ثمّة خيطٌ يجمعُ أعمال منصور الهبر المعروضة في غاليري آرت أون 56 حاليًا، يصحّ اختصار هذا الخيط بالجدّة. اللّوحات المعروضة تجسّد تنقّلات الفنّان بين الصّفائح اللّونيّة بوتيرةٍ متباينة، وأحيانًا متوتّرة. هذه الحالة تختصرُها الأعمال الثلاث الموجودة في الرّكن الأيسر من مدخل المعرض. كأنّ اللوحات الثلاث أساس المعرض ومدارُه الذي يسيرُ عليه.
بالعودة إلى العنوان "الجمال السّلبي" يُمكِنُ البحث عن محاولة لتفسيره أو ربطه بسياقات الأعمال المعروضة، فيتعذّر ذلك. التدقيق في الأعمال يدفعُ المتفرّج إلى تأويل العنوان بـ"نيغاتيف الصّورة" بحيث يجدُ أنّه أمام مرحلة ما قبل التظهير، نيغاتيف للصّورة وليس للّوحة. الرسّام رأى الصّورة داخل رأسه بوصفه مصوّرًا ولكنه لم يعطِ مفاتيحها للناظر، بل احتفظ بها لنفسه وقدّم له النيغاتيف على شكل لوحة ملوّنة.
منصور الهبر: الفن تصدير واستيراد. كلّ فن نُعجَب به ويعوّل عليه فنيًّا ونقديًّا هو مزيجٌ لهذين العاملين تأثّر وتأثير، استيراد وتصدير
لا بدّ أن ثمّة حياة تحت هذه اللّوحات. حياة قابعة وتستوي بوصفها مؤسِّسة للصّنعة عند الهبر وتاركة لأثر بالغ في قراءة هذه التجربة. تحرّكات الصّفائح تبدأ وتنتهي إلى خُلاصات غريبة، بعضُها مساحات فارغة بيضاء وأخرى تبقيعات سوداء وألوان فظّة داكنة وحارّة. الحرارة التي يراها الزائر قد تكون عنفًا بمعنى من المعاني. عنفٌ غير منفّر وإنّما جاذب ومحيّر.
هذه الوتيرة في التنقّل بين الكولّاج وضدّه، اللّصق والتّمزيق المستمرّ في اللّوحة، تأتي وكأنّها بنيانها أو الشّاهد عليها. كولّاج الهبر الشّخصي وضدّه، تغلّفه أفكار كثيرة وقراءات متعدّدة في الفن وأحواله وتاريخه ينكبُّ عليها الفنان في الآونة الأخيرة.
لا تنبئ الأعمال بشيء يمكنُ أن يتوقّعه المتفرّج أو المتابع لمسيرة الهبر الفنيّة. فالجديد في المعرض اختلافه بشكل جذريّ عن معرضه الأخير "صراع حميم" حيث انتقل كليًّا إلى التجريد مع بصمتي تشخيص في لوحة واحدة وعملان صغيران في ركن آخر قوامهما التخطيط.
يمكنُ الحديث عن فضاء واحد يجمع اللّوحات ويغلّفها، فضاء الظّلال. ظلالٌ لا يمكن أن يحيد الناظر عنها فهي أشبه بمحاولة متواصلة لتركيب شيء على شيء، ولكن على دفعات. نقطة أخرى تسير مع الظلال هي البياض. اللّوحات في أغلبها تنحو إلى البياض وتعوّل عليه. البياض بمعنى فراغ مؤسّس لا يشرح اللّوحة بل يفتحُها على أسئلة وبقع وتمشيح وتشويح مسيطر على المساحة اللونيّة للّوحة. لا يختفي الأسود أيضًا من بعض الأعمال، بل يظهر كخلفيّة مرافقة، ليس أسودًا طاغيًا إنّما يأخذ حيّزه وينتحي جانبًا.
العودة إلى عناوين الأعمال تُحيلنا إلى نوع من السلب والإيجاب معًا: تخريب/ فراغ/ غير شخصي/ شوف وقول/ مكان فارغ/ تناقض/ شعر غير عقلاني/ الغائب/ النرد والحقيقة. وعناوين أخرى عديدة تردّنا كأنّنا في مخاض.
لا تتوقّف الأعمال عن إقناعنا ومساعدتنا على الدخول إلى التجريد أكثر أو الإلتحاق به ومتابعته كتيار ومحاولة ربطه بقواعد ما أو منتج ما كفيلٍ بدوام التفكّر وطرح الأسئلة.
على هامش المعرض التقى "ألترا صوت" الهبر وكان الحديث الآتي، حول المعرض وآخر الأعمال، وشجون أخرى في مسيرته الفنيّة.
- متى وجدتَ نفسكَ فنانًا؟ وما الذي يعنيه ذلك؟
صدقًا لا أستطيع التّحديد. بدأتُ منذ طفولتي أنظر إلى قلق النّاس ولم أكن أدري أنّ هذا القلق سيتسرّب بطريقة أو بأخرى إليّ ويصيرُ قلقي. سأرسمهُ وأعبّر عنه بطريقة مختلفة عن طريقتهم. تسألني ماذا يعني ذلك؟ فأجيب أنّ الفنّان هو كائن منزعجٌ دائمًا، حزين غير راضٍ، ومتأفّف. يمشي ويرافقه السّؤال والحيرة في مسيرته. هذا قد يكون مدخلًا وأساسًا لبنية أيّ فنان. لا فنّ خارج الوجع والسّلب.
- ما هو الشّكل الفنّي الذي انشغلتَ فيه؟ ولماذا هو بالذّات؟
الفنّ الذي انشغلتُ فيه بدرجة أولى وبوتيرة دائمة هو الإنسان. الفنّان هو كائن ناظر ومترقّب ودائمُ التفكّر. من هذا المنطلق الرّسم عندي هو عمليّة تدوين يوميّة لما أشاهدهُ. وبالتالي تدوين هذه المشاهدة بلغة شخصيّة أفهمها وأحاول ترجمتها للناظر.
منصور الهبر: الفنّ الذي انشغلتُ فيه بدرجة أولى وبوتيرة دائمة هو الإنسان. الفنّان هو كائن ناظر ومترقّب ودائمُ التفكّر. من هذا المنطلق الرّسم عندي هو عمليّة تدوين يوميّة لما أشاهدهُ
- هل هناك نقاط تحوّل أثّرت في نتاجك؟
المؤثّرات لا تنتهي.أشخاص، كتب، فنّ، مناقشات، تصاميم، شوارع، بنيان، وطبعًا فنانين. كلّ هذه العوامل، على اختلافها وتنوّعها، أثّرت وتؤثّر في بنيتي الفنيّة وإنضاج لغتي كفنان.
- هل يعتمد منتجك الفنّي على الاستيراد من العالم الخارجي؟ أم على التصدير من عالمك الداخلي؟
الفن تصدير واستيراد. كلّ فن نُعجَب به ويعوّل عليه فنيًّا ونقديًّا هو مزيجٌ لهذين العاملين تأثّر وتأثير، استيراد وتصدير.
- ما الذي تغيّر فيك؟ وما الذي ظلّ ثابتًا؟
في الحقيقة إنّ التحوّل الأكبر هي الثقافة. القراءة بمعنى من المعاني والمعرفة. هي التي يمكنُ أن نركن إليها في أيّ تطوّر أو تحوّل أو تغيير لآراء ومواقف معيّنة.
الثّابت الّذي بقي، على سبيل المثال، الطّفولة. أنا شخص لم يغادر طفولته أبدًا، بل بقي عالقًا فيها وراسخًا في تفاصيلها. يمكنني أن أضيف أيضًا ذلك التعجّب الدّائم من العالم الذي هو أمامي. العالم الذي أنا في جدال دائم معه. هناك تحوّلات طبعًا لا يمكن الهروب منها، كالعمر والصّحة والقوّة البدنيّة، كلّها تتحوّل وتتغيّر كأيّ بشري آخر، إنّما دور الفن هنا يكمُنُ في بلورتها أو الالتفاف عليها وإدخالها في عناصر التجربة.
- بالعودة إلى معرضك الحالي: كيف توصّلتَ إلى هذه الأعمال؟ هل هي نتيجة حتميّة لكلّ ما سبقها، أم أنّها انزياحٌ من التّشخيص نحو التجريد الكامل؟
اللّوحات وما أقدّمه فيها لا تتناول موضوعًا محدّدًا. ألوانها هي ما تبقّى من شعور وأجساد وخلاصات من أعمال سابقة. لا يوجد تقليد في اللّوحة، كان لديّ رغبة ببناء اللّوحات بناء على حسّ داخلي "جهنّمي"، إذا صحّ التعبير، عمليّة الاشتغال بطريقة غير مضبوطة إلا من خلال عقل داخلي غائب. هذا الشّغل ضابطه ليس العقل وإنّما كيان اللوحة الداخلي وما يفرضه.
بالطّبع، هناك انزياح من التشخيص إلى التّجريد. هذا لم يكُن خيارًا طبعًا، بل كان وليد التجربة الفنيّة عبر سنوات من التّجريب والعمل.
السؤال عن سبب الذهاب من الشّكل إلى "اللاشكل"، يمكنُ تفسيره بأن الشّكل مهما تقلّب على اللوحة يبقى شكلًا، يبقى بناءً. الشّكل ينتهي حينما ينتهي التلوين أو الرّسم. الشكلانيّة على أهميّتها فهي تبقى جسرًا، جسرٌ قد يحتمل مضامين فنيّة وقد لا.
قمتُ بنفي الشّكل بناء على إرادة طبعًا، ونفيتُ معها اللّعبة التقليديّة على مستوى الفن، وحتّى تمّ نفي التّأليف كتأليف يُريد من خلاله الفنان أن يضع "القارئ" بحالة تعزية أو متعة أو فرح.
يمكنني اليوم أن أقول إنّ الأعمال الفنيّة غايتها الإزعاج، وعدم أخذ المشاهد إلى مكان آمن ودفعه إلى فسحة تفكير. هذا باختصار ما أحاول تقديمه من خلال التّجريد.
- ماذا تقصد بـ"الجمال السّلبي"؟ العنوان من اختيارك، وما علاقته بمضمون اللّوحات؟
عنوان المعرض من اختياري طبعًا، ولكنه ليس من اختراعي. الشّاعر مالارميه هو الذي قال بأنّ الفن دائمًا سلبي. طبعًا اختيار هذا العنوان متطابق مع الأعمال التي أنجزتها مؤخرًا. صلةُ الوصل بين هذا العنوان واللّوحات قد تكون فكرة مفادها أنّ الفن السّلبي هو عملية نفي لكلّ فن. كلمة فن كما يتعاطها السّواد الأعظم من الناس، هو تصالحي، جسر للتّواصل. وهذا بنظري غير صحيح، الفنّ غير تصالحي وصدامي وخارج عن أيّ تعريف للتأمّل والمتعة، وهذا هو السّائد.
كلّ فن غايته الاستمتاع، التأمّل ثمّ الاستمتاع، هو فن يتماهى مع السّوق والبضاعة. وهو يحوّل اللّوحة أو العمل الفني إلى غرض ليس إلّا. ما فعلته هو استبدال العمل كمتعة. وإحلال الصّدمة محلّ المتعة في النظر.
يبقى أن أقول إن الجماليّة أو الجمال، هي فخ كبير. كلمةٌ مطّاطة وتؤوّل كثيرًا، ولا يمكن حصرها. ليس مهمة الفنّ أن يبرز الجمال، هذا ليس موجودًا بتاريخ الفن. الجمال هي أن تقول ما هو شاحب، صادم وإشكالي وفوق القول. علم الجمال ليس أن نتلوَ عمل فني من أجل إبراز الجمال، هذا ليس له علاقة بالفن. الجمالية هي جزء من كلّ وليست هي الغاية ولا الهدف.
- حدّثنا عن علاقتك بالألوان، نجد فظاظة لونيّة في أعمالك؟
صحيح ما تقوله، الألوان فظّة وغير مهذّبة. تصرخ كلّ الوقت والبياض في صمت. هذه الألوان فظّة تسير مع العدم الذي هو البياض، تمشي جانبًا إلى جنب معه. هناك تناقض كبير بين فظاظة الألوان المقدمة في معرضي وبين السّكون المرجوّ.
منصور الهبر: كلّ فن غايته الاستمتاع، التأمّل ثمّ الاستمتاع، هو فن يتماهى مع السّوق والبضاعة. وهو يحوّل اللّوحة أو العمل الفني إلى غرض ليس إلّا. ما فعلته هو استبدال العمل كمتعة. وإحلال الصّدمة محلّ المتعة في النظر
- لدينا في الشّعر ما يسمى "قصيدة البياض". نجد أنّك أيضًا في لوحاتك تبحث عن "قصيدة البياض" أو لوحة البياض. ما هي هذه اللوحة وما هي عناصرها. إلى أيّ مدى يُمكن أن تقدّم للمتلقّي ما يريده من خلال المساحات البيضاء؟
المساحة البيضاء موجودة في معظم اللوحات، عدد من اللوحات يسيطر عليها البياض بقوّة. البياض بالنسبة لي هو العدم، الصّمت الكبير أو اللّالون. هذا الشعور الداخلي الذي يقول دائمًا يكفي. البياض شعورٌ دائم مفاده أنه يجب أن أتوقّف حتّى عن هذا الحراك الفنّي. أن أتوقّف حتّى عن اللّغة الفنيّة التشكيليّة التي ألجأ إليها للهروب والخلاص. كلّ هذه الاختلافات قد يجسّدها البياض بسؤال داخليّ صارم وصادم، هو بمثابة دعوة لأخذ استراحة أو للتوقّف عند حدود معيّنة للّوحة.
- كيف هي علاقتك بأعمال عمالقة الفن؟ هل هناك تأثيرات واضحة فيما نراه؟
الأعمال بطبيعة الحال لها علاقة بفنانين كبار من جهة، وبتاريخ الفن من جهة ثانية. تاريخ الفن بوصفه عملية أو صيرورة مستمرة منذ بدايات الفن في الكهوف وحتى ساعة حضور الفنان إلى مرسمه أو عمله.
الفنان، أيّ فنان، مرتبط ارتباط عضوي بتاريخ الفن. وهو موجود داخله بطريقة أو بأخرى، طبعًا دون أن يسيطر عليه أو يتعقبه. إذا قلنا ان تاريخ الفن الحديث موجود في عقل كل فنان. الفن تأثرات، لا يوجد فنان يجترح ما يجترحه عبثًا، دون تأثر بما سبق. كلّ هذا في سبيل خلق لغة خاصة، تبحث عن همّ أوحد وهو الفرادة.
- أخيرًا، هل يُمكِن أن يحتمل التّجريد رسالة أو قضيّة؟
التجريد كأيّ مذهب أو تيار آخر قد يحتمل القضية وقد لا.
التجريد عندي حاليًا مرتبط بالمجتمع، الأعمال المعروضة الآن فيها مواد هذا العالم، وآثاره. استعضتُ عن الطبيعة بلون عاصف أخضر، وعن البشر وتواجدهم بلون يقرب إلى البشرة. كما استعضتُ عن الثّورة والتفجّع وعدم الرّضا بالألوان الحارّة، وعن الصّراخ بالأصفر، والشّحوب والبهتان بالأسود وهكذا دواليك.
هذه الاستبدالات هي ألوان متضاربة، من الصّعوبة أن تلتقي سويًا. لكن ما نشهده اليوم هو قمّة التضارب. هكذا يمكن أن أكون قد عبرت عن "القضية" التي أريد في خريطة مجنونة من الألوان تجسّد ما يعتمل فينا لبنانيًا وعربيًّا وربّما عالميًّا.