افتتح المفضَّلُ الضبيُّ فكرة المختارات الشعريّة بكتابه المعروف بـ"المفضَّليّات"، لتظهر من بعده كتب الاختيار كـ"الأصمعيات" و"جمهرة اشعار العرب". ثم يأتي أبو تمام ويضع "ديوان الحماسة"، وينقل فكرة الاختيار من الجمع حسب الذوق الشخصي إلى التبويب والتنظيم حسب المعاني.
قال ابن عبد ربه الأندلسي: "إن اختيار الكلام أصعبُ من تأليفه"، وذهب أبو هلال العسكري إلى القول أنّ "اختيار الرجل قطعة من عقله". وبهذا تكون هذه العملية ذات طابع نقدي أدى دورين متكاملين، كان هدف الأول منهما هو الجمع والتوثيق والحفظ، بينما ركز الثاني على القيم الفنية والجمالية.
هذه إطلالة على بعض ملامح هذه العملية المبكرة في الثقافة العربية، نأخذها على صعيد الشعر، على أن لها ما يشابهها في النثر ككتاب "الأمالي".
1. المفضليات
"المفضليّات" هي أول مختارات شعرية عربية منسوبة إلى المفضّل الضبي، الذي كان راويةً للأخبار والآداب وأيام العرب. ضمت 130 قصيدة، من شعر الجاهليين وبعض المخضرمين، وعددهم 66 شاعرًا، وعدد أبياتهم 2727 بيتًا.
يشير المحققان أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون أن "المفضليات" المعروفة لا تمثّل كل ما اختاره المفضّل، بل هي قليل القليل منه.
خالفت "المفضليات" طريقة "المعلقات" في اختيار قصيدة واحدة لشاعر معيّن، فقد كانت هناك لبعض الشعراء قصيدتان، أو أكثر.
يُفتتح الديوان بقصيدة تأبط شرًّا التي يقول فيها:
يا عِيدُ مالَكَ من شَوْقٍ وإِيراقِ
ومَرِّ طَيْفٍ علَى الأَهوالِ طَرَّاقِ
يَسْرِي علَى الأَيْنِ والحيَّاتِ مُحْتَفِيًا
نفسي فِداؤُكَ مِن سارٍ علَى ساقِ
2. الأصمعيات
حملت "الأصمعيات" اسم صاحبها الأصمعيّ، عبد الله بن قريب بن عبد الملك بن أصمع.
هي جملة قصائد لشعراء لجاهليين وإسلاميين ومخضرمين ومعاصرين له، وتضم 92 قصيدة، مجموع شعرائها 70 شاعرًا، وعدد أبياتها 1439 بيتًا. شعراء "الأصمعيات" جاهليون ومخضرمون وإسلاميون.
من المعروف أن هناك تداخلًا بين "المفضَّليات" و"الأصمعيات"، وهو أمر أشبع دراسة. صدرت في طبعتين، الأولي سنة 1902 في مدينة لايبزغ الألمانية، بإشراف المستشرق وليم آلورد (اسمه الألماني فيلهم ألْفَرت)، والثانية مأخوذة عن النسخة الشنقيطية (نسبة إلى العلاّمة الشنقيطي) حقّقها أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، وفي مقدمتها إشارات إلى أخطاء طبعة المستشرق الألماني.
يبدأ الكتاب بقصيدة الشاعر المخضرم سحيم بن وثيل الرياحي التي يقول فيها:
أنـا ابـن جـلا وطـلاّع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
ومـاذا يدرك الشعراء مني
وقـد جــاوزتُ حدّ الأربعينِ
3. جمهرة أشعار العرب
"جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي سجلٌ حافل من تراث العرب وحياتهم وأيامهم. تقول مقدمة الكتاب في تعريفه: "مجموعة سباعيّة تشتمل على سبعة أقسام، أولها المعلقات السبع، وتحمل الأقسام الباقية عناوين مختارة هي: المجمهرات، والمنتقيات، والمذهبات، والمراثي والمشوبات والملحمات". عدد شعرائها 49 شاعرًا، وعدد أبياتها 2681 بيتًا.
قدم أبو زيد القرشي لكتابه بفصول تناول فيها موضوعات لها شأنها في النقد القديم، مثل الكلام على لغة الشعر ومقابلتها بلغة القرآن، والحديث عن أوائل الشعر وأول من قاله، فأثبت شعرًا زعم أنه من شعر الملائكة وآدم وإبليس والعمالقة وعاد وثمود، وتطرق إلى آراء النبي والراشدين في الشعر والشعراء.
4. الحماسات
تلقف أبو تمام الطائي هذا النوع من التأليف، لكنه أضاف إليه التبويب حسب المعاني، وحين جمع كتابه الحماسة، قسمه إلى: الحماسة، والمراثي، والأدب، والنسيب، والهجاء، والأضياف، والمدح، والصفات، والملح، ومذمة النساء. عرف الكتاب باسم "ديوان الحماسة" لأنها كانت الباب الأول فيه.
قصر أبو تمام اختياراته على شعراء الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي، لكنه أورد بعض المقطوعات لشعراء عباسيين مثل بشار بن برد ودعبل الخزاعي، وحماد عجرد.
وقد تقبل أهل الأدب حماسة أب تمام تقبلا حسنا، فاهتموا بقراءتها وتدريسها، وشرحها وتفسيرها.
أعجب الأدباء بفكرة الكتاب، فظهرت أعمال كثيرة تسير على نهجه وتحمل اسمه، كماسة البحتري، وحماسة الخالديين للأخوين أبي عثمان سعيد وأبي بكر محمد، وحماسة ابن الشجري، والحماسة المغربية ليوسف بن محمد البياسي، والحماسة البصرية لصدر الدين بن الفرج البصري، وحماسة الظرفاء للزوزني.
اقرأ/ي أيضًا: