قبل أسابيع، مر خبر استقالة رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، محمد اشتية، بشكلٍ عابر، لم يثر الكثير من الحديث والنقاش. وإلى جانب أعوام من تجريف المجال السياسي من قبل السلطة الفلسطينية، فإن هذه الاستقالة جاءت في وقت الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
والحقيقة، فإن استقالة الحكومة وتبديلها في عهد السلطة لم يكن ليحمل الكثير من النقاش في وقت آخر. لكن المختلف هذه المرة أن هذه الاستقالة جاءت بعد أشهر من حديث أمريكي عن ضرورة تجديد/ تنشيط/ إصلاح السلطة الفلسطينية. وكانت السلطة هي الموضوع الوحيد الذي تستطيع واشنطن إنجازه ضمن تصورها الذي تسعى إلى فرضه ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، فالقتال لم يحسم في غزة، ونتنياهو لا يبدو طرف بايدن المفضل للتعامل معه، لكن لا طريق أمام استبداله حاليًا، رغم الأمنيات التي حملها بايدن في دعمه خطاب زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر. أمّا المقاطعة في رام الله، الطرف الأقل فاعلية في كل ما يجري، كانت مدخل واشنطن الأول.
ظهر ذلك في خطاب استقالة اشتية وحكومته، ومن بين عشرات الخطابات لرئيس وزراء السلطة السابق، فإن كلمته الأخيرة قد تكون الأكثر أهمية، وبعيدًا عن "التحديات" التي سردها اشتية في كلمته، فالجزء المهم كان قوله إن قرار الاستقالة جاء على ضوء المستجدات، ومنها: "السعي لجعل السلطة الفلسطينية، سلطة إدارية أمنية وبلا محتوى سياسي".
المقاربة الأمريكية في كل مرة تطرح الأسئلة نفسها، المعنية في أمن إسرائيل، ولو غلفت بحديث عن حل الصراع ومشاريع ومقترحات للسلام، وحتى مؤخرًا الاعتراف بالدولة الفلسطينية
بعد استقالة اشتية، قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، إن "واشنطن ترحب بالتغيير في السلطة الفلسطينية، وتعتبرها خطوة مهمة لإعادة توحيد غزة والضفة الغربية تحت إدارتها".
وفي كل حال، لم يحصل الحدث على تفاعل أمريكي كبير، باعتباره خطوة محدودة وصغيرة، وربما كان ذلك ضمن "مساومة" من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي تفاعل مع الأفكار الأمريكية عن السلطة المتجددة، كما وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن، وعن التصور لـ"اليوم التالي" للحرب، ولكنّ بشكل محدود وأقل من المطلوب. إذ بحسب "العربي الجديد"، قال مسؤول أمريكي لعباس: "نريد إصلاحًا حقيقيًا، محمد مصطفى يعمل موظفًا لديك".
بالطبع، وسط حرب الإبادة المفروضة على قطاع غزة، فإن أقل ما يشغل الشعب الفلسطيني، تبديل الحكومة، خاصةً بالشكل الذي حصل.
أمّا البيانات اللاحقة عن تكليف مصطفى والرد عليه، فهي لم تكن نتيجة تكليف الحكومة بعينها. إذ من البداية يظهر الافتراق في مواقف الفصائل الفلسطينية وقيادة السلطة وفتح، إذ أفادت المصادر أن "عباس تمسك بوضع بند حكومة التكنوقراط على برنامج اجتماع الفصائل الفلسطينية في موسكو، فيما تمسكت فصائل أخرى في منظمة التحرير الفلسطينية، بأجندتها التي نصت على حكومة وحدة وطنية بمرجعية سياسية واضحة، وهي منظمة التحرير الفلسطينية".
وكانت بذور هذا الاختلاف ظاهرة قبل اجتماع موسكو، إذ قال مصدر لـ"الترا فلسطين" إنه لا يوجد أي تواصل رسمي بين حماس وفتح لبحث أوضاع غزة حتى الآن، "لا بشكل مباشر ولا عن طريق وسيط، وأي تواصلٍ حصل فإنه يحمل طابعًا فرديًا أو هدفًا اجتماعيًا وليس سياسيًا". مشيرًا إلى أن حركة فتح اعتذرت عن حضور لقاءٍ فصائلي كانت حركة حماس قد دعت له مطلع هذا العام في العاصمة اللبنانية بيروت، وحضره قادةٌ كبار من حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، والجبهة الشعبية - القيادة العامة.
