كان عبد القادر المغربي (1867ـ 1956) تلميذًا في المدرسة السلطانية في بيروت عندما سمع، لأول مرة، باسم جمال الدين الأفغاني. ففي يوم وقف ناظر المدرسة، أحمد عباس الأزهري، في الباحة ممسكًا بجريدة في يده، وراح يحدث التلاميذ المتحلقين حوله بشأنها، مرغبا إياهم بقراءتها.
كانت الجريدة هي "العروة الوثقى" التي أصدرها في باريس الشيخان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وقد استطاع التلميذ، النهم للمعرفة، أن يحصل على نسخة لنفسه. وما كاد يقرأ بعض موادها حتى وقع في أسرها، وفي أسر صاحبها ورئيس تحريرها الأفغاني (كان الأفغاني يضع اسمه على الجريدة تحت لقب مدير السياسة، تاركًا لمحمد عبده لقب المحرر الأول).
وعندما عاد المغربي إلى مدينة طرابلس فقد أطلع صديقه رشيد رضا على لقيته، ليغدو الاثنان مريدين متحمسين، وربما متعصبين، للمصلح الكبير القادم من الشرق. ولقد أبديا الكثير من التلهف لمتابعة أخباره، وملاحقة نصوصه ورسائله الفكرية التي كانت تجوب مختلف البلدان الإسلامية، وكانا يهرعان إلى أي شخص يقال أنه التقى شيخهما أو سمع عنه شيئًا جديدًا، فيمطرانه بالأسئلة ويلحان على التفاصيل. وقد صار الشابان، بسبب هذا، عرضة لبعض اللمز والسخرية من أهالي مدينتهما، دون أن يأبها بذلك أو يلتفتا إليه.
في العام 1892 أتيح لعبد القادر أن يذهب في رحلة إلى الأستانة (إسطنبول)، وهناك كتب له أن يحقق أمنيته الغالية بأن يلتقي الأفغاني، وعلى مدار عام تقريبًا ظل التلميذ يزور أستاذه ويجلس إليه، يسأله ويسمع منه ويحفظ عنه.. ويبدو أن المعرفة الشخصية قد أبقت المغربي مريدًا متحمسًا، بل إنها زادته حماسًا وإخلاصًا.
وفي العام 1948، عاد التلميذ، وقد صار شيخًا في الثمانين من عمره، إلى ذلك العام الذهبي، مجددًا ذكرى معلمه، مدونًا بعض الأحاديث التي دارت بينهما في عاصمة الخلافة السابقة، ملخصًا أفكار الأفغاني الراحل (توفي جمال الدين في العام 1897)، منافحًا عنه، وساعيا إلى تخليص سيرته من شوائب كثيرة نجمت عن تشويه أو سوء فهم.
كان مشروع جمال الدين الأفغاني هو النهضة الإسلامية. أن تتخلص البلدان الإسلامية من عجزها وتبعيتها للاستعمار وتستعيد سيادتها وتأخذ زمام أمورها، أن يعود للمسلمين ألقهم ومجدهم
في كتابه "جمال الدين الأفغاني.. ذكريات وأحاديث"، (مؤسسة هنداوي ـ 2021)، يجمع عبد القادر المغربي مادة متنوعة ودسمة عن أستاذه، وإلى جانب أحاديثهما معًا، هناك شهادات من أناس آخرين عرفوا الأفغاني، وهناك كتابات الأفغاني نفسه، وكتابات أنصاره وخصومه أيضًا.
والكاتب يرتب مادته وفق هدف محدد لا يسعى إلى إنكاره: تمجيد الشيخ الراحل.. أو على الأقل تكريمه. فالأفغاني، في نظر المؤلف، كان رجلًا استثنائيًا في فكره وعمله ومشاريعه وتأثيره، واستثنائيًا أيضًا في تكوينه النفسي وسماته الشخصية.
لقد جاب الرجل كثيرًا من البلدان الإسلامية والشرقية: أفغانستان وإيران والهند ومصر والعراق وتركيا.. كما زار لندن وباريس وبرلين وبطرسبورغ.. أنشأ صحفًا وكتب في كثير من الصحف. قابل رجال دين ودبلوماسيين ووزراء وقادة وطلبة، وكان جليسًا للملوك أحيانًا قليلة وطريدهم في أكثر الأحيان. ولقد صار له أتباع ومريدون في كل مكان، حتى أن أحد هؤلاء قام بقتل شاه إيران، ناصر الدين، الذي كره الأفغاني بعد صداقة، وراح يحرض عليه ويسعى إلى التخلص منه. ويقال إن السلطان عبد الحميد قد استدعى الأفغاني إلى الأستانة ليضعه تحت عينيه، في حبس على هيئة استضافة كريمة.
وليس الحكام المسلمون هم الذين استشعروا خطره، فعندما كان الرجل في بطرسبورغ طلب القيصر الروسي لقاءه ليسأله عن سر خلافه مع شاه إيران، وما كاد الأفغاني ينهي حديثه حتى امتقع وجه القيصر معلنًا تعكر مزاجه، لينهي اللقاء فجأة ويطلب من مرؤوسيه ترحيل الضيف إلى غير رجعة، فالثورة التي أرادها جمال الدين في إيران هي أكثر ما كان يخيف القيصر في بلاده أيضًا.
وماذا كان الأفغاني يريد من وراء رحلاته ومعاركه الفكرية والسياسية؟
كان مشروعه هو النهضة الإسلامية. أن تتخلص البلدان الإسلامية من عجزها وتبعيتها للاستعمار وتستعيد سيادتها وتأخذ زمام أمورها، أن يعود للمسلمين ألقهم ومجدهم، وذلك من خلال الإصلاح الديني والثورة ضد الاستعمار والمستبدين.
والإصلاح هو الشق من المشروع الذي جعل الأفغاني ذا تأثير ممتد وباق، حتى بتنا نعده اليوم واحدًا من أعلام النهضة العربية الحديثة، لا سيما عبر تلاميذه الكثر الذين ذهبوا في طرق عديدة ولكن كثيرًا منهم ظلوا أوفياء لمبادئ الأستاذ الأساسية، وأوفياء له شخصيًا، حتى أولئك الذين لم يعرفوه ولم يعاصروه.
وكان الأفغاني جريئًا في دعوته للإصلاح، وخاصة فيما يتعلق بتشذيب الموروث وغربلته، والتغاضي عن كثير من النصوص المتراكمة بلا فائدة أو هدف. وكان جريئًا كذلك في دعوته للتجديد، بل أنه كان يقدم في حديثه لصحبه وتلاميذه نموذجًا عن ذلك، إذ كان يستخدم اشتقاقات عربية غير مألوفة (البقروت مثلًا، من البقر وعلى منوال الجبروت)، وكان يستخدم مفردات أجنبية ويعربها، مهونًا الأمر على من يحتج قائلًا: المفردة الأجنبية ألبسوها عباءة وعمامة تصبح عربية.
ويتذكر المغربي أن الأفغاني فاجأه بصورة لم يتوقعها، إذ لم يكن ذلك الشيخ المتجهم العابس، أو العابد الزاهد المنقطع عما حوله من شؤون الدنيا وملذاتها. لقد كان خلاف ذلك ابن حياة، يحب المرح ويجيد صنع النكتة وروايتها.
الإصلاح هو الشق من المشروع الذي جعل جمال الدين الأفغاني ذا تأثير ممتد وباق، حتى بتنا نعده اليوم واحدًا من أعلام النهضة العربية الحديثة، لا سيما عبر تلاميذه الكثر الذين ذهبوا في طرق عديدة
يحكي الأفغاني أنه كان مرة في سفينة أوشكت على الغرق، فرأى الركاب من نساء وأطفال وشيوخ وقد أصابهم هلع شديد، فراح يدور عليهم بجلبابه المميز وعمامته الخضراء، ويبدو أنهم ظنوه واحدًا من نساك الهند العارفين بالغيب، وقد فطن إلى ذلك فأخذ يؤكد لهم ويقسم أن السفينة، وعن يقين، لن تغرق ولن يصيبهم أذى. ويعلق الأفغاني: كنت رابحًا في الحالين، فلو نجت السفينة بالفعل، وهذا ما حدث، سأكتسب القداسة، ولو غرقت فلن أرى خلقة أي من الركاب، ولن يستطيع أحد تكذيبي!
ويتذكر المؤلف نكتة رواها شيخه على مسمع الكثير من جلسائه: راح شخص يلوم صديقه ويقرعه لأنه تارك للصلاة، وقال له: صل أربعين يومًا فقط، وانظر إذا كان يمكنك بعدها أن تترك الصلاة. فقال الصديق: وأنت يا أخي، اترك الصلاة أربعين يومًا، ثم انظر اذا كان يمكنك بعدها أن تعود إليها!
ويظهر أن الأفغاني كان لا يكترث بالتابوهات الشكلية التي كان يفرضها الالتزام الديني، ويروي بعض أصدقائه المصريين أنه أثناء إقامته في مصر، زار بصحبتهم "مشربًا" تديره فتاة أوروبية مشهورة بجمالها. لم يتناول مشروبًا ولكنه خاض حديثا طويلًا مع الفتاة، ثم راهن أصحابه على استطاعته دفعها إلى البكاء، وقد نجح، ثم راهنهم على قدرته أن يجعلها تقهقه بالضحك، ونجح أيضًا!
ومع كل إعجاب التلميذ بأستاذه، فهو يجد ما يأخذه عليه: حدة طبعه وسرعة غضبه، متذكرًا معاتبة محمد عبده للأفغاني قائلًا: "وطالما هدمت الحدة ما بنته الفطنة".
توفي الأفغاني في الأستانة، وفيما بعد نقل رفاته إلى بغداد، ثم إلى أفغانستان، "وكانت وفاته بعلة السرطان الناشب في فكه الأسفل. وقد أشار الشيخ ابراهيم اليازجي إلى هذا في رثائه مذ قال: قضى بعلة السرطان، وقد نشبت منه بين الفك والنحر، ودب في مجرى الفصاحة منه، ولا عجب أن يدب السرطان في البحر".