أول مرّة أزور معرض فرانكفورت. قرأت عنه كثيرًا في الماضي حتى صار من ضمن أمنياتي. الوقت في المعرض يمر بسرعة. وجوه جميلة وكتب جميلة حتى وإن كنت لا تقرأ لغتها، لكن تلمسها وتأملها يكفيان لبلوغ حالة الرضا. لا يوجد كتب عربية، وبعض المؤسسات ودور النشر الخليجية القليلة المشاركة، مشاركتها رمزية ليس إلا.
في معرض فرانكفورت للكتاب، جناح الأرجنتين تزينه صور بورخيس ونبذة عن حياته
الندوات بعضها لا تلاقي إقبالًا، وبعضها مكتظ جدًا، يمكنك أن تقرأ، أن تشرب قهوة أو بيرة في كوب بلاستيك، وأن تأخذ غفوة قصيرة على كراسي معدة لذلك.. رغم الاكتظاظ من الزوار إلا أن الصمت هو سيد الموقف، حتى تصفح أوراق الكتب لا تسمعها، كل شيء في المعرض تم إعداده بحرفية، وأيضًا المشتريات من قبل الناس قليلة جدًا، لا تجد من يحمل على ظهره حقيبة أو كيسًا مليئًا بالكتب، ربما يكونون يشترون ودور النشر ترسل الكتب إلى عناوينهم، أو أنهم يشترون الكتب طيلة العام مثل شراء المستلزمات الغذائية، فيأتون إلى المعرض في حالة ارتواء، لا أدري!
اقرأ/ي أيضًا: في إسطنبول.. معرض للكتاب العربي
الناس تأتي إلى المعرض لتحتفل وليس لتشتري، أو فلنقل لتقرأ الحياة بشكل طبيعي، كثير من الناس تلبس الأزياء الكرنفالية التنكرية، تحس أن هذه الأشكال هي شخصيات في الكتب المعروضة وخرجت من الورق والحروف والأقراص الإلكترونية لتعيش واقعيًا، هنا ترى اشتباكًا بين متنكرين، وهناك تجسيد لمشهد عرس أو فراق، كل من تستأذنه في التقاط صورة يرحب بذلك، هناك مصورون محترفون يطلبون من المتنكر أخذ وضعية بعينها، دخول المعرض يجب أن يكون بتذكرة، بالنسبة للصحفيين يمنحونهم تذاكر مجانية يرسلونها لك على الإيميل بعد أن ترسل لهم بطاقة الصحافة، أو أية مادة منشورة لك بإحدى اللغات الحيّة، أو تكليفًا من جريدة أو مجلة لمتابعة أنشطة المعرض مع صورة الهوية أو الجواز.
كل الأجنحة تحتفي بمثقفيها. جناح الأرجنتين تزينه صور بورخيس ونبذة عن حياته، والحال نفسه مع بقية الأجنحة، لا يمكنك أن تحيط بكل المعرض، فكلما زرت جناحًا لا يتركك تغادره، وبحيل ماكرة يستبقيك لتلفه من جديد، لا أحد يقلق من تصفح الكتب حتى وإن لم ترغب في الشراء. ابتسامات المشرفين والمشرفات على الأجنحة تنافس ابتسامات الكتب، التي تحسها أنها ترحب بك وتعتز بزيارتك وقدومك إليها.
رغم أن الجو بارد إلا أن ملمس الورق دافئ، يقول لك الكتاب خذني معك، وتعده أن تأخذه معك المرّة القادمة، قد يهمس لك أن اقرأني إلكترونيًا على الأقل، فتحضنه أكثر ثم تعيده إلى الرف، وقد تذرف بعض الدموع ، فلا ترى أحدًا قد استغرب.
في فرانكفورت، رغم أن الجو بارد إلا أن ملمس الورق دافئ، يقول لك الكتاب خذني معك
اقرأ/ي أيضًا: موسم الكتاب في المغرب
جولة طويلة ودردشات بلغتي المختلطة الكوكتيل التي تعلمتها في أزقة وشوارع المجتمع السفلي، الكتب تفهمني، ومن كتبها يفهمني، فلا يهمني هنا من يبيعها أو يشتريها أو يعبث بها بالحرق أو التغليف أو مسح القذارة.. قال لي الكتاب لقد ظلمت في أكثر من مكان في العالم.. لا تقلق.. ليس في ليبيا والصين وغيرهما.. حتى هنا في ألمانيا، وهذا هو قدرنا، نحن نحرق الجهل فيحرقنا الجهلة، نحرق الجهل لنضيء وهم يحرقوننا ليظلموا أكثر من الظلام.
عموما الجو تمام، وقبل أن أخرج من المعرض صافحت الكتب كتابًا كتابًا، وحاولت أن أنهب كتابين أو ثلاثة، لكنني خفت من ضميري الورقي أن يحرقني طوال الليل، وخفت من البوابات الإلكترونية التي ترن، لكن كتابًا ضالًا أهبل مجرمًا غمزني، قال لي غلافي غير ملصوق جيدًا، كلماتي لم تحبه، الفنان الذي صممه رديء جدًا.. بكت الكلمات حتى تبلل الصمغ.. يمكنك أخذي بدون غلاف، وصدقني لن ترن عليك أي بوابة في المعرض.. قلت له تعال يا حبيبي.. الكتاب الذي لا أعرف ما عنوانه، فالعنوان بقي على الغلاف، لكن فيه نصوص قصيرة، ربما لنيتشه، أو غوته، أو بريخت، أو توماس مان، الآن بدأت أترجم بعض كلماته بواسطة النت، وفعلًا بدأت الورود تتفتح والعالم يتسع، والشمس تشرق، ورغباتي الأخرى جميعًا تتأجج.. ها أنا أصرخ، والجحيم يدق على الباب.
اقرأ/ي أيضًا: