يقول إرنست همنغواي: "لا يوجد أبسط من فعل الكتابة، كل ما عليك فعله هو الجلوس أمام الآلة الكاتبة والنزيف".
يتردد صدى هذه الكلمات في صفحات رواية "أقفاص فارغة" (الكتب خان، 2021) للكاتبة والشاعرة المصرية فاطمة قنديل التي مزجت فيها، ببراعة، بين السيرة الذاتية والخيال لتصحبنا في رحلة حميمية إلى أعماق ذاكرتها وروحها، حيث يتعارض ثقل التاريخ الشخصي والروابط العائلية مع السعي لتحقيق السلام الداخلي.
كل العائلات السعيدة تتشابه
تحكي قنديل في روايتها قصة حياتها منذ نشأتها في مدينة السويس التي ولدت فيها عام 1958، إلى اليوم الذي قررت فيه مغادرة البيت الذي قضت فيه أغلب سنوات عمرها، وإغلاق الباب في وجه الماضي إيذانًا ببدء فصل جديد من الحياة بعد وفاة والديها، وانقطاع العلاقة بينها وبين أخويها.
تبدو الرواية، في جوهرها، محاولة لاستكشاف الديناميكيات المعقدة للروابط العائلية. وفي مسعاها لاستكشافها، تتنقل الكاتبة المصرية، بتوازن دقيق، بين الحب والخسارة، والتواصل والقطيعة. وكما قال تولستوي في روايته "آنا كارنينا": "كل العائلات السعيدة تتشابه لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة".
تُحاول الرواية استكشاف الديناميكيات المعقدة للروابط العائلية ومدى تأثير التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على ترابطها
وقد جسّدت قنديل هذه المقولة في روايتها عبر تصويرها للرحلة المضطربة لعائلتها في مواجهة تجارب الحياة ومحنها. ومن خلال ذاكرتها المثقلة بالمشاهد والصور، نشهد على مد وجزر العلاقات الأسرية، بدءًا من ارتباط الأخين راجي ورمزي وكأنهما توأم، إلى انقطاعهما عن بعضهما لأكثر من ثلاثين عامًا عادا بعدها كغريبين، وصولًا إلى الحضور الغامض للأب الحنون والقاسي في الوقت ذاته، مع الحضور الثابت للأم التي لا يعرف حبها حدودًا.
المؤلم أن تفكك الأسرة يظهر بشكل صارخ منذ البداية مُمَّثلًا في طاولة طعام صغيرة تتنقّل بين أفرادها الذين لا يرغبون بالجلوس إلى طاولة طعام واحدة. واللافت أن راجي، الذي كان يضيق بهذا الأمر، قابله فيما بعد، وتفكك أسرته عمومًا، بالانقطاع التام عنها.
في المقابل، نتابع عبر سرد قنديل رحلة تحوّل رمزي من أخٍ حنون إلى آخر شديد القسوة يحضر بغيابه بعد زواجه وهجرته إلى الخليج.
وبين هذا وذاك، تبرز فاطمة التي تواجه كل ذلك، وتشهد على أحلام والدها المحطمة في دخول كلية الهندسة وانحداره إلى إدمان الكحول الذي سيقتله، لتتولى دور الأم بعد وفاته ومرض والدتها، بالإضافة إلى تجاربها الخاصة والقاسية في الحب والزواج والتعليم التي لا تنفصل عن تاريخ عائلتها المليء بخيبات الأمل والأحلام المجهضة.
وعلى الرغم من أن الرواية لا تُقدم نفسها كتعليق اجتماعي وسياسي على فترة معينة، إلا أنه لا يمكن إغفال الجانب الاقتصادي والثقافي والسياسي الذي يلوح في الأفق، ويُلقي بظلاله على مصير تلك الأسرة البسيطة، إذ تتشابك الاضطرابات والصراعات العائلية القاسية مع النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع المصري، مُلتقطة آمال ونضالات جيل يحاول إثبات وجوده وأحقيته في الحياة.
نزيف الكتابة
تقول فاطمة قنديل: "كل ما كتبته على هذه الأوراق كان مؤلمًا، لكنني كنت أتعافى منه في اليوم التالي، أشعر أنني تحررت من ذاكرة، وأحاول أن أتذكرها مرة أخرى، فتتلاشى، كأنها تبخرت فور أن تكتبها".
لذلك فإنها تتعامل مع الكتابة باعتبارها عملية تطهير تواجه من خلالها أشباح ماضيها وتتحدّى ذاكرتها. كما تعكس البنية السردية للرواية، الشبيهة بمقتطفات من الشعر، الطبيعة العابرة للذاكرة نفسها التي تقفز من ضحك الطفولة إلى تمرد الشباب، ومن النعيم الزوجي إلى القطيعة العائلية، كأنها لوحة من اللحظات المُجزأة التي تنتظر إعادة ترتيبها وفهمها.
تصف الكاتبة لغتها بأنها لغة "عارية" من المجازات، إذ يخلو سردها من الاستعارات والتشبيهات، ويقدم الحقيقة كما هي عارية وفي أبشع صورها، ما جعل من تجربة القراءة أكثر قسوة وألمًا، وإن لم تخلُ من جمال ورقة ترجع إلى أسلوب الكاتبة.
تقف رواية "أقفاص فارغة" كشهادة على دور الأدب والفن في الكشف عن أحلك أركان أرواحنا ورؤية الضوء في ثناياها. قد تنزف كلمات فاطمة قنديل على الصفحة، لكنها في الوقت ذاته تقدم مساحة من الأمل وسط الظلام، وتُذكِّرُنا بأنه حتى في أكثر لحظاتنا ضعفًا، فإننا نمتلك القوة على تفريغ أرواحنا المُثقلة عبر السرد، سرد رواياتنا الخاصة.
ويُذكر أن رواية "أقفاص فارغة" حصلت على "جائزة نجيب محفوظ للأدب" لعام 2022. وتُعد الرواية شهادة على براعة الكاتبة الأدبية، كما تمثّل بداية موقفة في عالم الرواية بعد تجربة مميزة في كتابة الشعر.
