تعد روسيا، منذ عهدها السوفيتي، أحد اللاعبين على أوتار التجاذبات السياسية بالمنطقة العربية، إذ منذ منتصف القرن الماضي، ربطتها علاقات وثيقة مع عدد من الأنظمة العربية، وكانت المنطقة ساحةً لتنافس المعسكر الشرقي الذي كانت تقوده، وخصمه الغربي بقيادة الولايات المتحدة. ولايزال ذلك الدور الجيوسياسي الذي تلعبه موسكو مستمرًا في القرن الحالي.
تعد روسيا منذ عهدها السوفيتي، أحد اللاعبين على أوتار التجاذبات السياسية بالمنطقة العربية، إذ منذ منتصف القرن الماضي، ربطتها علاقات وثيقة مع عدد من الأنظمة العربية
هذا الاستقطاب العالمي الذي يعود اليوم، إثر المغامرة الدموية التي أطلقها فلادمير بوتين بغزو أوكرانيا، في الـ 24 شباط/ فبراير 2022، وضع العالم العربي أمام حسابات استراتيجية جديدة، بالإضافة إلى معاناته من تبعات الحرب الاقتصادية؛ من ركود اقتصادي، وارتفاع مستويات التضخم، واضطراب في سلاسل توريد الغذاء. كل هذه أوضاع مستجدة تدفع لطرح سؤال عن الرهانات التي تضع هذه الحرب المنطقة العربية فيها؟ كيف تتموقع الدول العربية في خضم الاستقطاب العالمي الحاصل؟ وما إمكانية أن تعجل التبعات الاقتصادية الجارية في موجة احتجاجات شبيه لما شهدته المنطقة في الربيع العربي عام 2011؟
من أجل معالجة انعكاسات الغزو الروسي لأوكرانيا على الراهن العربي، أجرى "الترا صوت"، مقابلةً مع المفكر اليساري اللبناني والأستاذ بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن جلبير الأشقر.
- تُعدّ الحرب في أوكرانيا أول حرب بهذا الحجم تندلع بعيدًا عن المنطقة العربية، على الأقل في غضون العقود الثلاثة الأخيرة. في نظركم، هل يعني ذلك أن الأقطاب العالمية المتصارعة كفّت عن التنافس حول الشرق الأوسط؟ وبالتالي، هل وصلنا إلى حالة من التوازن، ولو كان مؤقتًا، في المنطقة؟
الحرب الروسية الأوكرانية تختلف نوعيًا عمّا شهدته المنطقة العربية، بمعنى أن الحربين الأمريكيتين على العراق، في عامي 1991 و2003، كانتا غير متكافئتين، اعتدت فيها الولايات المتحدة، التي هي أعظم قوة عسكرية عالمية، على العراق الذي كان منهكًا بالأصل في عام 1991 إثر حربه الطويلة مع إيران، وضامرًا في عام 2003 إثر حصار طويل جدًا تبع تدميره في عام 1991.
أما الحروب العربية الإسرائيلية في عامي 1967 و1973، فلم تدم أكثر من بضعة أيام أو أسابيع، ناهيك عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982 الذي كان أيضًا غير متكافئ. وبالتالي، لم يجرِ في المنطقة العربية ما يمكن مقارنته بما يجري في أوكرانيا، حيث تتصادم ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، ألا وهي روسيا، مع بلد كبير، هو أوكرانيا، حائزًا على قدرات عسكرية هامة ومدعومًا من أعظم قوة عسكرية عالمية.
- إضافة إلى الدعم العسكري من سائر الدول الغربية
طبعاً، لكنّ الدعم العسكري الخارجي دون قدرات بشرية محلية قادرة على استخدام الأسلحة التي يجري تسليمها لا يُعطي نتيجة. أما بالنسبة لأوكرانيا فنحن نتحدث عن دولة بحجم كبير، عدد سكانها يزيد عن الـ 40 مليون. وهي في حالة حرب مع روسيا منذ 2014 وقد تسلحت بشكل كثيف منذ ذلك الحين. إضافة إلى أنها مشهورة قتاليًا منذ الحرب العالمية الثانية، إذ كان الأوكرانيون في القوات السوفييتية متميزين في الحرب ضد ألمانيا النازية. لذا، نحن أمام أول حرب بهذا الحجم منذ عقود طويلة، وفي القارة الأوروبية لم يحصل ما يضاهيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
- في نظركم ما هي الرهانات الجديدة التي طرحتها هذه الحرب أمام البلدان العربية؟
الدول العربية لا ناقة لها ولا جمل في هذه الحرب، ولا تُعنى سوى بتأثيرها على اقتصاداتها، فمنها من استفاد من ارتفاع أسعار النفط والغاز، منها من تضرر من ارتفاع أسعار الحبوب، لا سيما بلد كمصر شديد الارتهان باستيراد الحبوب، كان من سوء حظه أن الدولتين المتصارعتين هما مصدّرين رئيسيين لها.
أما من الناحية السياسية، ترى أن لا الدول العربية، ولا إسرائيل من الناحية الأخرى، اتخذت موقفًا منحازًا من الحرب الجارية. وحتى إسرائيل، التي هي حليف تقليدي للولايات المتحدة، فضلت أن تقف حتى الآن على الحياد لأسباب متعلقة بالتنسيق العسكري القائم بينه وبين روسيا في سوريا.
أما الحكومات العربية فلا تريد أن تصطدم مع روسيا، نظرًا لتطور النفوذ الروسي في المنطقة، لا سيما من خلال سوريا منذ أن بدأ التدخل الروسي المباشر هناك عام 2015. ومن جهة أخرى، وطّدت جملة من الأنظمة العربية علاقتها بروسيا، إذ ترى فيها دولةً قد تنجدها في ظرف تعجز فيه الدول الغربية أو ترفض مساعدتها، فهذه الأنظمة تعلم أن روسيا قد تمد لها يد العون بلا تأثر بالرأي العام.
هكذا وطّدت دولة الإمارات المتحدة علاقات التعاون العسكري مع روسيا، يتدخلان معًا في ليبيا إلى جانب خليفة حفتر، كما هو معلوم، إضافةً إلى مصر. وهكذا تشكّل حلفٌ عربي رجعي، يضمّ المملكة السعودية والإمارات ومصر، وسواها من الأنظمة الرجعية، اثنان منها في تعاون مباشر مع روسيا في ليبيا حيث تنشط مجموعة فاغنر الروسية، وكذلك في السودان.
دولة كالإمارات، محسوبة على المعسكر الغربي، أصبحت تنسج علاقات متزايدة القوة مع روسيا، وذلك أن روسيا لم تعد "بلدًا شيوعيًا" كما كان في عهد الاتحاد السوفيتي، بل باتت أكثر يمينية من الولايات المتحدة من حيث النظام الاقتصادي والاجتماعي والأيديولوجي. وبتدخله في سوريا، توخى فلاديمير بوتين أن يثبت للمنطقة العربية وللحكام العرب أنه قادر على الدفاع عن نظام كنظام بشار الأسد ضد ثورة شعبية. وقد كان مقنعًا في نظر الأنظمة العربية بما فيها تلك المحمية من أمريكا، بما يفسر عدم وجود أي حماس في المنطقة العربية لتأييد هذا الجانب أو ذاك في الحرب الجارية.
- ارتباطًا بهذا، رأينا كذلك رفض السعودية الامتثال لطلبات واشنطن بزيادة إنتاجها من النفط. هل هذا يعني أن السعودية، وغيرها من دول الخليج النفطية، سائرة في التحول إلى لاعب مستقل في الساحة الدولية عوض الدوران في فلك الولايات المتحدة والمعسكر الغربي؟
هذا السؤال يُطرح بالنسبة للمملكة السعودية، لأنها الأكثر ارتباطًا بالولايات المتحدة تاريخيًا. الدول الأخرى ارتباطها أقل، فالإمارات أكثر تنوعًا في علاقاتها الخارجية وقد نسجت علاقات وطيدة مع كل من بريطانيا وفرنسا وأمريكا، بينما يرتهن نظام المملكة السعودية الأمني والعسكري ارتهانًا أساسيًا بالولايات المتحدة. ثم من ناحية ثانية، ليس لدى الإمارات الهاجس الكبير من إيران الموجود لدى السعودية. لأن المملكة لديها شعب كبير، ليس كالإمارات حيث 10% من السكان فقط هم إماراتيون و90% من الأجانب في نظر القانون. ولدى المملكة السعودية بالتالي هاجس وخوف دائمان من إيران، من اشتعال الساحة السعودية بتحريض من إيران، لاسيما وأن هناك أقلية شيعية هامة في المنطقة الشرقية السعودية. وبالتالي، فإن الصراع الإيراني-السعودي في الخليج يجعل الرياض تتكل بصورة عالية على الولايات المتحدة.
مع ذلك، ما ذكرته بخصوص موضوع النفط صحيح، حيث كان واضحًا أن محمد بن سلمان أراد الانتقام مما قاله عنه جو بايدن، وقد استفاد من الظرف الذي خلقته الحرب وارتفاع حاجة الغرب إلى مصادر نفط وغاز، كي يفرض على الولايات المتحدة مراجعة حساباتها إزاءه، وقد نجح في ذلك إلى حدٍّ ما. فإن زيارة بايدن للمملكة ومصافحته بن سلمان، بعد كل ما قاله عنه خلال حملته الانتخابية من أنه سيقاطعه ويعامله كمنبوذ، تشكّل تراجعًا بالطبع، حتى قيل في حينها أن بايدن فقد ماء الوجه بزيارته.
لكن لا أعتقد أن الأمور يمكن أن تذهب إلى أبعد من ذلك. فالمملكة لم تعد مرتهنة اقتصاديًا بالولايات المتحدة، ومنذ زمن طويل، وما تستورده اليوم الصين من النفط السعودي أكثر بكثير مما تستورده الولايات المتحدة. لذلك نرى أن المملكة تحرص على تطوير علاقاتها مع الصين وقد استقبلت الرئيس الصيني بحفاوة كبيرة قبل فترة. في نفس الوقت، لا تستطيع أن تذهب بعيدًا بالانسلاخ عن أمريكا في المجال الأمني والعسكري، لأن لا بديل لديها. ذلك أن الصين وروسيا على علاقة جيدة مع إيران، بينما تعاديها الولايات المتحدة.
طبعاً عندما دفع أوباما بالاتفاق النووي، في عام 2015، بدأت تبرد العلاقات الأمريكية-السعودية، وهو العام ذاته الذي استلم فيه سلمان وابنه السلطة. في السنة عينها، دخل ابن سلمان في حرب اليمن بدون ضوء أخضر من واشنطن، التي امتعضت من هذا الأمر ورأت فيه تعكيرًا للأجواء في المنطقة في وقت كانت فيه إدارة أوباما تسعى إلى اتفاق مع طهران لتهدئة الأوضاع. هذا ما أدى إلى توتر العلاقات بين إدارة أوباما، من جهة، والسعودية وإسرائيل، من الجهة الأخرى، إذ إن الدولة الصهيونية استاءت هي أيضًا من الاتفاق النووي مع إيران.
انقلبت الأمور تحت رئاسة دونالد ترامب، الذي كانت العلاقات بين إدارته والسعودية وطيدة، خاصة مع ابن سلمان عن طريق صهره جاريد كوشنر. أما عندما عاد بايدن، كان التخوف السعودي من أنه سيعود إلى سياسة أوباما، وبالتالي إلى الاتفاق النووي. بهذا المعنى، فإن هجمة بوتين على أوكرانيا قد أسعفت الجانبين السعودي والإسرائيلي حيث قضت على الاتفاق النووي مع إيران الذي أصبح في حكم الميت بسبب الظروف المستجدة. كما عززت الحرب من مكانة المملكة ونفوذها – ومكانة سائر الدول الخليجية – بسبب ما حلّ بسوق النفط والغاز. وهذا ما يفسر بعض المواقف التي تجرأت هذه الدول على وقوفها، لكنها تبقى محدودة، وكما قلنا، فإن المملكة لا خيار لها من الناحية الأمنية والعسكرية سوى الحماية الأمريكية.
- بالمقابل، منذ أيام قليلة نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" خبرًا حول إمكانية إقامة مصنع مُسيّرات إيرانية بروسيا، وهو ما يضاف إلى دعم طهران موسكو بمُسيّرات "شاهد" وغيرها. فهل سيعجل التحالف الروسي الإيراني، خصوصًا فيما يتعلق بالسلاح، بصدام مسلح إيراني غربي؟
الملاحظة الأولى بخصوص ما تقوله، هو أن هذا يشير إلى كم هي روسيا أضعف مما أرادت أن تظهره للعالم؛ فأن تكون روسيا، بما تمتلكه من تكنولوجيا عسكرية، بحاجة إلى أن تستورد أسلحة من طهران الواقعة منذ عقود طويلة تحت الحظر، فهذا أمر غريب فعلًا.
ثانياً، يبدو أن الجناح المتشدّد في الحكم الإيراني اختار أن يمضي قدماً في هذا التعاون مع روسيا، بينما هناك جناح من يُشار إليهم بالمعتدلين، كانوا ضد هذه الفكرة، لا سيما أنها مراهنة على حصان روسي تبدو حظوظه في الفوز قليلة. فيعكس عون طهران لموسكو تصلبًا متزايدًا في الموقف الإيراني على خلفية الانتفاضة الشعبية التي حصلت في الأشهر الأخيرة في إيران، والتي يرى فيها النظام كالعادة مؤامرة خارجية. وبالتالي، فإن آفاق ترتيب الأمور بين إيران وأمريكا في المنطقة باتت محدودة جدًا.
لقد عدنا إلى حالة توتر شديد، وطبعًا طالما الحرب في أوكرانيا مستمرة أستبعد حصول شيء خطير في المنطقة، لكن لا أستبعد ذلك في المدى المتوسط، لا سيما أن إسرائيل بات يشارك في حكمها اليوم من هم أكثر تطرفًا من نتنياهو المتطرف، في حكومة فاشية بصورة ثابتة، أخذت تصعّد اضطهاد الشعب الفلسطيني وقتل أبنائه. هؤلاء قد يقومون بتفجير المواجهة مع إيران بما قد يفجر المنطقة، فإذا وضعنا كل هذه الأمور نصب أعيننا، تبدو المنطقة فعلاً على كف عفريت.
- بخصوص الحكومة الفاشية التي تحكم إسرائيل الآن، في نظركم هل أسهمت الحرب في أوكرانيا في صعودها؟
لا أعتقد أن حرب أوكرانيا لها أي تأثير على الأمر، إذ إن هذه الحكومة هي نتاج التطور الطبيعي جدًا للمجتمع الإسرائيلي الصهيوني. فإذا نظرنا بالمنظور التاريخي، تأسست الدولة الصهيونية في عام 1948، وبعد ذلك بأقل من 20 سنة توسعت عن طريق حرب عام 1967، وبعد ذلك بعشر سنوات فقط وصل حزب كان يتهمه خصومه بأنه "فاشي"، إلى السلطة -حزب الليكود بقيادة مناحيم بيغن الذي فاز بانتخابات سنة 1977-. ومنذ ذلك الحين نرى شططًا متزايدًا نحو أقصى اليمين، تخللته سنوات قليلة عادت فيها جماعة ما يسمى بحزب العمل إلى الحكم، في مرحلة أوسلو. لكن على مدى السنوات المنصرمة منذ عام 1977 إلى يومنا، سادت حكومات الليكود أغلب الوقت، لا بل ضمّت حلفاءً على يمين الليكود ذاته، الذي شكّل هو تاريخيًا أقصى اليمين الصهيوني.
رأينا جماعات يمينية متزايدة تنبثق في المجتمع الصهيوني. أما حزب العمل، هذا الحزب الذي انتمى إلى التيار الاشتراكي الديمقراطي العالمي والذي أسس الدولة الصهيونية، فقد انتهى عمليًا من الوجود، ولم يبقَ منه سوى ضمور، سوى هيكل عظمي. فقد هيمنت كليًا على الساحة الإسرائيلية قوى دينية ويمينية متطرّفة. فما نراه اليوم هو بالتالي النتاج الطبيعي لذلك المسار، وقد اجتاز نتنياهو الرقم القياسي في طول البقاء بالحكم، وهو رجل ليست لديه أية موانع أخلاقية وغير أخلاقية، وكل ما يهمه هو البقاء في الحكم بأي ثمن تفاديًا للمشاكل القانونية التي يواجهها. لكل هذه الأسباب، ليس ما يجري في الدولة الصهيونية نتاجًا للحرب الروسية الأوكرانية، ولا حتى لما يجري في المحيط العربي. وقد قيل إن اتفاق أبراهام، الذي دبّره ترامب، اتفاق سلام، ولو كان حقًا كذلك لرأينا توجهًا نحو الاعتدال في المجتمع الصهيوني، لكن ما حصل هو العكس.
بالمقابل، ثمة عامل لعب دورًا في وصول أقصى اليمين الصهيوني إلى الحكم، هو بدايات انتفاضة جديدة على الصعيد الفلسطيني تتجلّى منذ عامين. نرى بروزًا واضحًا لتجذر جديد على صعيد الشباب الفلسطيني، أحد رموزه "عرين الأسود" في نابلس. وتتكاثر الدلالات على تجذر في الساحة الفلسطينية بما فيها أيضا سكان الأراضي المحتلة في عام 1948، الذين قاموا بانتفاضة قبل عامين. هذا التجذر التحرري على صعيد الشعب الفلسطيني ساهم بالتأكيد في تحفيز التجذر الاضطهادي والفاشي في المجتمع الصهيوني، والعكس بالعكس.
- في ذات السياق، نلاحظ أن في الحكومة الإسرائيلية السابقة، كان هناك ارتباك وتذبذب بخصوص الموقف من الحرب في أوكرانيا، لدرجة أنه نشأ نوع من الملاسنات بين خارجية موسكو وحكومة تل أبيب. في نظركم، ما كان سبب هذا التذبذب الإسرائيلي؟ وكيف تتصورون طريقة حكومة نتنياهو في التعامل مع الحرب؟
لقد لمحت إلى ذلك قبل قليل في الحقيقة، إسرائيل بقدر ما هي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة الأمريكية، ليست على علاقة واحدة مع كافة الأطراف في الطبقة الحاكمة الأمريكية شأنها في ذلك شأن المملكة السعودية والإمارات. فمع انزلاق إسرائيل إلى أقصى اليمين، توطّدت علاقتها مع الجمهوريين في أمريكا، وعلى الأخص مع الجناح اليميني الأقصى بين الجمهوريين، هذا بينما هنالك قسم من الديمقراطيين بأمريكا، باتت تنظر إليهم إسرائيل كخصوم. وهذا جعل أقصى اليمين الصهيوني يوطد علاقته مع روسيا على غرار أقصى اليمين الأمريكي، لاسيما أنهم بحاجة إلى التعاون معها في سوريا ضد إيران.
أما روسيا فتلعب لعبة مزدوجة واضحةً جدًا، إذ هي متعاونة مع إيران في دعم النظام السوري، لكن هذا التعاون مصحوب بتنافس على النفوذ. ومن جهة أخرى، تتعاون مع إسرائيل وتمنح ضوءها الأخضر للطيران الإسرائيلي لضرب المواقع الإيرانية بسوريا. وقد نشرت روسيا في سوريا، منذ تدخلها في حربها، شبكة صواريخ أرض جو متقدمة، لكنها لا تطلق صواريخها على الطيران الإسرائيلي عندما يخرق الأجواء السورية لضرب المواقع الإيرانية بناءً على اتفاق بين الطرفين، فكلما يقوم الطيران الإسرائيلي بغارة، يبلّغ الجانب الروسي مسبقًا.
لذا تحرص إسرائيل على ألا تستعدي روسيا. ولو انقلب الموقف الروسي إلى دعم إيران، وإلى التصدي للطيران الإسرائيلي، سيشكّل هذ بالنسبة لإسرائيل مشكلة كبيرة. بالمقابل، تعلم إسرائيل أن روسيا تستفيد من تدخلها لأنه يحدّ من تمركز وامتداد القوات الإيرانية في سوريا، المنافسة للقوات الروسية. فهناك لعبة مثلثة معقّدة في المنطقة.
أما الحكومة الإسرائيلية الجديدة، فرغم ما قيل عن أن نتنياهو لمّح إلى إمكانية تغيير موقفهم من الحرب في أوكرانيا، أشك في ذلك ما دامت الأمور على حالها. أما إذا تبين لهم أن روسيا خاسرة، وأن قواتها على وشك الانهيار، سيختلف الوضع بالطبع. هذا ولا بدّ من أن نضيف أن التنسيق العسكري الأمني بين إسرائيل وأمريكا قد تصاعد في الفترة الأخيرة، وجرت قبل أسابيع تدريبات عسكرية مشتركة موجهة ضد إيران مثّلت تصعيدًا نوعيًا للتعاون بين الدولتين. لكن إسرائيل تخشى، كما ذكرت، من أن تفتح روسيا المجال لإيران للتمركز في الجنوب السوري، على مقربة من حدود الاحتلال الإسرائيلي، حدود الجولان المحتل.
- كنا في مقابلتنا السابقة عام 2019، تحدثنا عن أن الربيع العربي "سيرورة ثورية مستمرة"، في نظركم هل يمكن للمترتبات الاقتصادية الناتجة عن الحرب أن تسرع هذه السيرورة؟
أولا للتوضيح، تحدثت عن "السيرورة الثورية طويلة الأمد" وليست "المستمرة". فوصفها بـ"المستمرة" قد يوحي أنها ثورة متواصلة، بينما السيرورة تشهد صعودًا وهبوطًا ونجاحات وإخفاقات وثورات ومراحل ردة رجعية مضادة للثورة.
قبل الحرب في أوكرانيا وربما بتأثير أكبر من تأثير الحرب في أوكرانيا، كانت هناك جائحة كوفيد. فأزمة الجائحة أثرت اقتصاديًا على المنطقة العربية بشكلٍ كبير، وأدت، كما بينت بعض الدراسات، إلى تزايد الهوة بين الفقر والثروة في المنطقة: الفقراء ازدادوا فقرًا، وازداد عددهم، بينما تركزت الثروة في يد الأقلية كما حصل على الصعيد العالمي. ثم هناك طبعًا تبعات اقتصادية على المجتمعات العربية كلها، زادتها فيما بعد حرب أوكرانيا. كل هذا يفاقم الأسباب الأساسية التي أدت إلى الانفجار منذ بداية السيرورة الثورية في عام 2011، فتتفاقم كافة العوامل التي شكلت خلفية الربيع العربي.
فإذا نظرت إلى الوضع الاقتصادي والمعيشي في مصر الآن، تجده منحطًا ومتدهورًا حتى بالمقارنة مع فترة مبارك. وتحت ضغط صندوق النقد الدولي، تقوم حكومة السيسي بتغييرات اقتصادية تطأ بثقل عظيم على الفقراء، بينما نسبة المجتمع المصري التي هي تحت خط الفقر الرسمي لا تني تتصاعد، مع هبوط سعر صرف الجنيه المصري. وبالتالي، لديك جملة عوامل في المنطقة، بما فيها أكبر بلد فيها الذي هو مصر، تشير إلى ازدياد الاحتقان والأزمة الاجتماعية والاقتصادية، بما لا بد من أن يؤدي إلى انفجارات جديدة في المستقبل. يضاف إلى ذلك أن إيران، المجاورة للمنطقة العربية، شهدت في الأشهر الأخيرة انتفاضة تعدت كل ما شهدته منذ قيام "الجمهورية الإسلامية" في عام 1979.
فالمنطقة كلها لاتزال فيها عناصر الانفجار قائمة، بل متفاقمة، والمشكلة الأساسية منذ بداية هذه السيرورة هي قدرة الحركة الشعبية على التنظيم وإفراز قيادات وتوجهات متناسبة مع حجم المهام المطروحة والملقاة عليها. فالحركة الشعبية الثورية في المنطقة العربية تواجه أنظمة شديدة القمع، أنظمة متربعة على حكم بلادها منذ عقود طويلة وقد تسلحت بكافة الوسائل القمعية. فمثلًا لو نظرنا للسودان نرى حركة شعبية متقدمة عجزت حتى الآن عن إسقاط الحكم العسكري القائم منذ أكثر من 30 عامًا، وقد حصلت المؤسسة العسكرية على امتيازات تسمح لها على مستوى القيادات، على الأقل، أن تبقى متماسكةً في وجه الحراك الشعبي.
المنطقة كلها لاتزال فيها عناصر الانفجار قائمة، بل متفاقمة، والمشكلة الأساسية منذ بداية هذه السيرورة هي قدرة الحركة الشعبية على التنظيم وإفراز قيادات وتوجهات متناسبة مع حجم المهام المطروحة والملقاة عليها
فحتى عندما تتطور الحركات الشعبية إلى مستوى رفيع جدًا، كما في حال السودان، تصطدم بصعوبة المهمة. لا خروج من ذلك، في رأيي، سوى إذا استطاعت الحركة الشعبية اجتذاب قسم هام من قاعدة القوات المسلحة، أما إذا لم تنجح في ذلك فستبقى تصطدم بجدار سميك يصعب جدًا هدمه. إن الوضع بالغ الصعوبة، لكن المستقبل مفتوح. منذ البداية، وفي كتابي "الشعب يريد"، نظرت إلى مستقبل المنطقة في ضوء السيرورة الثورية على أنه يقف أمام احتمالين: إما أن تنجح السيرورة وتنتقل المنطقة إلى طور جديد من التطور والتنمية، وهو الحلم الثوري، أو نشهد انحطاط المنطقة وغرقًا في الهمجية. أما العودة إلى استقرار النظام العربي الاستبدادي الذي كان قائماً قبل 2011، فلم تعد ممكنة لأن الأزمة عميقة ومتفجرة ولن تنحل مع بقاء الأنظمة القائمة. إذًا، إما أن تتعمق الأزمة وتصبح الأوضاع أسوأ مما شهدناه حتى الآن، أو تتمكن الحركات الشعبية فعلًا، في موجة أخرى مستقبلية، أن تحطم جدار الأنظمة الضخم وتشقه، وتجلب إلى جانبها أبناء الشعب في الأجهزة المسلحة. فمستقبل المنطقة، في نظري، مرهون بهذه الأمور.