يقول جميل صليبا في كتابه "تاريخ الفلسفة العربية": "لا شكَّ أنّ الفلسفة العربية فلسفةٌ عقليةٌ كالفلسفة اليونانيّة، لأنَّ معظم فلاسفة العرب يعتقدون أنَّ العقل قادرٌ على إدراك الحقيقة، وأنَّ النَّفس الإنسانية التي تجرّد ماهيّات الموجودات من اللواحق الحسية والصور المتخيلة، تستطيع في نظرهم أن تقلب هذه الصور إلى معقولات كليّة باسم عقلٍ مفارقٍ يطلقون عليه اسم العقل الفعّال".
تأثّرت الفلسفة العربية الإسلامية بفلسفة الإغريق، ونسج الفلاسفة على منوال أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. في هذه السلسلة من المقالات، سوف نتناول الكنديّ والفارابي وابن سينا وابن رشد، والغزالي وابن خلدون، حيث نخصّص حلقة خاصّة لكلّ منهم، نقف فيها على حياته وأفكاره وأعماله، ملاحقين مرحلة الإنتاج الفلسفيّ التي بدأت في القرن التاسع للميلاد، التي تلت حقبة طويلة تميّزت بالنّقل.
نفتح هذه المقالات المتسلسلة بالكنديّ.
الكنديّ أوّل المشّائين العرب
يقول إميل برهيه في "تاريخ الفلسفة" عن الكندي: "كان رياضيًّا شغوفًا أشدّ الشغف بالمعرفة الطبيعية، وكان يقول إنَّ من طلب معرفة البراهين المنطقية فعليه أنْ يطيل المكوث عند البراهين الهندسية، ولا سيما أنّها أسهل فهمًا، لأنها تعتمد على أمثلة حسية".
ولد أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكنديّ في الكوفة، مطلع القرن التاسع الميلادي، وهو من قبيلة كندة المشهورة، لُقّب بفيلسوف العرب. عاش في زمن المأمون والمعتصم، وقد شُغل بترجمة كتب اليونان إلى العربية، كما هذّب الكتاب المنحول "أوتولوجيا أرسطو"، المعروف بـ"كتاب الربوبية"، الذي نقله إلى العربية بناء على طلبه عبد المسيح الحمصي.
أما جورج طرابيشي فيعرّف به في "معجم الفلاسفة": "مدار فلسفة الكندي الرياضيات والفلسفة الطبيعية، وعنده أنَّ الإنسان لا يكون فيلسوفًا حتّى يدرس الرياضيات، ومذهبه عقلي، غذ رهن وجود المادة بتصورها في العقل. والعقل عنده أربعة أقسام: أولها هو العقل الذي هو بالفعل دائمًا، وهو الله أو العقل الأول، والذي هو علّة كل معقول في الوجود، والذي يهبّ الأشياء ماهياتها أو صورها. وثانيها هو العقل الذي في نفس الإنسان بالقوة. وثالثها العقل بالملكة، وهو الذي يكون في نفس الإنسان بالفعل، ويستطيع استعماله متى أراد كقدرة الكاتب على الكتابة، ورابعها العقل البرهاني، وهو فعل تُبين به النفس عمّا هو فيها بالفعل، وذلك هو الإنسان ذاته، خلافًا لخروج العقل من القوة إلى الفعل لأنه من فعل الله".
للمعرفة عند الكنديّ طريقان، أحدهما طريق العقل، والآخر طريق الوحي، وهذان الطريقان يوصلان إلى حقيقة واحدة. كان الكنديّ وثيق الصلة بالمعتزلة لكنه لم يكن من المتكلمين، وكان عارم الشعور بالتوافق الجوهري بين البحث الفلسفي والوحي النبويّ، كما يقول طرابيشي.
يرى جميل صليبا أنّ فلسفة كلٍّ من الفارابي وابن سينا متعلّقة بآراء الكندي، لكنّ شهرتهما غطّت عليه، يقول: "ردَّد الشّراح اسمي الفارابي وابن سينا في كثير من كتبهم، وأهملوا اسم الكندي، حتى أنَّ الغزالي لما ذكر الفلاسفة ذكر لم يذكر منهم إلّا أبا نصر وابن سينا، زاعمًا أنّه لم يقم بنقل علوم أرسطو أحد من الإسلاميين كقيام هذين الرجلين وكما أنّ ابن طفيل لم يجد حاجة إلى نقد فلسفة الكنديّ في مقدّمة كتابه حي بن يقظان فكذلك القاضي صاعد لم يذكره في كتاب طبقات الأمم إلّا ليتهمه بالتقصير في صناعة التحليل. ومع ذلك فنحن نعتقد أنّ الكندي واضع حجر الأساس في صرح الفلسفة العربية".
بحسب ابن نديم صاحب كتاب "الفهرست"، فقد كتب الكندي على الأقل مئتين وستين كتابًا، اثنان وثلاثون منها في الهندسة، واثنان وعشرون في كل من الفلسفة والطب، وتسعة كتب في المنطق، واثنا عشر كتابًا في الفيزياء. ومن كتبه الفلسفية: "الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد"، و"كتاب الحث على تعلم الفلسفة"، "رسالة في ألا تنال الفلسفة إلا بعلم الرياضيات".
اقرأ/ي أيضًا: