لم يعد الموت فعلًا يستدعي الانفعال، بل أصبح خلاصًا يثير حسد الأحياء، لكنه رغم ذلك عمل شاقٌ يستدعي تأملًا طويلًا من أحياءٍ يحيطون به ويعايشونه بكل تفاصيله، ليدلهم على القيمة المضافة للحياة التي صار من السهل التفريط بها.
ترصد "الموت عمل شاق" رحلة جنائزية لعائلة سورية تعيش تفاصيل حياتها المضطربة في أتون الحرب
هكذا تبدو تأملات الكاتب السوري خالد خليفة في روايته الأخيرة "الموت عمل شاق" (دار نوفل)، التي ترصد رحلة جنائزية ترسم ملامح عائلة سورية تعيش تفاصيل حياتها المضطربة في أتون الحرب، التي تكشف زوايا خفية في نفوس أفراد تلك العائلة، يلمح من خلالها خليفة إلى النفس السورية التي تبدلت، أو تكشفت على حقيقتها خلال سنوات الحرب الأخيرة.
عائلة فرقتها الحياة وجمعها الموت في سيارة انطلقت من دمشق حاملة جثة الأب عبد الله الذي أوصى ابنه الأصغر بلبل، بدفنه في قريته العنابية الواقعة في الريف الحلبي المحرر، ليجمع ولديه وابنته مرة أخرى، بعد أن انزوى كل منهم في حياته الخاصة البعيدة تمامًا عن الآخر، وتبدأ رحلة إعادة اكتشاف للحياة مرة أخرى عبر طريق مهد له الموت، وحاصر كل جوانبه عبر حواجز عسكرية لا ترحم، واختلافات أيديولوجية وإنسانية بين نقطة عسكرية وأخرى، تلخص الواقع السوري، وتعطي تصورًا واضحًا عن حالة الفوضى التي سيطرت على البلاد، معرية الكثير من ملامح الواقع الذي يسيطر على أرض المعركة.
يمر خليفة عبر سيارته السردية، إلى تفاصيل الحياة السورية في زمن الحرب، فيظهر جشع حواجز الجيش إلى المال الذي يسهل عملية العبور إلى الضفة الأخرى من المعركة، حيث العناصر التي انشقت عن الجيش ذاته، حاملة سلاحها لتقاتل في سبيل حريتها، تنظر إلى الطرف الأول الذي يحمل أقارب فرضت الحرب نفسها ليصبحوا أعداء بالضرورة، ثم حواجز أخرى من ملثمين لا تفهم عاميتهم ويتكلمون بفصحى ركيكة، تظهر مدى غرابتهم عن الأرض التي يحاربون عليها، مدعين خوفهم على أهلها ورغبتهم في تصحيح أوضاع شعبها الضال عن طريق الحق والإيمان.
تسير السيارة في طريقها المليئة بالمخاطر، فاتحة أبواب الذكريات المتعفنة في القلوب كجثة الأب التي بدأت تصدر روائحها الكريهة مفرزة إياها في محيط العابرين معها، فيتذكر بلبل أباه وحبيبته نيفين التي تزوجها أخيرًا بعد انتظار دام أعوامًا، خائفًا من إخبار أخيه حسين بأن زوجة أخرى غير أمه كانت تقاسم أباه الحياة في أيامه الأخيرة داخل الحصار قبل أن يتم إخراج، متسائلًا عن مدى كره حسين لوالده الذي هجره منذ سنوات طويلة لأنه لا يريد أن يعيش فقيرًا، ليهرب باحثًا عن دنيا جديدة أوصلته في نهاية المطاف إلى السجن بتهمة حيازة المخدرات. يتذكر زوجة أبيه، متألمًا على قصته التي لا تختلف كثيرة عن والده مع حبيبته القديمة لمياء، التي أحبته ولم تتزوجه لأنه مسلم.
فاطمة الأخت الوحيدة التي حاولت أن تهرب على طريقتها عبر الزواج ممن ظنته ثريًا سيكون بإمكانه تبديل حياتها الرتيبة ونقلها إلى ذاك المجتمع المخملي الذي تحلم به، لتسقط في امتحان الأحلام المخملية، عائدة إلى غرفتها الضيقة في بيت أبيها الذي رافقته إلى مثواه الأخير، قبل أن يصيبها خرس أبدي حسدها عليه بلبل.
في رواية خالد خليفة، صارت الذكريات ملاذًا للفرار من قهرية الحدث الدموي إلى زوايا تخلت عن إيلامها
الكثير من الذكريات تتفتق، لدرجة أن مراجعتها تصبح طريقًا إلى الخلاص من أثرها على شخوص الرواية المتشعبة، التي تسرد معاناتها مع رحلة شاقة من الحياة كانت أشبه بالموت المؤجل الذي يشرح الحالة الفردية والمجتمعية للمحيط السوري الذي ربما تمثله حكاية أسرة كهذه.
يظهر جليًا في رواية خليفة، تأثره الكامل بواقع الموت السوري الذي فرضته الحرب، ذاك الواقع المليء بالدم والقهر والذكريات التي صار ملاذًا للفرار من قهرية الحدث الحالي إلى زوايا تخلت عن إيلامها مع مرور الوقت.
يستند الكاتب على هذا الواقع منحوت بلغة الموت وسطوته التي فرضت نفسها على الحياة، مدعما نتاجه السردي بتفاصيل يمر بها جلّ السوريين في يومياتهم على اختلاف توزعهم المناطقي، هاربا من تسمية قرية بعينها عبر الترميز بأحرف تدل على إشارات يمكن تفسيرها ضمنيا.
"الموت عمل شاق" رواية عن رحيل يولد حيوات جديدة بتضاريس نفسية وفكرية جديدة، ترصد الرؤية البشرية لفكرة الموت وما يقابلها من تناقض مع فكرة الحياة، ذاهبة إلى أبعد من ذلك في الحديث عن حياة يتملكها الموت بطولها وعرضها، وموت يمكن أن يصبح هدفًا للأحياء الباحثين عن تجربة جديدة تخلصهم من فشل التجربة الأولى.
اقرأ/ي أيضًا: