أُتيح لي مؤخرًا فرصة قراءة كتاب "دين الفطرة" للفيلسوف السويسري جان جاك روسو والذي نقله وترجمه إلى العربية المفكّر والفيلسوف عبد الله العروي، والكتاب في عنوانه دين الفطرة أو عقيدة القسّ من جبل سافوا يأتي ليُشير بشكل صريح إلى طبيعة دين الفطرة الذي يتحدّث عنه، فالكتاب هو عبارة عن خطاب يقوم قسّ من جبل السافوا بإلقائه على مسامع شاب فقد الإيمان، واقترب من أن يتحوّل إلى صعلوك زنديق بسبب المآسي التي عاشها، حيثُ يلجأ القسّ إلى بناء خطابه الدعوي إلى الشاب عبر التركيز على الوجدان واعتباره المسّلك الأول من أجل الاهتداء وإيجاد طريق الدين الفطري السليم.
رواية حيْ بين يقظان تحكي عن طفل يُدعى حيْ تخلّق –بحسب العديد من الروايات- نتيجة علاقة غير شرعية بين رجل وامرأة، وهو ما اضطر أمه إلى التخلي عنه وإلقائه في اليم وهو رضيع
وقد دفعتني قراءة كتاب "دين الفطرة" لروسو إلى التفكير في رواية "حيْ بن يقظان" للفيلسوف الأندلسي المسلم ابن طفيل، وهي الرواية التي تَرد في العديد المصادر التاريخية باعتبارها الأساس الذي استلهمها روسو في كتابة وتأليف كتابه.
ورواية حيْ بين يقظان تحكي عن طفل يُدعى حيْ تخلّق –بحسب العديد من الروايات- نتيجة علاقة غير شرعية بين رجل وامرأة، وهو ما اضطر أمه إلى التخلي عنه وإلقائه في اليم وهو رضيع، بسبب خوفها عليه من اخيها الذي كان ملكًا.
تروي رواية حيْ بن يقظان الذي حرص ابن طفيل على صياغتها بشكل أدبي موغل في الأبعاد الفلسفية عن نشأة الطفل حيْ وكيفيات تشكّلاته الفكرية والدينية، حيثُ توضّح أنّ اليم الذي حمل حيْ وهو ما يزال طفلًا رضيعًا قد ألقاه على شاطئ جزيرة فيها غابة، حيثُ تلقفته هناك ظبية وقامت بتربيته والاعتناء به، وتتحدّث في تفصيلاتها حول النشأة الفكرية والدينية لحيْ وأنّه رغمَ عدم معرفته بلغة البشر وطريقة تواصلهم إلا أنّه قد استطاع من خلال وجدانه وعقله وفطرته فقط الاستدلال على وجود الله، حيثُ قادته العديد من الحوادث –وفي مقدمتها- موت الظبية التي ربته إلى الاعتقاد بوجود خالق عظيم تفيضُ عنه روح واحدة يضعها في كافة مخلوقاته، ويسحبها منها متى شاء وأراد، فعبر تأمّل حادثة موت الظبية توصّل حيْ إلى ضرورة وجود خالق عظيم وصانع لهذا الكون ولما فيه من مخلوقات.
وفي السياق السابق، يُمكن القول بأنّ روسو في كتابه وابن طفيل في روايته يشتركان معًا في عرض قضية الوصول إلى الدين الفطري السليم (الاستدلال على وجود الله) من خلال الاستدلال الوجداني، فروسو يقرّر من خلال الخطاب الذي يَجري على لسان القسّ بأنّ الوجدان الذي يَعمل وفق مبدأ يُطلق عليه اسم "الضمير" هو الذي يُميّز البشر عن غيرهم من المواد والكائنات الأخرى، فالضمير بحسب روسو هو الذي يَشعر بوجود الخالق ويُدركه ويستدلّ عليه، فهو بحسب رأيه "غريزة ربانية وصوت علوي لا يخفت"، وهو كما ورد على لسان القسّ ذلك السرّ الذي يُولد مع كلّ إنسان والذي "على ضوئه يحكم الفرد، ولو صدم ذلك ميوله الشخصية، على تصرفاته وتصرفات غيره، فينعتها بالصالحة أو بالفاسدة".
فالضمير في خطاب قسّ روسو يظهر في كتاب "دين الفطرة" كما لو كان الأساس في الوصول والاستدلال إلى الدين الفطري السليم، حيثُ أنّ القسّ يُرجحه على العقل ويرى أنّه "ًصوت الروح" الذي لا يخدع أبدًا، ويعتقد أنّه "الدليل الأمين".
ويُمكن القول بأنّ روسو قد استلهم مبدأه الذي أسماه "الضمير" كطريقة من أجل الاستدلال على وجود الله والوصول إلى الدين الفطري السليم من ما أورده ابن طفيل في روايته وأسماه "بالمشاهدة الكشفية"، فحيْ بن يقظان يصل في مرحلة حساسة من حياته عندما يبلغ مستويات عالية من النضج الوجداني إلى معرفة الله عبر "المشاهدة الكشفية"، وإنّ معرفة الله بالمشاهدة الكشفية هي معرفة لا تتمّ عبر طرق العقل أو طرق الإدراك الحسية، وإنّما "تتمّ بأمر يستعصي على التسمية والتحديد، ويسمى قوة على سبيل المجاز، لأنه لا يملكه كل الناس، أي ليس ذاتيًا للإنسان بما هو إنسان". فهذه القوة التي يُوردها ابن طفيل كأساس لما أسماه المشاهدة العينية، هي قوة تمتاز عن باقي قوى النفس "بأنها تُمكّن المشاهِد من المشاهدة الصرف والاستغراق المحض، فتغيب ذاته وتتلاشى بمعيتها الذوات الأخرى كلها إلا ذات واجب الوجود، وهذا منتهى السعاد والبهاء".
التقاطع الواضح الذي يظهر في أطروحات دين الفطرة عند روسو وابن طفيل هو تأثّرهما بأسطورة الكهف في فلسفة أفلاطون
وتبعًا لذلك، يُمكن القول بأنّ قوة المشاهدة الكشفية –التي تُعتبر منزلة رفيعة من منازل الصوفية لا يصل إليها إلا أهل الولاية والكشف- التي اعتمد عليها حيْ (ابن طفيل) كوسيلة من اجل معرفة الله والاستدلال إلى الدين الفطري السليم، تتقاطع بشكل أو بآخر مع مبدأ الضمير الذي أقرّه قس (روسو) كأساس من أجل معرفة الله والاستدلال إلى الدين الفطري السليم.
وفي السياق السابق، فيُمكن القول بأنّ الدين الفطري الذي يدعو له القسّ في كتاب روسو يظهر كما لو كان دينًا من الديانات الإبراهيمية، حيثُ أنّه يدعو الشاب إلى الوصول إليه عن طريق الضمير والفطرة وحدها دون الاستعانة بالوسائط الكنسية وغيرها، وإنّ هذا الدين الفطري الذي دعا إليه قسّ روسو يَقترب إلى حدّ كبير من الدين الفطري الذي وصل إليه حيْ بن يقظان في رواية ابن طفيل واستدلّ فيه إلى وجود الله، فالدين الذي اهتدى إليه حيْ في الرواية هو دين لا يتعارض مع الوحي في شيء، ولا يبتعد عن الديانات الإبراهيمية، فهو دين وصل إليه من خلال فطرته الروحية ودون الاستعانة بأي وسيط.
أخيرًا، فأنّ التقاطع الواضح الذي يظهر في أطروحات دين الفطرة عند روسو وابن طفيل هو تأثّرهما بأسطورة الكهف في فلسفة أفلاطون، وأسطورة الكهف عند أفلاطون تحكي قصة أشخاص ولدوا في كهف مقيدين بسلاسل، حيثُ كبروا فيه وأمامهم جدار يظهر عليه ظلال معينة تتمثّل أمامهم كما لو كانت الحقيقة الكاملة، وفي تفاصيل الأسطورة فإنّ واحدًا من الأشخاص المقيدين من السلاسل يتحرر من قيده بطريقة ما ويخرج إلى العالم الخارجي ويُعاين الحقيقة لأول مرة، ثمّ يعود إلى رفاقه في الكهف ليدعوهم إلى رؤية الحقيقة كما رآها بعيدًا عن ظلال الجدران المضللة، ويُمكن القول بأنّ القسّ في كتاب روسو يظهر كما لو كان هو رائي الحقيقة وعارفها، وفي قصة ابن طفيل يظهر حيْ بين يقظان ورفيقه آسال الذي يلتقيه على الجزيرة كما لو كانا هما رائيا الحقيقة وعارفاها، حيثُ ينطلقان في رحلتهما إلى هداية الناس وتعريفهما إلى دين الفطرة السليم.