كُتبت رواية "الثعالب الشاحبة" للكاتب الفرنسي يانيك هاينيل عام 2013، وصدرت ترجمتها العربية عن دار "ممدوح عدوان" عام 2016 بتوقيع كل من ماري إلياس ومعن السهويّ. تقدم الرواية رؤية استشرافيّة لمستقبل فرنسا، يعبّر عنها الكاتب في رسم صورة احتجاجية عبر الأدب تتضمن رؤى توثيقية لحال العاطلين عن العمل، أو المضربين عنه، في مجتمع تشكّل أساساته أفكار الرأسماليّة التي من شأنها تسليع الفرد واقتياده باتجاه عبودية حديثة تدمجه مع الجماعة.
تقدم رواية "الثعالب الشاحبة" رؤى توثيقية لحال العاطلين عن العمل، أو المضربين عنه، في مجتمع تشكّل أساساته أفكار الرأسماليّة
يبدأ هاينيل روايته التوثيقية الاحتجاجية بجملة مقتبسة من المفكر الماركسي الألماني والتر بنيامين "سننتصر على الرأسماليّة بالمشي".
تشكل العبارة جوهرًا أساسيًّا في فهم السبب الذي كُتب من أجله هذا الكتاب/الرواية الاحتجاجية. فكرة الاحتجاج على المنظومة السائدة هي الفكرة التي يرى نفسه من خلالها بطل الرواية جان ديشيل، وهو المطرود من بيته، والمضرب عن العمل احتجاجًا على شكل الحياة في فرنسا. وفي المقابل يختار لحياته شكلًا جديدًا يأخذ منطق الاحتجاج عبر عدم القيام بمجموعة من قواعد العيش تحت ظل نظام بيروقراطي يجبره على ملء العديد من الجداول بالبيانات الشخصيّة، أدى ذلك الاحتجاج من خلال عزلة فردية حيث قرّر العيش خارج منطق التفكير السائد، بعد أن طُرد من بيته واختار العيش في سيارته المركونة في أحد شوارع باريس. عزلته تلك حملت جوهر احتجاجه على شكل الحياة في مجتمعه الذي لفظه وريثما تطورت إلى تمرد اجتماعي، يبدأ من تمزيق بطاقة الهوية، ولا ينتهي عند الانتشار في الشوارع والساحات العامة، بعد الذوبان في جماعة كبيرة من الرافضين لذلك الشكل المؤطر الذي تجبر الدول مواطنيها على الانخراط فيه.
اقرأ/ي أيضًا: رواية "الثعالب الشاحبة".. خراب يليق بفرنسا
تؤسس رواية "الثعالب الشاحبة" لتصور مستقبلي يعتمد على حيثيات الواقع، يبنيه الروائي عبر فصلين طويلين ومنفصلين شكلًا ومضمونًا، بما يقارب 182 صفحة، نرصد خلالها مجريات الأمور ومآلاتها عبر خطاب الراوي المكتوب بصيغة المتكلم وما يحمله من أبعاد توثيقية يضمنها الكاتب لحكايته الاحتجاجية التي يرسم عبرها تصوره لما يمكن أن يحدث فيما لو بقي الحال على ما هو عليه، من خلال تجربة البطل المتخيلة، التي تبدأ من الطرد الفردي وتنتهي عند عدد كبير من المحتجين يملؤون المكان رفضًا على كل ما يشكله من قوانين.
من هم الثعالب الشاحبة؟
الثعلب الشاحب الذي يذكره يانيك هاينيل في الرواية، مأخوذ من التراث الثقافي لشعوب الدوغون في مالي، ويحمل تأثر الكاتب الواضح بمفردات الثقافة الأفريقية والرموز الثقافية الاجتماعية المستوحاة من الممارسات الثقافية لتلك الشعوب، التي تعبّر عن الترابط بين الأدب والأنثروبولوجيا في هذه الرواية. من أهمها رمز الثعلب الشاحب الذي يرمز لابن الإله العاق، الذي قتل أباه، ويمثل مفهوم القطيعة والاستقلالية عن المجتمع، والتمرد عبر الرقص الذي يرمز للاحتفال بموت الإله وبالتالي السلطة والقانون. صورته ترمز إلى التمرد عبر الرفض والاستقلال.
