يتفق المؤرخون على أن الرحلة كانت من أهم عوامل الترابط والتواصل بين أنحاء العالم الإسلامي في عصور القوة، كما كانت من أهم خصائص المجتمع العربي الإسلامي في عصور الازدهار الحضاري، وساعد على الرحلات اتساع رقعة الدولة العربية بعد الفتوحات، وانطلاق المسلمين إلى مراكز العلم المختلفة.
انطلقت الرحلات لأجل التجارة مثل سليمان السيرافي، أو لأداء فريضة الحج في مكة مثل ناصر خسرو، أو حتى للتجسّس كما فعل ابن حوقل، أو طلبًا للاستطلاع وحبًا في المعرفة كحال المقدسي البشاري، أو للقيام بمهمة كأن يكون الرحالة سفيرًا للخليفة أو السلطان مثل ابن فضلان.
والثابت في كلاسيكيات الرحلات العربية أن معظم الرحالة كانوا يحرصون على تدوين مشاهداتهم، وتسجيل أخبار رحلاتهم وأسفارهم، والطرق التي سلكوها، والمسافات التي قطعوها، فيصفون المدن التي نزلوا فيها، ويذكرون الصعوبات التي واجهتهم، ويسهبون في الحديث عما عاينوه من مظاهر الحضارة في كل بلد.
يشير المؤرخ نقولا زيادة في كتابه "الجغرافية والرحلات عند العرب" إلى أنّ "رحلة المغاربة إلى المشرق كانت، على وجه العموم، أكثر من رحلة المشارقة إلى المغرب. فمركز الحج في الشرق، ومدن العلم الأولى فيه، فكان من الطبيعي أن يزور المغاربة الشرق أكثر من زيارة المغاربة المشارقة لبلادهم".
يتوقف "ركن الوراقين" عند ثلاث رحلات كتبها كلّ من: ابن جبير، وابن بطوطة، وابن فضلان.
1. تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار
ولد أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني، المعروف بابن جبير الأندلسي في بلنسية 1145 ميلادي. تلقى تعليمه على شيوخ عصره في شاطبة وغرناطة وسبتة.
قام ابن جبير الأندلسي بثلاث رحلات إلى المشرق، حين عاد من الأولى إلى الأندلس ليدوّن رحلته وصلته أخبار فتح صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس، فرحل مرى أخرى إلى المشرق، وحين عاد منها قرّر الاستقرار والزواج في سبتة، إلا أنه بعد وفاة زوجته رحل مرة ثالثة إلى المشرق ونزل في الإسكندرية التي ظل فيها حتى وفاته.
كتابه "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار"، المعروف اختصارًا بـ "رحلة ابن جبير"، أشبه بمذكرات يومية سجل فيها ملاحظاته ومشاهداته لما مر به في رحلة الإسكندرية والقاهرة والفسطاط وقرص وعيذاب ومكة والمدينة والكوفة وبغداد والموصل وعكا وصقلية.
اهتم ابن جبير الأندلسي في كتابه بوصف المساجد والأضرحة والآثار، كما عني بالمظاهر الاجتماعية والاقتصادية في البلاد التي زارها. ووصفه للآثار يدل على دقة الملاحظة، وملاحظاته على الجانبين الاقتصادي والاجتماعي من أهم الوثائق التي تصور الحياة في الشرق الأدنى من العالم الإسلامي في عصره.
2. تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار
ولد محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي، المعروف باسم ابن بطوطة، عام 1304 في مدينة طنجة. نشأ في بيئة علمية، فقد كانت أفراد عائلته ممن أتيح لهم تولي مناصب سياسية ودينية.
يعد أعظم الرحالة في الثقافة العربية نظرًا لتطوافه في آفاق الأرض، وعنايته بسرد أدق تفاصيل الرحلة التي قام بها خلال ما يقارب الثلاثين عامًا، كما وصفها في كتابه "تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، المعروف برحلة ابن بطوطة.
يقول نقولا زيادة في "الجغرافية والرحلات عند العرب": "الرجل الذي يقضي ثماني وعشرين سنة من حياته ينتقل في أجزاء العالم المعروف، فتحمله أسفاره من طنجة إلى مصر، عبر شمال أفريقيا، ثم إلى الشام، وبعد أن يؤدي فريضة الحج يزور إيران وبلاد العرب وشرق أفريقيا، ويدخل القرم وحوض الفولغا الأدنى ويعرّض على القسطنطينية، بعد هذا كله يمعن في الرحلة شرقًا إلى خوارزم وبخارى وكردستان وأفغانستان والهند والصين وجزر الهند الشرقية وجزر الملديف، وبعد أن يعود إلى بلده يعادوه الحنين إلى السفر فيزور الأندلس والسودان، ويقطع في أسفاره ما لا يقل عن 120,000 من الكيلومترات؛ إن رجلًا هذا شأنه يعتبر بحق شيخ الرحالين العرب، وسيد الرحالين إطلاقًا في عصره، أي في القرن الثامن (الرابع عشر الميلادي)".
3. رحلة ابن فضلان
لم يكن أحمد فضلان، مولى القائد العباسي محمد بن سلمان، رحالة بل رجل فقه ودين، وكانت رحلته بتكليف من الخليفة العباسي المقتدر، تلبية لطلب ملك البلغار إرسال وفد من الوعاظ لنشر الدين الإسلامي في تلك المناطق، التي تشمل بلاد الصقالبة، وهي بلغاريا وروسيا وما يجاورهما اليوم.
لا توجد معلومات كافية عن حياة ابن فضلان في كتب التاريخ، رغم أن الكثير من مؤلفي كتب المسالك نقلوا عنه.
يقول سامي الدهان، محقق الرحلة، في مقدمته لها: "تصف بلاد الروس والبلغار والأتراك في القرن العاشر للميلاد وصفًا لا يكاد يقع إلا في هذا المصدر، والروس أنفسهم عادوا إليه وقرؤه ودرسوه ونشروا منه وترجموه منذ مئة عام"
كان نص الرحلة تقريرًا كتبه ابن فضلان، لهذا تضمن معلومات جغرافية وأنثروبولوجية واقتصادية، لكل ما رآه أنه يمثل أهمية للإدارة العباسية المركزية، كما يزخر بمعلومات كثيرة عن عادات الشعوب وقبائلهم ولغاتهم.
اعتمد الروائي الأمريكي مايكل كريتشتون على هذه الرحلة في روايته "أكلة الموتى"، التي تحولت إلى فيلم "المحارب الثالث عشر"، ولعب الممثل الإسباني أنطونيو بانديراس دور بن فضلان.
اقرأ/ي أيضًا: