يقول الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني إن الرهان الكبير لثورات الربيع العربي لم يعد الهوية بل صار الكرامة؛ وبغض النظر إن كان مفهوم الحراك الشعبي الجزائري الذي انطلقت شرارته في 22 شباط/فبراير 2019 يندرج ضمن مقولات الثورة، فإنه في جميع الأحوال قد بدأ في شكل غضب شعبي عارم ضد نظام أوصل الشعب إلى الإحساس المرير بأن كرامته أصبحت مهددة؛ لم ترفع في البدايات أي شعارات ذات طبيعة هوياتية، بل ارتفع صوت تاريخي واحد، يندد بالفساد، ويدعو إلى التغيير.
والملفت في حراك 2019 أنه اجتاح الفضاء العمومي، وحول الساحات والشوارع والطرقات إلى ميدان للتعبير عن الغضب وعن الرغبات المؤجلة في التأسيس لدولة المواطنة الحقيقية ودولة العدالة والحريات، واستعادة الكرامة المهدورة، فسقطت الحواجز بين الطبقات الاجتماعية، وامتزجت الأصوات في ايقاع واحد، لكن أيضًا أبانت عن شحوب الخطاب النخبوي الذي ظل على هامش الحياة الاجتماعية، أخلى الساحة لميليشيات الفساد التي طالت كل مؤسسات المجتمع، بما في ذلك قطاعات حيوية مثل الثقافة والجامعة.
الملفت في حراك 2019 أنه اجتاح الفضاء العمومي، وحول الساحات والشوارع والطرقات إلى ميدان للتعبير عن الغضب وعن الرغبات المؤجلة في التأسيس لدولة المواطنة الحقيقية ودولة العدالة والحريات
لقد حرر هذا الحراك الكبت الجمعي الذي دام لسنوات، وكان الأدب والإبداع الفني بشكل عام ضمن أدوات التعبير عن اللحظة التاريخية، على الرغم من أن الكتابة عن الحراك، في الوقت الذي ما زال يتشكل ويتبلور من شأنه أن يورطها في مزالق التسرع أو قد يضعها ضمن الخطابات التي تريد احتكار شرف السبق في الكتابة عنه. لكننا لا نخفي أن الكثير من الأعمال الأدبية والفنية قد أنتجت في خضم هذا الحراك، ملتصقة به، لتفتح المجال للمقارنة بين بلاغة الشارع الغاضب وبلاغة الخطابات التي حاولت تمثل اللحظة التاريخية التي فاجأت الجميع.
إن السؤال الذي نطرحه: ما هو الشكل الأدبي والفني الذي يكون مناسبًا للتعبير عن هذا الحراك الشعبي؟ ألا تستدعي ثورة الواقع نوعًا آخر من الثورة وهي الثورة على أساليب الكتابة والتعبير الفني؟ لا يمكن الاجابة عن هاذين السؤالين إلا باستقراء ما أنتج من أعمال أثناء الحراك وبعده.
قد يكون من المحرج اليوم، أن نقرأ بعض ما صدر من أعمال أدبية عن الحراك، فنكتشف حجم الأوهام التي ساهمت هذه الأعمال في زرعها، لأنها لم تمنح لنفسها الوقت الكافي لتأمل الحراك في جميع أبعاده. قد يقول قائل إن وظيفة الأدب على نحو خاص هو استشراف المستقبل، فهذا صحيح إلى حد ما، لكن ليس كل عمل أدبي يحمل وعدًا بالمستقبل، أو فهمًا عميقًا للتاريخ، وليس كل كاتب هو صاحب رؤية قادرة على اختراق ستارة المستقبل المجهول.
من كان يدري أن الحراك سيدخل في حسابات هوياتية وجهوية، وأنه سينحرف عن خطاب الكرامة، ويتحول إلى عملية واسعة لاصطياد الساحرات والبحث مجددًا عن التموقع. وفي هذا السياق تشتت الخطابات، وتاهت الرؤى، وحدث أن بدأت أطراف تحيي النعرات القديمة، لتشتد الحرب في المواقع، حرب الأحكام والتراشق بالتهم، وتوزيع صكوك البطولات، والتهم الجاهزة.
هل كانت النصوص التي كتبت أثناء الحراك قد استشعرت بهذه الانزلاقات الخطيرة؟
نظريًا، ينخرط هذا النوع من الكتابة الأدبية في مرافقة أحلام الحشود، وزيادة مفعول الحلم في أننا أخيرًا مقبلون على تغيير تاريخي، سيضعنا في واجهة التاريخ المعاصر، بعد أن كان الخوف يأكل ما تبقى من آمالنا. لكن ما لا يمكن تجنبه، هو أن الكتابة عن واقعة تاريخية في حجم انتفاضة ضد نظام سياسي قد يورطها في الدفاع عن رؤية سياسية، أو دينية، خاصة وأن الحراك قد طور فيما بعد خطابًا ايديولوجيًا بين من يدعو إلى شكل معين للدولة الجديدة؛ علمانية، دينية، عسكرية، مدنية... إلخ، دون أن ننسى كيف انتهت ثورات الربيع العربي إلى تفجير المكبوت الديني حينًا، ومارد العنف حينًا آخر، وعودة الشمولية من النافذة بعد أن خرجت من الباب.
وفي خضم الجدل الذي انتقل إلى المواقع، بعد أن هجرت الحشود الشوارع ولم تعد وفية لطقوس التجمهر الأسبوعي، تاهت الأسئلة الحقيقية، وتجنب الجميع الحديث عن المقاصد الحقيقية للحراك وهي الكرامة، وقد صدق فتحي المسكيني لما قال أن هذه الشعوب تثور من أجل حريتها، لكنها لم تجد ما تفعل بها!
الرواية ومزالق الكتابة عن الحراك الشعبي
لم يستو النقاش الأدبي في الجزائر إلى حد اليوم حول مفهوم الأدب الاستعجالي، الذي التصق بما كتبه الروائيون الجزائريون إبان مرحلة الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي؛ وقد وصفت هذه الأعمال بالاستعجالية لأنها تزامنت كتابتها مع الأحداث الدموية التي لم يكن أحد قادر على معرفة إلى ما سيؤول إليه المستقبل، فكانت الكتابة في تلك المرحلة رصدًا تقريريًا لأهوال الاغتيالات، وبوحًا نفسيًا موجعًا... إلخ، فلم تمنح أجواء الرعب والخوف وانتظار الموت والتحديق في الظلام الدامس الروائيين الوقت للتأمل والتدبر في أحوال المرحلة، فكانت الكتابة حاجة مستعجلة لمقارعة سنوات الموت والجنون.
المعروف عن أمين الزاوي أنه من الروائيين القليلين الذين اختاروا الكتابة داخل الأقاليم الصعبة والمسكوت عنها، حتى أن رواياته تشكل مشروعًا سرديًا كبيرًا يضبطها ايقاع الكتابة في الممنوع والمهمش
يعود مجددًا هذا المصطلح، والسبب أن الحراك الشعبي أنتج هو الآخر سردياته التي واكبته أسابيع فقط بعد انطلاق شرارته. وإذ نحن أشرنا إلى هذا المصطلح، فنيتنا ليست اصدار أي حكم مسبق عن الأدب الذي أنتجه أدباء دون انتظار اكتمال اللحظة التاريخية لأجل فهم أكبر لها، حتى لو بدا أن هذا المصطلح في ظاهره يختزن حكمًا قيميًا سلبيًا.
من بين الروايات التي انبثقت عن الحراك الشعبي، رواية "الباش كاتب" للروائي أمين الزاوي، والتي أنهى من كتابتها في نيسان/إبريل 2019، أي في عز التظاهرات الشعبية التي احتلت الشوارع المركزية. والمعروف عن أمين الزاوي أنه من الروائيين القليلين الذين اختاروا الكتابة داخل الأقاليم الصعبة والمسكوت عنها، حتى أن رواياته تشكل مشروعًا سرديًا كبيرًا يضبطها ايقاع الكتابة في الممنوع والمهمش، وفي السياسي وفي تاريخ الأجساد المقموعة. هو صاحب مواقف فكرية وثقافية واضب على كتابتها في مقالاته الأسبوعية سواء بالعربية أو الفرنسية، وبعض مقالاته كانت تخلف وراءها نقاشًا كبيرًا يتحول أحيانًا إلى خلفية للتهجم عليه، لاسيما من التيارات الإسلاموية التي تجد في أفكاره مصدرًا للإزعاج. ففي مقال بعنوان "مقولة النهايات من نيتشه إلى أمين الزاوي" والذي نشر في جريدة "البصائر" المحسوبة على التيار الإسلامي، كتب صاحبه يقول: "ليس لأمين الزاوي أي مشاركة حقيقية فيما يتصل بالفكر والإنتاج الفكري؛ فهو روائي محدود الكفاءة الإبداعية والفنية، وكل ما أنتجه من نصوص أدبية لا يخرج عن سياق التكرار والالتزام الأيديولوجي بمجمل التصورات الحداثية الفلسفية والاجتماعية والنقدية، التي تشكل الإطار الفكري لعموم الثلة العربية المتعلمنة". ويتضح من خلال هذا المثال البسيط، أن كتابات الزاوي ظلت هدفًا لنيران هذه الأقلام المتخندقة وراء إيديولوجيا دينية ضد كل من يحاول تحريك المياه الراكدة، بل قد وصل الأمر بالبعض إلى تكفيره بسبب أفكاره وكتاباته.
في روايته "الباش كاتب" 2020، سيوقع لنا الزاوي رواية عن الحراك الشعبي الجزائري، لكنه ظل وفيًا لعوالمه السردية ولأفكاره عن الفن والسياسة والدين والجسد؛ والملفت للانتباه في هذا العمل الروائي أن الزاوي كتبه في عز الحراك الشعبي، ليقدم تشخيصًا فنيًا لرؤيتين متناقضتين للتاريخ: رؤية السلطة، ورؤية الفن وهي رؤية متمردة على واقعها، تنتمي إلى جهة المستقبل.
سيدخل الزاوي إلى مطبخ السياسة، ذلك أن الحراك الشعبي الجزائري جاء لمحاكمة نظام سياسي أنتج طيلة عقدين من الزمن أزمات متتالية، بدءا من أزمة الحريات وصولا إلى ازمات اجتماعية، عكستها حالة الفساد العام التي طالت كل مؤسسات الدولة. سيعيد الروائي الرواية إلى السياسة.
على منوال الفيلسوفة الألمانية حنة آرنت نتساءل: هل مازال للسياسة في النهاية معنى؟ وتزداد شرعية هذا التساؤل في سياق هذه المجتمعات التي تحكمها أنظمة قمعية وفاسدة؛ فإذا كانت السياسة هي تنظيم الحياة في المدينة، فهي في مجتمعات القمع طريقة لشرعنة الفوضى، واحتكار السلطة، وتبرير العنف ضد الرعية.
تنتمي الكتابة الروائية إلى أفق الحرية في قول الحقيقة، وهذا ما منحه الحراك للشعب وللطبقة المثقفة، أي ذلك الشعور بحرية الفعل "التظاهر" والقول "الكتابة والإبداع". إذ أصبح ممكنًا الحديث عن الرئيس بكاريكاتورية، وانتهاك عالمه الخاص، واقتحام دهاليز السلطة، وهو ما كان سابقًا، قبل الحراك ضربًا من الانتحار؛ فقد تابعنا أخبار كتاب وصحافيين تمت إدانتهم بجرم قول الحقيقة في ذاك العقدين البائسين، فابتلعتهم السجون والمنافي.
لقد آمن الزاوي بأن روح الإبداع هو الحرية، لذلك مارس حريته في مجال الرواية، مقتحمًا الحواجز والمتاريس الاجتماعية والأخلاقية، وباحثًا عن شكل روائي يحتوي أصوات الهامش.
وفي روايته "الباش كاتب" سيكتب رؤيته عن الحراك الشعبي، منتصرًا لصوت الشعب، ولدور الفن في صناعة الفرجة التاريخية الذي سيحول واقعة تاريخية كان يمكن لها أن تنحرف نحو جهة القمع والعنف إلى واقعة احتفالية.
ماذا يستطيع الفن أن يقدمه زمن الثورات؟
تساءل بونوا دوني في كتابه "الأدب والالتزام": "لأي شيء تصلح الكتابة في اللحظة التي يهتز ويتغير كل شيء؟ وأي دور يمكن للكاتب أن يلعبه في تلك الظروف الخاضعة للاستعجال والفعل العاجل؟".
هل يساهم الأدب في صناعة الثورات؟ أم أن وظيفته هي تفسير وفهم هذه الثورات؟ ما يسميه بونوا باللفظوية الثورية هو تلك الخطابات المحملة بقيم الثورة، وهي خطابات وضعتها الثورة في نظام وجود جد إشكالي.
تساءل بونوا دوني في كتابه "الأدب والالتزام": "لأي شيء تصلح الكتابة في اللحظة التي يهتز ويتغير كل شيء؟ وأي دور يمكن للكاتب أن يلعبه في تلك الظروف الخاضعة للاستعجال والفعل العاجل؟".
ماذا يمكن أن تقوله رواية "الباش كاتب" عن الحراك الشعبي الجزائري ما لم يكن هو وضع الكتابة الروائية أمام إشكالية التعبير عن حدث تاريخي لم يكتمل لحظة كتابتها. أكيد أن قارئًا عاش هذه اللحظة التاريخية سيبحث داخل الرواية عن أجوبة غير مألوفة لأسئلة عادية. صحيح أننا أمام عمل تخييلي، وهذا سيشفع للروائي مؤقتا، لكنها مغامرة محفوفة بالمزالق أيضًا، ولعل أخطرها، مدى قدرة الروائي على خلق التوازن بين التخييلي والتاريخي، أي بين الشكل الفني والحادثة التاريخية التي كانت آنذاك في طور التشكل.
وكما أشرنا سابقًا، فإن أمين الزاوي قد فتح سرده على رؤيتين متناقضتين، أحدهما مثلتها شخصية عمار النساخ كاتب خطابات الحاكم "قزمان بن نسوان"، وشخصية "مهدي أخريف" الملقب ببوب مارلي وهي شخصية محبة للحياة وللفن، جعلت من المغني الأسطورة بوب مارلي رمزًا للتحرر من نير الاستبداد. وبين الشخصيتين تنفتح مساحات الكلام عن الحراك الشعبي، بين موقف كاتب خطب الرئيس الذي اعتبره تمردًا يستحق مواجهته بقوة الحديد والنار، وموقف الفنان الذي اعتبر الحراك فرصة تاريخية لتغيير الأوضاع، وهو المناخ المناسب لإعادة ربط الفن بالثورة والتغيير.
السلطة ومأزق الخطاب
ما الذي يجعل شخصية عمار النساخ مهمة ومحورية في الرواية؟ هناك أسباب كثيرة، ولعل أهمها، أنها جسدت التمثيل العميق للسلطة، ذلك أن الروائي توغل إلى تلك المنطقة التي تطبخ فيها خطابات الرئيس، فعمار هو الذي يكتب للرئيس خطاباته التي يتوجه بها للرعية، وظهرت أهمية وخطورة هذه الوظيفة عندما لم يعد الرئيس قادرًا على التسيير بسبب المرض الذي ألم به، حيث ظل حضوره مستمرًا عبر الخطاب أو اللغة، أي أن عمار هو الذي ناب عن الرئيس، بل أصبح لسانه الذي به يخاطب الرعية.
تتضح جليًا هذه العلاقة العضوية بين السلطة والخطاب، تذكرنا بأفكار ميشيل فوكو، خاصة التي طرحها في كتابه المهم "نظام الخطاب"، ففي هذا الكتاب يطرح فوكو نظرية مهمة حول سلطة الخطابات. يقول في إشارة واضحة إلى أن الخطاب ليس هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة، لكنه هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها. (ينظر: نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا).
في رواية الزاوي، يتحول الرئيس إلى مجرد شبح غائب عن مسرح السياسة، خاصة بعد أن أصبح غير قادر على ممارسة الحكم، لكنه يظل حاكمًا وصاحب سلطة من خلال الخطابات؛ إنه يتمثل عبر اللغة التي يتعامل معها عمار بتفاني شديد.
حب عمار للغة ولمعاجمها، لا يقل عن تعلقه الشديد برئيسه، بل بلغ تعلقه به إلى درجة الرغبة في النوم معه في سرير واحد. هذه العلاقة المليئة بالعواطف والفونطازمات، تعكس تعلق كاتب الرئيس بالسلطة إلى درجة الرغبة في الحلول فيها. لأن وجوده لا معنى له خارج دوائر النظام. استمرار قزمان أبو نسوان في الحكم، هو ما يمنح معنى لوجود هذا الكاتب. لكن معركة الوجود بالنسبة له تدور داخل الخطاب، من خلال اختياره للكلمات، والحرص على صياغة العبارات، لأجل اقناع الرعية بأن الرئيس بخير، وأنه بصحة جيدة. تكمن سلطة الخطاب، عند عمار النساخ في قدرته على تزييف الحقيقة.
إن الحراك الشعبي كان انحرافًا في نظر عمار النساخ، لأنه أنتج خطاباته الخاصة في شكل شعارات رفعتها الجماهير، وليس هناك ما يزعج السلطة أكثر من بلاغة الشعارات. لقد كان الحراك، ضمن هذا المنظور، شكلًا خطابيًا جعل صوت الهامش، والمنبوذ، والمقصى يستعيد سلطته بعد عقود من الصمت. فالمعركة خلقت ضربًا من التوازن بين احتلال الساحات واستعادة مساحات الخطاب المهملة.
الفن واستعادة المواقع المهملة
يعود السؤال دائمًا إلى واجهة الكتابة، وفي رواية "الباش كاتب" يضعنا الزاوي في مواجهة هذا السؤال القديم والجديد في الآن نفسه.
والملاحظ أن الروائي، وعبر شخصية مهدي أخريف كان يبحث عن موقع رمزي للفن داخل الحراك الشعبي؛ ذلك أن هذه الشخصية، والتي كانت تعمل في إدارة عمومية للكهرباء، كانت متعلقة بالموسيقى، وعلى وجه التحديد بموسيقى الفنان الجمايكي بوب مارلي، واختيار مارلي لم يكن اعتباطًا.
إن ما يقوم به الفن بأشكاله المختلفة هو تحرير الجسد والخيال والخطاب من الخوف، والخضوع لنواميس المستبدين، لكن أيضًا التحرر من أشكاله القديمة كذلك
سيحرص الروائي على أن يقدم لنا الحراك الشعبي في صورة احتفال أكثر من كونه فعلًا عنيفًا ضد النظام، حيث احتلت الجماهير الساحات والطرقات والشوارع لتبعث فيها روحًا عبر الشعارات والأغاني وأشكال التعبير الأخرى، بل أن العرسان جاءوا ليحتفلوا بفرحهم وسط الجماهير. هل تحول السخط إذن إلى حالة احتفالية معلنة عن رؤية جديدة لمعنى الثورة؟
كتب الشاعر المغربي محمد بنيس: "لا شك أن خصيصة هذه الثورة هي أنها أتت بما يفاجئ لا في الفعل فقط، بل في الخطاب أيضًا، من حيث حضور الشعر والصورة والغناء والرسم والتعبير المسرحي، إضافة إلى النكتة والمثل. هي خطابات إبداعية تضاعف من قدرة الجسد الثائر على المقاومة، على إنتاج المقاومة المتعددة" (ينظر: محمد بنيس، لغة المقاومات).
فحضور الفن وأشكاله التعبيرية المختلفة هو إنتاج لمقاومة متعددة، والانتقال بالثورة إلى مستويات من الوعي بأهمية الفن في أي مسار ثوري مقاوم، وهذا ما جعل مهدي أخريف يحمل آلته الموسيقية ليغني أشعار ألدا المولود، الشاعر وبائع الورد، وسط الجماهير التي قررت أن تخرج من صمتها.
إن ما يقوم به الفن بأشكاله المختلفة هو تحرير الجسد والخيال والخطاب من الخوف، والخضوع لنواميس المستبدين، لكن أيضًا التحرر من أشكاله القديمة كذلك، إذ لا ننسى أن النخب المنتجة للإبداع على اختلاف صنوفه، كانت وما زالت تمثل الحلقة الأضعف في أي مشروع للتغيير، سواء بسبب صمتها المتواطئ مع النظام، أو بسبب خوفها، باستثناء القلة منهم الذين ظلوا يحفرون بالملاعق نهر التغيير.
على الفن أن يتحرر من نفسه، وهو في تصورنا لن يكون إلا بالخروج من الإطار، والبحث عن الحياة خارجه، وهذا ما قصده بنيس دائما بضرورة عدم تخلي الخطاب الفني أو الأدبي عن زمنيته.
يقاوم الفن، في نظر المهدي أخريف، زمنية الإخفاق الذي مني به هذا البلد منذ الاستقلال، كأن التاريخ ليس إلا تاريخ الاخفاقات المتكررة. وعندما جاء الحراك الشعبي، خرج الشعب عن هذا المسار التاريخي الذي رسمته سياسات الاخفاق المتتالية، ليراهن على حريته. ولا يمكن للفن أن يستعيد قوته إلا في جو من الحرية. "الجميع يرقص، صغارًا وكبارًا، نساء ورجالا، الحرية طعم نادر في هذا البلد" (ص 61).
دعونا نتأمل في هذه العبارة "الحرية طعم نادر في هذا البلد" لنقيس بها عمر الحرية في أوطاننا العربية؟ الذي حدث عربيًا، في ظل ما سمي بالربيع العربي، أن الربيع الذي كان يحلم به الجميع، لم يعمر طويلًا، بل سرعان ما سقطت البراعم الصغيرة من الأغصان، لتسقط أرضًا وتدوس عليها نعال الوافدين الجدد الذين أعلنوا عن نهاية أحلام التغيير، والدخول في عصر الفوضى والعنف وعودة الدكتاتوريات وإطلاق سراح وحوش الأصوليات الدينية لأجل الترويع.
ما أتعس هذه الأحلام التي تلاشت فوق رؤوسنا مثل سحابة صيف لم تقاوم جفاف السماء. فكل شيء انقلب إلى نكوص نحو عصر شمولي جديد، جعل الأنظمة الجديدة، والتي ليست أكثر من نسخ معدلة للأنظمة السابقة، تسرق هذه الأحلام، وتكذب على شعوبها أنها جاءت محمولة على أكتاف شهداء هذا الربيع الثوري.
ما الذي تغير اليوم؟ لا شيء تقريبًا، إلا إذا استثنينا ازدياد منسوب الإحساس بعدمية هذا التاريخ العربي.
هل كان الزاوي، أو غيره من الكتاب، يدركون أن هذا الحراك سيسقط في فخ تكرار التجارب الفاشلة السابقة؟ صحيح أن الجماهير التي احتلت الشوارع نقلت ثقافة الاحتجاج إلى مستويات عالية من الوعي، وجنب ذلك الدخول في دوامة العنف، لكن هل يعني ذلك أنه نجح في استعادة كرامة المواطن؟
لقد بدأنا المقال بسؤال الكرامة، وسننهيه به أيضًا، مع أننا لم نصل بعد إلى صياغة الأجوبة الحقيقية. رواية الزاوي نفسها، رغم أهميتها في رصد نبض الحراك أثناء وقوعه، لكنه فشل في طرح الأسئلة الأكثر جذرية: ما هو دور النخب الثقافية في الانهيارات التي حدثت؟ لقد قدم لنا الحراك كواقعة قد وقعت فحسب، دون أن يقرب العدسة أكثر لتفكيك الحدث، ربما ما زلنا نفتقد إلى شجاعة اقتحام القلاع العالية التي تربض داخلها الحقيقة.