وقبل اللقاء في موسكو بحوالي أسبوع، نفى متحدث رسمي باسم حركة حماس، لـ"العربي الجديد" أن يكون قد جرى نقاش تشكيل حكومة "تكنوقراط" فلسطينية خلال المرحلة المقبلة، مشددًا على أن الأولوية في الوقت الحالي هي "وقف العدوان الإسرائيلي على شعبنا". وأوضح مصدر آخر: "[حماس] أكدت لجميع الأطراف التي تحدثت معها أنها من ناحية المبدأ لا تمانع في تشكيل حكومة وحدة وطنية، بل على العكس، تدعم ذلك بكل قوة، شريطة أن يكون لها إطار جامع وفق برنامج محدد يمكن من خلاله مراجعتها خلال الفترة التي ستدير فيها المشهد". مع العلم أن الفصائل الفلسطينية، كلها تقريبًا، تتوافق على هذه البنود، باستثناء قيادة السلطة الفلسطينية، التي تطالب الالتزام في توافقات لم تعد محط التزام من أحد، سواها.
وأجواء الشقاق هذه لم تكن بعيدةً عن دعوة أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لمحاسبة ومساءلة حماس، بعد نهاية الحرب.
على أي حال، انتهى لقاء موسكو مطلع شهر آذار/مارس الجاري، دون بوادر جدية لتوافق حقيقي، خاصةً أن البيان الختامي، حمل ديباجة مكرورة، لم تشِ بأي شكل بكونها تحمل أمرًا مختلفًا عن عشرات اللقاءات السابقة، التي كانت تعقد مرة أو أكثر كل عام.
ليس نقاشًا عن الحكومة
من البداية، وبحسب ما كشف في وسائل الإعلام، فإن عباس كان قد حسم أمره في الحكومة، وأي محادثات حولها كانت عرض مشروع جاهز سيمضي بموافقة أو دونها، فقد رفض "قبول الإصلاحات التي من شأنها أن تقلل من قوته"، لكنه يوافق على تشكيل حكومة جديدة يقودها مصطفى، المقرب منه، أو كما وصفته "نيويورك تايمز" بأنه "لا يشكل تهديدًا لعباس"، أو أنه "شخصية رمادية دون كاريزما، يمكن التنصل من فشله، أو تبني نجاحه". وإذًا فإن النقاش الذي كان يُخاض في السلطة، هو على أرضية "اليوم التالي"، بعيدًا عن أي لقاء لـ"الوحدة الوطنية".
وبحسب التقارير الإعلامية: "على مدى أسابيع، أبدى عباس رغبته في تعيين مصطفى". وفي كانون الثاني/يناير، أرسل مصطفى إلى المؤتمر السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. وعلى نسق تقديم أوراق الاعتماد، قال مصطفى في مناقشة مع رئيس المنتدى بورج بريندي: "لا نريد أن نقدم أي أعذار لأي شخص. يمكن للسلطة الفلسطينية أن تفعل ما هو أفضل فيما يتعلق ببناء مؤسسات أفضل".
وعلى نقيض استقالة اشتية، أثار تكليف مصطفى الكثير من الحديث، فقد جاء على أساس تصور قيادة السلطة الفلسطينية، وطرح سؤال الأولويات من قبل الفصائل الفلسطينية.
وعلى هذا الأساس، قالت حركة حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجهاد الإسلامي والمبادرة الوطنية الفلسطينية: "إنَّ الأولوية الوطنية القصوى الآن هي لمواجهة العدوان الصهيوني الهمجي وحرب الإبادة والتجويع"، مضيفةً: "إنَّ اتخاذ القرارات الفردية، والانشغال بخطوات شكلية وفارغة من المضمون، كتشكيل حكومة جديدة دون توافق وطني؛ هي تعزيزٌ لسياسة التفرّد، وتعميقٌ للانقسام، في لحظة تاريخيّة فارقة، أحوج ما يكون فيها شعبنا وقضيته الوطنية إلى التوافق والوحدة، وتشكيل قيادة وطنية موحّدة، تحضّر لإجراء انتخابات حرَّة ديمقراطية بمشاركة جميع مكوّنات الشعب الفلسطيني".
من جانبها، عبرت الإدارة الأمريكية عن موقفها في بيان للناطقة الرسمية باسم مجلس الأمن القومي أدريان واتسون، قالت فيه: "إننا نرحب اليوم بتعيين محمد مصطفى رئيسًا لوزراء السلطة الفلسطينية، ونحث على تشكيل حكومة إصلاحية في أسرع وقت ممكن. وسوف تتطلع الولايات المتحدة إلى أن تتمكن هذه الحكومة الجديدة من تنفيذ السياسات وتنفيذ إصلاحات ذات مصداقية وبعيدة المدى. إن إصلاح السلطة الفلسطينية أمر ضروري لتحقيق النتائج للشعب الفلسطيني وتهيئة الظروف اللازمة للاستقرار في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة".
ما يقترحه البيان الأمريكي أن خطوة قيادة السلطة كانت أقرب للامتثال للضغوط الأمريكية والأوروبية والإقليمية حول "اليوم التالي"، منها للتطلع الوطني الفلسطيني، والذي يتمثل بشكلٍ عاجل في وقف العدوان على غزة.
وعلى نسق المناظرات الطلابية، وفي البيان الأكثر حدة الصادر عن حركة فتح منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، افتتحت فتح بيانها في الدفاع عن تكليف مصطفى، بالقول: "إن من تسبب في اعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة، وتسبب بوقوع النكبة، لا يحق له تحديد أولويات الشعب وهو المنفصل الحقيقي عن الواقع". وبينما تتحدث عشرات التقارير الصحيفة عن ترتيبات "اليوم التالي" التي تُصنع مع السلطة وتضع عشرات الدول الغربية والإقليمية يدها فيه، جاء في بيان فتح: "هل تريد حماس أن نعين رئيس وزراء من إيران أو أن تعينه طهران لنا"، ويصل حد "تحميل المقاومة مسؤولية ما حدث".
كما استثارت فتح العشرات من شخصيات والمؤسسات للدفاع عن خيار تكليف محمد مصطفى، وامتلأت وكالة الأنباء الرسمية بتصريحات نائب رئيس حركة فتح، والأمين العام لجبهة النضال الشعبي، ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني، ونقيب المحامين، والأمين العام للاتحاد العام للمعلمين، ونقيب الصحفيين، وأمين عام اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، وأمين عام اتحاد نقابات عمال فلسطين، وصولًا إلى العشائر الفلسطينية.
والبيان في عمومه لا يبدو مرتبطًا تحديدًا في انتقاد تكليف مصطفى، بل بيان كتب صبيحة 7 تشرين الأول/أكتوبر، ولم يجد طريقه إلّا في هذه الأيام، ومرةً أخرى لا ينفصل عن "اليوم التالي" للحرب وترتيباته. وللمفارقة، فإن البيان يبتعد عن الجدال الفلسطيني والمناصر لقضيته حول أن "القضية الفلسطينية لم تبدأ يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر"، ومن المشكوك في أن البيان جاء نتيجة حرص وخشية على الدماء الفلسطينية.
اقرأ/ي: مصادر لـ الترا فلسطين تكشف كواليس إدخال مساعدات غذائية إلى شمال غزة
الوحدة الوطنية وافتراق المشاريع
كان الجميع على معرفة يقينية بافتراق المشاريع بين الفصائل الفلسطينية عامة، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح خاصة، لكن ما استدعى نقاش "الوحدة الوطنية" في حرب الإبادة، كان أمرًا مختلفًا، وهو "مصير القضية الفلسطينية"، الذي تعمل إسرائيل على تصفيته، بناءً على حل وحيد لها، وهو الإبادة.
والواقع أن خيار السلطة الفلسطينية الواضح الآن، هو تكرار للتاريخ إذ كانت المرة "الأولى كمأساة" فإن "الثانية كمهزلة"، فالمطروح حاليًا من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية والإقليمية، التي تتحدث عن سلطة متجددة، هو إعادة تجديد لاتفاق أوسلو، على نسق ما حصل في نهاية الانتفاضة الثانية، من خلال "ضخ شخصيات جديدة" في بنية السلطة الفلسطينية، واستبدال أخرى. ومحصلة ما سبق، كانت تقليل النقاش السياسي، وزيادة المحادثات الأمنية.
والمقاربة الأمريكية في كل مرة تطرح الأسئلة نفسها، المعنية بأمن إسرائيل، ولو غلّفت بحديث عن حل الصراع ومشاريع ومقترحات للسلام، وحتى مؤخرًا الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ومرةً أخرى، تقدم قيادة السلطة الفلسطينية، بكل عبثية، الأجوبة المشتهاة والمطلوبة.
تتجه السلطة الفلسطينية نحو حكومة، قد تكون جوابًا على السؤال الأمريكي، ولو بشكلٍ جزئي، سيكون غالبًا مصيرها الفشل أمام الواقع الحالي، بعيدًا عن رسالة قبول التكليف من محمد مصطفى. ومع ذلك، تستميت قيادة السلطة وفتح في الدفاع عن هذه الحكومة.
ما سبق، يخبرنا ما نعرفه عن أفق لمشروع سياسي لا يمكن إصلاحه فلسطينيًا ولو كان ذلك ممكنًا أمريكيًا، وعن حدود العمل السياسي، تحت الاحتلال أو بشرطه على وجه الدقة.
كل هذا التوافق الغربي والأمريكي يأتي خشية من الحدث الذي وصفه بايدن نفسه بأنه "سيغير العالم". لكن فلسطينيًا، فإن الانسياق خلف هذه التصورات، يعني سنوات قادمة، في متاهة أمريكية وإسرائيلية، سياسة أقل وأمن أكثر، لإسرائيل.
لنتذكر، كل هذا يحصل في لحظة الإبادة الجماعية المستمرة.