ من حياتي، وإلى اليوم، لا زالت تعني لي ولمسيرتي ككاتبة وصحافيَّة الكثير. فعندما أنظر إلى الوراء، إلى سنة 2003، وأنا أصلها قادمة من القاهرة، لم أكن أتوقع أن هذه المدينة – المفرط في تقديسها– ستمثِّل لي كل هذه الأهميَّة، وأنها ستكون لحظة مفصليَّة في تجربتي الحياتيَّة؛ فقد أصبحت بشكل أو بآخر مدينتي، أنا التي لا تنتمي لأي طرف من المتنازعين عليها. كما من الناحية الأدبيَّة والثقافيَّة، وجدتها تعلن عليَّ التحدي بعمق، أنا كمؤرخة وكمحلِّلة سياسيَّة. علَّمتني الوضوح، وحدة التفكير ودقَّته، بذات الكيف الذي علَّمتني به التعاطف الذي لا ينضب.
أي إلهام تمنحه القدس للكتاب الأوروبين؟
من ناحيتي، أتمنى أن لا تلهم القدس أبدًا كاتبًا أوروبيًا، وأتمنى أن تكسِّرَ القدس كل الأحكام المسبقة التي لهم عليها. فنحن، ككتاب أوروبيين، غالبًا ما نصلها متظاهرين بمعرفتنا العميقة لها، عبر أساطيرنا، أيديولوجياتنا وكل ما تلقناه في المدارس الدينية. لا نسقط على المدينة إلا أحكامنا المسبقة المبتذلة.
دأبت العادة أن يطلق على القدس اسم "مدينة الله". أي مفارقة تود باولا كاريدي أن تطلعنا عنها عبر عنوان كتابها "مدينة بلا إله"؟
تفسير ذلك العنوان يأتي في سياق السؤال الذي طرحتموه سابقًا: وأنا أعيش بين أزقة القدس أحسست ثقل الأحكام المسبقة التي اعتدنا أن نلصقها بالمدينة؛ ونحن نصفها "مدينة الله" أو "المدينة المقدَّسة"... حيث طوال هذه الحقب من التاريخ عاشت القدس على وقع هذه الأساطير، لا على واقعها. وغالبًا ما نتطرق في وصفها إلى جانبها الديني البارز، والحجارة المقدَّسة، بالمقابل ننسى أن نتعرف على ساكنتها ومعيشها اليومي، وعلى الإنسان المقدسي على طبيعته.
باولا كاريدي: أتمنى أن لا تلهم القدس أبدًا كاتبًا أوروبيًا، وأتمنى أن تكسِّرَ القدس كل الأحكام المسبقة التي لهم عليها
أي صور تأخذها مدينة القدس داخلَ الأدب الأوروبي، وإلى أي مدى استطاع ذلك الأدب أن يلامس روح المدينة؟
من الصعب علينا، إذا لم يكن من المستحيل، الحديث عن "الأدب الأوروبي" هكذا في عموميته. لهذا سأركز حديثي عن الأدب الإيطالي، فأقول: إن القدس كانت مجاز أدب القرون الأولى من نشأة أدبنا، عكس الأدب المعاصر الذي فقدت فيه. وعلى طول تاريخها ألهمت مدينة القدس بعمق ذلك الأدب والشعر الإيطالي، ومنذ نشأته. لكن مجددًا، لم يكن هذا الاستلهام من واقع المدينة بل من أسطورتها، ونادرًا ما تطرَّق هذا الأدب لسكانها وتجاربهم الشخصية داخل المدينة.