الثعلب الشاحب لا يتكلم إنما يكتب، ولذلك نلاحظ ونحن نقرأ بين أجزاء الفصل الأول الكثير من الجمل القصيرة التي تشبه عبارات مكتوبة على لافتات في مظاهرات، وهي اقتباسات أدبية وجمل احتجاجية يقابلها بطل الرواية وراوي الأحداث الكليّ المعرفة متجولًا في شوارع باريس خلال رحلة تشرده التي تؤسس للتمرد. إذًا الثعالب الشاحبة هم العاطلون والمضربون عن العمل، وكل من تخلى عن الأُطر المفروضة من قبل المجتمع عليه، بالإضافة لكل مهاجر ولاجئ غير حاصل على أوراق رسمية وإقامة في فرنسا، في المجمل هم كل من لم يعطيهم المجتمع مكانًا للعيش. يذهب كل شيء نحو تشكيل صورة متخيلة عن التمرد، تضفي تلك الثعالب الشاحبة التي تحتفي بها الرواية أجواءً من الترقب والانتظار على خطاب الراوي وعلى خيال القارئ الذي يبدأ بتشكيل صورة أخرى عن المجتمع، من خلال المشردين والمضربين، ويترقب تحول باريس إلى عاصمة للعصيان، بعد أن يضعنا الكاتب أمام أزمة المدينة التي لا يشعر بها من يعمل، فمن يعمل لا يشعر بخطورة ما يجري حوله وما يجبره القانون على فعله، بل من اختار الإضراب والتمرد لأنه فهم ما يجري واختار الرفض الهادئ أولًا عبر البطالة.
كيف ندخل في الفاصل؟
الإنترفال هو الفترة الزمنية الفاصلة بين فترتين. والإنترفال أو الفاصل، هو التعبير الذي يستخدمه بطل الرواية لتوصيف الفترة التي يعيش فيها وسط الانتقالات والتغييرات التي تحدث معه، والتي ندخل إليها في الرواية تبعًا عبر السرد أولًا في بداية الرواية بعد انتقال البطل من بيته للعيش في سيارته. "يعود الفضل إلى هذا الفاصل، دون أدنى شك، في أنيّ لم أشعر بتوجس حيال تحولي إلى التشرد، ويعود الفضل إلى السيارة في أنني أعيش هذا الفاصل" (ص 15).
تبدو تجربة العيش بالنسبة للبطل وكأنها مجموعة من الفواصل التي تهيئ لفواصل أخرى، وبالتالي تجارب أخرى وانتقالات تحمل تغييرات، على الأقل هذا ما عبّر عنه هاينيل من خلال تلك الأجواء التي أسّس لها في الفصل الأول من الرواية عبر رصد التفاصيل التي يقوم بها شخص ما قرّر ترك المجتمع والعيش على هامشه وخارج أُطره المفروضة على الجميع.
ريثما ندخل إلى فترة أخرى بعد أن قطعنا مرحلة ذلك التهيؤ من خلال الانتقال إلى الفصل الثاني للرواية الذي ينهي عالم التحول إلى التشرد، ويعلن عن بدأ التمرد على عالم مُسلع ينتهك الخصوصية والحرية الفردية، عبر إجبار الأفراد على أن يكونوا عبارة عن بيانات شخصية تسهل تأطيرها ومراقبتها على الدوام، للدخول إلى عالم آخر يقوم على شكل أبعد ما يكون عن السائد والمعروف، فيه كل ما يخاف منه المجتمع ولا يفضله. يكتب هاينيل الفصل الثاني من روايته بصيغة المخاطب، وكأنه أمام أحد المسؤولين، ويتخيل نفسه أمام من بات يروق له شكل الحياة تحت سلطة المراقبة.
الاستعانة بتفاصيل غريبة لبناء صورة التمرد
يعتمد الكاتب لبناء صورة الاحتجاج المتخيلة على شكل الكرنفال الأفريقي، مستوحيًّا إياه من كتاب "أفريقيا الشبح" للشاعر والأنثروبولوجي الفرنسي ميشيل ليريس. يستخدم واحدًا من أهم الأغراض الحاملة لقيمة الكرنفال وهي الأقنعة الأفريقية التي تخفي الهوية الحقيقية وتعطي هوية أخرى، وتقدم صورة احتجاجية على اعتبار أنها موجودة ضمن جماعة كبيرة من مرتديّ الأقنعة المحتجين.
عبر تعبير الهوية لعنة، يلعب الكاتب لعبة تبديل هويات من خلال ارتداء القناع، والذي يحمل دلالة عالمية على الاحتجاج والاختلاف مع القيم المجتمعية السائدة، وتجسيدًا قويًّا لمبدأ تكسيرها، حيث يتماهى الإنسان مع فكرة وضع القناع وإخفاء الهوية ليبرز هوية أخرى مضللة، وبذلك يدفع القناع إلى تبني هوية جديدة تدفع بالتالي نحو خلق حالة احتجاجية، هوية جديدة ترى الأمور من وجهة نظر مختلفة. يذكر الكاتب القناع المستخدم في فيلم V for Vendetta كرمز للاحتجاج ضد السياسات الحاكمة.
يتخيل الكاتب وجود مجموعة كبيرة من البدون، أيّ بدون أوراق رسميّة وبدون عمل. أُناس مطرودين من فرنسا، لاجئون قطعوا البحار وتعرضوا لأقسى أشكال التعنيف والتعذيب والتجارة البشرية للوصول إلى الحلم الأوروبي، يجدون أنفسهم في الشارع حيث كل شيء يرفضهم في دولة الأحلام. يعطي هاينيل لهؤلاء صوتًا في الجزء الثاني من الرواية عندما يضعهم مباشرةً في الشارع أمام رجال الشرطة، ويمنحهم الشرعية عبر القناع وسرد تفاصيل الكرنفال الذي من شأنه أن يحرر ذواتهم من خلال تجمعهم، هؤلاء الثعالب الشاحبة المهمشون والمنبوذون ومجهولو الهوية يتجمعون في مظاهرة كبيرة، تتحدى سياسة الدولة وكل قرارات الطرد التي صدرت بحقهم.
تقدّم رواية "الثعالب الشاحبة" صورة عن أفريقيا القارة المُفقرة من قبل الاستعمار في السابق، والتي لم تتجاز إثره القاسي
قدّم الكاتب من خلال الاستعانة بالرموز الأفريقية، صورة عن أفريقيا القارة المفقرة من قبل الاستعمار في السابق، والتي لم تستطع التخلي عن إرثه إلى الآن. فجاء حضور أفريقيا في فرنسا باعتبارها المكان الذي يجري فيه حدث الاحتجاج، كجزء من صورة الاحتجاج الكليّة والمعبر عنها بوجود الأفارقة من المهاجرين المطرودين، وتعبير مجهول الهوية الأفريقي، والتجمع الذي يقوم به المتمردون بعد موت شخصين من رفاقهم خلال مطاردة الشرطة لهم. هذا الحدث أسّس للتجمع الكبير في الرواية ودفع بالمتمردين للخروج إلى شوارع باريس وتنبأ باندلاع الثورة، في صورة متخيلة أقرب لأن تكون أفريقيا قد احتلت فرنسا لكن في شكل ثورة احتجاجية.
اقرأ/ي أيضًا: "من إسطنبول إلى بغداد".. رواية عن شرق مأزوم
يجعل يانيك هاينيل من الكتابة عملًا سياسيًا وثوريًّا في وقتٍ لم يعد فيه للصوت الثوريّ أيّ صدى. عام 2013، شهدت فرنسا وصول موجة من اللاجئين وتخبطًا سياسيًا واضحًا بين أحزاب اليمين واليسار، ومخاوفَ من القادمين الجدد وسط تنامي وصعود لأطراف يمينية مناهضة لوجود الهاربين عبر البحر والباحثين عن الأمان.
يتنبأ هاينيل في "الثعالب الشاحبة"، وعبر رمزية مستقاة من ثقافة مهمشة بالواقع الجديد الذي ستشهده فرنسا بعد قرابة خمس أعوام، بحدوث حركة السترات الصفراء، التي قادها عمال متضررون من قوانين جديدة مفروضة عليهم، رفعوا شعارات التغيير، قرعوا جرس الثورة. تلك الثورة الصبورة التي تنتظر الفرصة لتندلع، كما كتب هاينيل، بعد تعفن الحلم الغربي بالتحرر، تأتي الثورة على هيئة ثعلب شاحب غاضب، غيّر هويته واندمج مع جماعة أخرى غاضبة.
اقرأ/ي أيضًا: