إنّ هناك ما يَكفي من الرَّتابة في هذا العالم، من "المَنع"، من الحياة غير الضّروريّة التي تُفرضُ علينا أن تعاشَ، ولا ندري، في النّهاية، أنحنُ الذين نعيشُها، أم هِي التي تعيشُنا، وتستنزفُنا، وكأنّ الحَياة كلّها وقتٌ ضائع، ونشاهدها وهي تكون كذلك، ومع ذلك، لا نملكُ شيئًا حيالها، وحيثُ يُصبحُ الأدب حاجةً ضروريّة، للنَفْس، للعقل، للخيال، والمُوسيقى، والفنّ عمومًا، يأتِي شخصٌ ما، قرأ بما فيه الكفاية ليقوم بإعادة كتابته مرّة أخرى، ويضَعُ نفسهُ، حاجبًا لبلاط الثَّقافة، ويجعلُ من الثَّقافة قصرًا، وهُو أميرهُ، ويعدُّ سَيَّافيه، واحدًا تلوّ الآخر، بأحكامهم الجاهزة، على "الأدب المُلتزم"، و"الأدب البرجوازيّ"، و"الأدب الأخلاقيّ"، و"الأدب غير الملتزم وغير الأخلاقيّ"، و"أدب المُقاومة"، و"أدبُ الخِيانة"، ليجعلَ من عالمٍ، هُو فُسحةٌ بالأساس للخيال ولعالم عجيبٍ يختلفُ عن الواقع الضّحل الذي نحياه، ليجعل من هذا العالم، عالمًا بالكادِ يُطاق، بما يكِيلُ لهُ من فيضِ ثقافتهِ من الأحكامِ والتميّيز.
لا يحتاجُ الأدبُ إذنًا ثقافيًا سياسيًا من أحدٍ كَي يَكون ما يرادُ لهُ أن يكون في نظرِ المثقَّف
بعضُ الضروراتِ الأساسيّة في القول، هي أن الأدب ليس ثقافة، وأنّ الأديب ليس مثقّفًا، وأنّ الشاعر ليس مثقّفًا، وأنّ الموسيقيّ ليس مثقّفًا، وأنّ الرسّام ليس مثقّفًا، بَل هؤلاء جميعهم، مكوّنات من مكوّنات الثقافة. ولا يحتاجُ الأدبُ إذنًا ثقافيًا سياسيًا من أحدٍ كَي يَكون ما يرادُ لهُ أن يكون في نظرِ المثقَّف، الذي يجلسُ مترصِّدًا، بقلمهِ، مدفوعًا إمّا بيأسِ الفشلِ من أن يخرج من عباءةِ المثقَّف إلى عباءة الأديب والمفكّر والفيلسوف، أو مدفوعًا بتعصّبٍ أعمى، أيديولوجيّ من نوعٍ ما من الأيديولوجيّا -الموجودة على اختلاف أشكالها بوفرةٍ- ليُمسكَ "الرّواية" أو "القصيدة"، من خصيتَيها ويقودُها إلى حيثُ يشاء من محاكماتهِ اليوميّة التي لا تنتهي.
اقرأ/ي أيضًا: عبدالله العلايلي.. من فقه اللغة إلى فقه الدين
إنّ من طَبيعة الدّولة والسّلطة، أن تقوم بفعل المنع، ومِن طَبيعة الأدب أن يكون مشمولًا بأنواعٍ من هذا المَنع، من طبيعته أنّه يخرجُ عن المألوف، ومن طبيعته أنّه يظهرُ فوقَ كلّ شيءٍ آخر، فضاء حر من كلّ حاجةٍ سياسيّة واجتماعيّة وأيديولوجيّة، حتّى وإن كان يحملُ بينَ طيّاته بعضًا من هذه الحاجات، إلّا أنّه وهو الشَيءُ المؤلَّف بطبيعته من كونهِ خارجًا عن النصِّ المنطقيّ للنظريّة والبناء الهيراركيّ للسلطة، فإنّه يجعلُ من احتماله لهذه الحاجات، يجعلُ منها حياة، يُعطيها الحياة التي تفتقرُ إلَيها في وجودها المنصوص، دونًا عن اللسانِ المتكلّم في الرّواية، والقافيَة المغنّاة في القصيدة.
ومن طبيعتهُ أنّه حرّ. كلُّ هذا الصّياح عن حرّية الأدب لا يمنحهُ الحرّية، التي لو تمكّن منها لما احتملهُ أيّ سقفٍ من الحرّية طُولبَ بها من قبل أو سيُطالبُ بها من بعدْ.
لا أحدَ يُعطِي الأدبَ حرّيّته. ولا أحدَ يُعطِي الأديب قواعدَ الحرّية، وقواعد الخروج عنها. فالحريّة المعطاة، هي بالأساس منعٌ قد ضُيِّقَ على ما مُنعَ بالأساس، فهِي منعٌ يحوي في نصِّه القانونيّ، مجالًا ضيِّقًا من القدرة على القول والكلام. حريّة التّعبير، حريّة القول، حرّية الفعل، ضمَانُ هذه الحريّات، كلُّ هذا هراء، لا سبيل إلى الوصول إليه وسُلطةٌ ما في مكانٍ ما، موجودة.
كلُّ هذا الصّياح عن حرّية الأدب لا يمنحهُ الحرّية
لكنّ السُّلطة حالةٌ من المنع المُستمرّ. أمَّا المُثقَّف، فذاك هُو النّوع من المَنع، الذي ليس صادمًا كما يتخيّل البعض، بل هُو متوقَّع، حيثُ لا عملَ لدى المُثقَّف سِوى أن يقُوم بالتَّصنيف، وإعطاء الأحكام، على كلّ ما هُو نوعٌ ثقافيّ. وإلّا، لما كان لهُ ضرورةٌ لولا هذا الدّور. إلَّا أنّ المُثقَّف ولكي يقدرَ على جدال الأديب، فعليهِ أولًا أن يجعل الأديب مثقَّفًا مثله، لكَي يستطيع جداله.
اقرأ/ي أيضًا: عزيزي المثقف المصري: الأزمنة ليست كلها سوداء
درويش احتملَ هذا الأمر. المُتنبّي احتمله. دائمًا كان هناك مثقّف، ودائمًا كان هناك ناقد، ودائمًا كانت هُناك سلطة. دائمًا كانَ هُناك من يُصدرُ الأحكام، ويُعلي ويهوي بمَن شاء وأراد. دائمًا كان هناك، من يُفقدُ الأدب قيمتهُ الحقَّة، في عالمٍ مسخٍ مشوّهٍ رتيبٍ كهذا العالم الذي نحيا فيه، ويَخافُ من هذا العالم الحرّ، المنفلت من عقال المنطق والقوّة والسلطة، المخصَّب بالخَيال والضجيج، الذي "لا يعكسُ الواقع"، كما يَشاءُ البعضُ أن يكون، بل يخلقُ عالمًا متخيّلًا، فالواقعُ، بغيضٌ مشوّه بحيثُ لا يُطاقْ بنفسهِ، فماذا لَو خرَجنا بنسخٍ منهُ تحيطُنا فوقَ رفوفِنا؟
إلّا أنّ المُثقَّف لا يُدركَ مقدارَ السّخافة التي تحملُها كلماتهُ حينما يبدأ بمحاكمة النصّ الأدبيّ، وفقًا لأهوائه الأيديولوجيّة. فالنصَّ الأدبيّ ليس نظريّة، ولا طرحًا سياسيًا، ولا طرحًا اجتماعيًا، ولا هُو يحملُ من التسلسلُ والقصديّة المنطقيّة، بحيثُ يقبلُ بطبيعته جدالًا حولَ موقعهُ من النّظريّة. الأدبُ شَرطهُ الخِيال، والمُثقَّف قرأَ نصوصًا كثيرةً في النّظريّة بحيثُ لم يعد قادرًا على استيعابِ الخيال. والسّلطة، لا تقرأ، ولا تسمع، بَل تقوم بالمَنع، وفقًا لأهواءِ أفرادها الشّخصيَّة، وحيثُ يبدأ الخطأ، تتراكمُ الأخطاء في عدم قدرتها عن العودة عن خطئها الأوّل، فالمَنع كانَ في صالحِ الأدبِ دائمًا. والمُثقَّف كالسّلطة، لا يستطيعُ التّراجع أبدًا عن خطئه الأوّل في القَول، إلَّا ويبدأ بمراكمةِ الأخطاء خطأ بعد آخر، بأن يبدأ البَحث عن الكلماتِ في النصّ الأدبيّ، ويقوم بتحليلها، ويبدأ بالنّظر إلى الكاتب ورؤية أخطائه في الحياة وتحميلها إلى النصّ، ومحاكمة النصّ بأخطاء كاتبه، والأخطاءُ هنا، هي الأخطاء التي يعدُّها المثقَّف أخطاء، والتي يَنظرُ إلَيها مثقَّف آخر على أنّها ليست أخطاء، فيبدأ مثقَّف آخر في مكانٍ ما، بتبنّي الرّواية والقصيدة، بحيثُ يشعرُ أنّه يملكها، وهو لا يملكُ منها حرفًا، لا مُدافعًا ولا مُهاجمًا. فالنصُّ الأدبيُّ، باقٍ، ورأيُ المثقّف مدافعًا أم مهاجمًا، زائل. وإلَّا لكانَ عددُ صفحاتِ ديوانِ المتنبيّ ودرويش، لا ينتهي أبدًا، لأنّنا كنّا سنقرأُ كلّ نقدٍ وجِّه إلَيهمْ، هذا النّقدُ الذي لم ينته ويبدو أنّه لن ينتهي أبدًا.
ما كانَ للأدبِ حتّى الآن هُو أن يُستخدمَ، في صراعاتٍ شخصيّة وفرديّة. بحيثُ تُفقدُ قيمتهُ تمامًا. فإمَّا أن يَكونُ مُتبنّى، وإما أن يكون منبوذًا. وهو في الحالَين، لا يُنظرُ إليه كشيءٍ مُستقلٍ وهو كذلك، مستقلٌ بذاتهِ، حيٌّ بذاتهِ، يعكسُ ما يُريدُ كما يُريد، ولا يتطلَّب من كاتبهِ وصاحبهِ أن يَقولَ عنهُ شيئًا، ولا يَطلبُ من أحدٍ تفسيره، بَل يطلبُ من الجميع أن يُقرأ وحسبْ، والقراءةُ الشّخصيَّة هي حدُّ الأمر المطلوب، أمَّا الحُكمُ الثقافيّ القائم على تفسير أيديولوجيّ، فهوُ ليسَ إلَّا مغالطة كبرى لا تحمل منطقًا، ولا تحتملُ الوقوع أصلًا، ولهذا فحينَ تقعُ تكونُ كريهةً كالشَّيء الشاذ، ولكنّه الأكثر شيوعًا.
ماذا لَو قامَ درويش، بإيرادِ جملةٍ هامشيّة بعدَ كلّ قصيدة، يُخبرُنا فِيها تفسيرهُ لهذه القصيدة؟ كأنْ يَقول إنّ قصيدة "شتاءُ ريتا الطّويل"، كتبت على هذه الشّاكلة، لأنّه اشتاقَ في مساءِ يومٍ شتائيّ، لامرأةٍ حينما رأى امرأةً تلبسُ شالًا أحمر في شارع ما؟ ماذا لَو قالَ لنا بِيتهوفن إن السّيمفونيّة التاسعة كتبت على هذه الشّاكلة، لأنّهُ كانَ يشعرُ بفرحٍ يغمرهُ كلَّما دقّ بصدرهِ أربع دقّات؟ أو خمسْ؟ أو ستّ؟ ماذا لَو قالَ أجابَ غسّان كنفاني مثلًا على سؤال :"لماذا لم يقرعوا جدران الخزّان؟". هذا هراء.
الهراء هو أن يطلب من الأدب والفنّ أن يقوما بتفسير نفسيهما
الهراء هو أن يطلب من الأدب والفنّ أن يقوما بتفسير نفسيهما. من الكاتب والفنّان تحديدًا أن يقوم بتفسير نفسه. أو بالرّجوع عن بعضِ ما "اقترفَ"، من جرائم بنظر المثقَّف، والتّوبة إلى مجمّع المُثقَّفين المعظّمْ. لَو كانَ هذا ما حصلَ في كلّ من الأمثلة، لفقدَ كلّ شيءٍ قيمتهْ.
اقرأ/ي أيضًا: يا ليل.. يا عين: شرقٌ روتْهُ النساء
أمَّا أن يُقرأ العمل الأدبيّ، على أنّه نوعٌ ما من الأعمال الأدبيّة. كأن نقول إن قراءة سارتر مثلًا، هي ترفٌ لأولئك الذين يملكون وقتًا ليشعرو بمللٍ في الوجود. أو قراءةُ المُتنبّي، لأولئك الذين يشعرون بحنينٍ إلى تاريخٍ سحيقْ، وهُو شعرٌ قد عفى عليهِ الزّمن، وهو أصلًا نخبويّ، وشاعرهُ شاعرُ المُلوك، وهُو لذاكَ إنّما يجبُ أن لا يُقرأ، وهُو كذا وكذا. أو أن يُقال إنّ درويش "شاعر إنسانيّ!"، وحسبْ. أوّ أن الموسيقى الكلاسيكيّة هي موسيقى نخبويّة وحسبْ.
هكذا يعملُ المُثقَّف دومًا في حال لا ينتهي من التّصنيف، والاتّهام والمُحاكمة، بل وحتّى التهكُّم والتَخوينْ والاستخافْ. ناسيًا حقائق أساسيّة، هي أنّ العمل حينما يُكتبُ وينتج، لا يَكونُ في أيّ سياقٍ عدا هذا السّياق الذي يحملُ الكاتب ويدفعهُ في حمّى وقلقٍ ولذّة، إلى الكتابة والتّفكيرْ، وبعد ذلك، يكونُ العمل، يقرأهُ من يشاء أو يسمعهُ من يشاء، وهؤلاء، قارئين ومستمعين، يختارون أن يجعلوا من الأدب أدبهم المفضّل، أو موسيقاهم المُفضَّلة. لا أحدَ مَنعَ بِيتهوفن من النّخبة من سماعهِ، ولا أحدَ احتجز دواوينَ المعرِّي من أن تُقرأ من غير الفلاسفة والمفكّرينْ.
الأدبُ مُستقلٌ في ذاتهِ. وهو لذاكَ لا يخضعُ إلّا لشرطِيهِ الوحيدين؛ شرطُ الخَيال واللغة. وما عدا ذلك كلُّه حاضرٌ وموجود، ولكنْ لا علاقَة لهُ بقيمة النصّ الأدبيّة. ولا يراهُ الأدبُ حينما يُكتبُ، بَل يراهُ المثقَّف حينما يُقرأ. وحقًا ليسَ من الممكن لأولئك الذين قرؤوا كثيرًا بحيثُ فقدوا قدرتهم على الخيالِ، أن يعرفوا قيمة رتابة واقعهم وعاديّتهِ في مقابلِ خصوبَةِ خيالِ الأدبِ والقَصيدة. ولهذا، لا يتحرَّجون من أن يجعَلوا حتّى كلمة "المثقّف"، في هذا العصر، تبدُو وكأنّها شتيمةٌ من نوعٍ ما، بالنّسبة للأدباء.
أمَّا عن الرّواية والمثقَّف، فهناك أيضًا، في تراتبيّة المشهد الثقافيّ، تراتبيّة أيضًا في مصافّ المُثقَّفين أنفسهم. وتَكونُ الرّواية دائمًا وأبدًا، في صدارةِ الحقلِ الذي يجدُ المُثقَّف في نفسه القدرة دومًا والحق أيضًا، على نقدهِ والحكم عليه وتصنيفه. إلَّا أنّ هذا الحَقل، تحديدًا، الرّواية دونًا عن غيرهِ من الحُقول الثَّقافيَة، هُو الحقلُ الذي يجبُ أن يبقى ممتنعًا عن الحُكمِ والتّوصيفِ الثقافيّ.
الأدبُ مُستقلٌ في ذاتهِ. وهو لذلكَ لا يخضعُ إلّا لشرطِيهِ الوحيدين؛ شرطُ الخَيال واللغة
فالرّواية في طبيعتها، فضاءٌ حرّ، لا للكلمات والأفكار وحسب، لا للمكان والزّمان وحسب، بَل فِي كلّ جزءٍ من أجزائها. هِي الحرُّية في اختيار الشَّخوص، في الوصف، في التّدقيق، في الأفكار، في الكلمات، في المكان، في الزّمان، في المعنى، وفي الاستعارة، في احتِمالِ الخطأ والصّواب، وفي انتفاءِ الخطأ والصّواب، وفي القُدرة على كِتابة الشِّيطانِ، وكتابةِ الرّحمن، وفي القدرة على استحضارِ المُلوكِ واستحضارِ العبيد، والحَديثُ عن الحرّية وبعد لحظاتٍ عن الجنسِ الممزوجِ بأقسى متعِ السّاديّة، وفي الصُّراخِ عن العدالةِ والغضَبِ الممزوجِ بالاستعبادِ والقَسوةِ في الشَّخصيّة نفسها، وفي العِبارةِ نفسها.. وهذا كلُّه، لا يملكُ أن يحكمَ عليهِ مثقَّفٌ فقيرُ الخَيال، تهدِّدهُ بضعُ صفحاتٍ قليلةٍ إذا تكلّمت عن عالمهِ الجنسيِّ الفَقيرِ ومداعبتهِ لعضوهِ الذَكريّ، وتفضحُ حينما تَفضحُ فقرَ حتّى خيالهِ الجنسيّ، وهذا كلُّه على سبيل المِثالِ وحسبْ.
اقرأ/ي أيضًا: مطلوب شاعر مغربي كبير
لا أحدَ يخفى عليه، أنّ هذا المَقال مُرتبطٌ بصورةٍ أساسيّة في ظرفهِ الزّمانيّ، بما يتعلَّق بجريمةِ منعِ رواية "جريمة في رام الله"، وإنّي أنأى هُنا، عن استحضارِ آفّات المَنعِ، والحديث عن الرِّواية، وإنّي أعتقدُ أنّ اختِزالَ روايةٍ أو قصيدةٍ في حدَثِ منعها هو أسوأ ما قد يَحصلُ لهذه الرّواية أو القصيدة. وهذا ما يجعلُني أنأى عن الحديث مباشرةً عن الرّواية، لأنّني لا أرغبُ في أن أكون جزءًا من اختزالِ الرّواية بحدثِ منعها مؤيّدًا أم معارضًا. وهذا كلُّه، هذا المِنوالُ من الاختزالِ للأدبِ، في عصرٍ بالكادِ يقرأُ فيهِ شخصٌ من عشرةٍ، مع احتمالِ الخطأ والصواب في العدد، هذا ما يجعلُ من المثقَّف وغيرهِ من الأشخاصِ، خطرًا على الأدب، الآن أكثرُ من أيّ وقتٍ آخر. فلَا أحدَ كان مسؤولًا وسيبقى عن اختزالِ دَرويش في كونهِ شاعرًا إنسانيًا عدا المُثقَّف والسَّلطة، ولا أحدَ كان مسؤولًا، وسيبقى عن اختِزال المُتنبِّي على أنّه شاعرُ بلاطِ الملوك سوى المُثقَّف والسّلطة، ولا أحدَ كان مسؤولًا عن اختزِال كنفاني في كونهِ روائيًا "يساريًا"، سوى المُثقَّف والسَّلطة، ولا أحدَ كان مسؤولًا وسيبقى عن اختِزال الكثير والكثير من النّتاج الأدبيّ والفنيّ العربيّ والعالميّ، في توصيفاتٍ تفتقرُ للمعنى، سوى المُثقَّف والسَّلطة. ولكن، حقيقة واحدة وحيدة ثابتة كانت ولا تزالُ وستبقى، هي أنّ الأدبَ باقٍ، الشعرُ باقٍ، وكلُّ التوصيفات والأحكامُ، زائلة، ومهما اختزلَ الأدبُ في لحظَةِ منعهِ وحدوثه، لا يلبثُ أن يتعافى من هذا الاختزالِ حينما يُقرأ بخيالٍ خصبٍ، وقدرةٍ على الخَيال لدى حتّى ولو قارئٍ واحدٍ.
اقرأ/ي أيضًا: