رواية "الجندي الطيب شيفيك" رواية شهيرة من بين روايات القرن العشرين، ارتبطت شهرتها بالحرب العالمية الأولى، وبالتدليل على مواكبة الرواية للأحداث العالمية الكبرى، مثلما ارتبطت بأسلوب الرواية وطريقتها المميزة في تناول الواقع والعالم الذي تقدّمه. كُتبت الرواية في الأصل باللغة التشيكية، لغة مؤلفها (ياروسلاف هاشيك Jaroslav Hašek) المولود في براغ (1883)، وترجمها إلى العربية توفيق الأسدي (عن الإنجليزية). ولهذه الرواية تأثيرات في الكتابة الروائية العالمية والعربية، سواء بأسلوبها الساخر، أو بطبيعة الشخصية التي تتظاهر بالبله والحمق القصدي، كأنها ترد على جنون الواقع وجنون الحرب بطريقتها المتهكمة، لتفتح بابا لنقده وهزيمته بالمواقف الساخرة وإساءة التصرف والبعد عن الحكمة المصطنعة.
كأن رواية "الجندي الطيب شيفيك" ترد على جنون الواقع وجنون الحرب بطريقتها المتهكمة، لتفتح بابا لنقده وهزيمته بالمواقف الساخرة وإساءة التصرف والبعد عن الحكمة المصطنعة
وهي رواية طويلة تقع في عدة مجلدات، كتبت في الأصل على شكل رواية مسلسلة مما كان يشيع نشره في الصحف على شكل حلقات يتابعها القراء، قبل ظهور وسائل التلفزة والاتصال في العقود اللاحقة، تذكّرنا الرواية بروايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وبالرواية الروسية المطولة، وتقع الترجمة العربية في ثلاثة أجزاء، وفي أزيد من ألف صفحة. الكتاب الأول: خلف الخطوط. الكتاب الثاني: في الجبهة. الكتاب الثالث: الهزيمة المجيدة.
ترصد الرواية جانبًا من أحوال أوروبا عندما دخلت الحرب العالمية الأولى، وقد كانت التشيك -قبل الحرب- جزءا من الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية، التي لم تلبث أن اختفت من الوجود، وتوزعت على عدة دول بعد الحرب العالمية.
في سيرة المؤلف أنه استدعي للمشاركة في الحرب عام 1915 ولكنه لم يلبث أن انشقّ عن الفرقة التشيكية وانضم إلى الشيوعيين (البلاشفة) عام 1918، عاد إلى براغ عام 1920 وابتعد عن العمل الحزبي لصالح الكتابة، فكتب روايته على حلقات مع رسوم لصديقه الرسام جوزيف لادا، وتوفي عام 1923 قبل إتمامها، ومع ذلك فقد استقبلت على أنها واحدة من أهم الروايات التي سجلت أصداء الحرب وعبثيتها بسخرية مريرة، وتمكنت من خلال بطلها الرئيسي شفيك من رسم نموذج روائي ناقد وشكاك وساخر، يحتفظ بعافيته النقدية رغم مشاركته الإجبارية في الحرب، ورغم الأهوال التي يشهدها. تنقذه السخرية وادعاء الحمق من كثير من المواقف الصعبة التي يقع فيها، فيطور مرة بعد مرة قدرته على "المقاومة" بالسخرية، وينمّي حاسته النقدية التي تبدو كاشفة للتناقضات بين الشعوب والقوميات المشاركة في جبهات الحرب، أما موقفه من السلطة القائمة التي تدفع الجنود إلى حتوفهم دون رحمة، فموقف مبني على كشف زيف السلطة وعلى رفضها والسخرية منها بطريقة مواربة تتصيد المفارقات وتستخدم آليات التضخيم والمبالغة بطريقة "كاريكاتورية" لغوية، وسردية أصيلة.
وقد وظّف المؤلف التنوع اللغوي ودافع عن لغة روايته التي يبدو أنها تعرضت للنقد وربما السخرية من مستوياتها الشعبية وقليلة التهذيب، وجاء في خاتمة الكتاب الأول ما يشعرك أنه إيضاح أو رد على ذلك النقد: "هذه الرواية ليست دليلًا لمفردات غرف الاستقبال المنمقة ولا هي كتيب لتعليم التعابير المستعملة في المجتمع الراقي. إنها صورة تاريخية لفترة محدودة من الزمن.. إن أولئك الذين يجفلون من اللغة المتطرّفة عبارة عن جبناء، لأن الحياة الحقيقية تصدمهم.. كما أن أشخاصًا ضعفاء كهؤلاء هم الذين يُلحقون معظم الضرر بالثقافة والأخلاق... إن مثل أولئك الناس يعلنون سخطهم علنا، ولكنهم يجدون متعة غير عادية في الذهاب إلى المراحيض العامة لقراءة ما يُخط عليها من كلمات بذيئة!! إن استعمالي لبعض الكلمات المتطرفة في كتابي هو تأكيد عرضي للطريقة التي يتحدث فيها الناس فعلًا".
ويمثّل على ذلك بشخصية حقيقية ممن كتب عنهم هي شخصية باليفتس الذي سُجن بتهمة قلة احترام الإمبراطور: "في اللغة غير المشذبة التي يستعملها عبّر باليفتس دون وعي وبأسلوب بسيط وصادق عن المقت الذي يكنّه التشيكي العادي للأساليب البيزنطية. كان ذلك كله في دمه: قلة احترامه للإمبراطور وللجمل المهذبة".
تركت هذه الرواية تأثيرات مستترة في الرواية العربية، أبرزها ما يجده القارئ في روايات المرحوم إميل حبيبي، خصوصًا في روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء أبي سعيد النحس المتشائل"، كما تفاعل معها محمود شقير في كتاباته الساخرة، وفي كتابه القصصي "احتمالات طفيفة" بوجه خاص. وربما نجد لها أصداء في رواية مؤنس الرزاز "جمعة القفاري"، ورواية يوسف ضمرة "سحب الفوضى"، ورواية إبراهيم نصر الله "حارس المدينة الضائعة"، ونحو هذا من روايات يتظاهر فيها البطل بالغفلة والحمق لحماية نفسه ولإتاحة المجال أمام لسانه لينطلق بالنقد والسخرية دون حساب.
تركت رواية "الجندي الطيب شيفيك" تأثيرات مستترة في الرواية العربية، أبرزها ما يجده القارئ في روايات "المتشائل" و"جمعة القفاري"
و"حارس المدينة الضائعة"
تستحق الرواية ترجمة أخرى عن الأصل التشيكي إن وجدت مترجمًا مقتدرًا، فرغم مقدرة توفيق الأسدي إلا أن الصياغة العربية فيها هنات ومناطق معتمة كثيرة، ويبدو أن الأصل التشيكي فيه استعمالات محلية وعامية من التشيكية واللغات الأخرى التي ينتمي إليها أبطال الرواية وشخوصها، وفيها قدر عال من العنف اللغوي الذي كثيرًا ما هذبه المترجم الأسدي، وقبله المترجم الإنجليزي، فاختفى جزء هام من طبيعة الرواية العنيفة التي عبرت عن نقمتها على عصرها وعلى سلطاته بالسخرية والعنف اللغوي واستعمال العاميات، وتقصّد "الابتذال" في مواجهة التهذيب المدّعى للطبقات البرجوازية والسلطوية.
هذه رواية جديرة بالقراءة والاهتمام، وأرى أنها جديرة بأن تكون جزءًا من مقررات إعداد الروائيين، ودورات الكتابة الإبداعية، ذلك أنها تتضمن معظم "تقنيات" السخرية والمفارقة التي يمكن توظيفها في الرواية، كما تؤسس بقوة للوظيفة النقدية للرواية، وأنها ليست سردًا خالصًا أو حكايات فحسب. تمتلئ هذه الرواية بالحكايات الفرعية والمخترعة، ولكنها دومًا تذكرنا بأن لتلك الحكايات وظيفة أو وظائف متشعبة، فالسرد إذًا وفق "شفيك" ورفاقه: تقنية ووظيفة في آن، والرواية الحقّة لا تكون دون اجتماع التقنية والوظيفة، لتنهض الرواية بوظيفتها الأصيلة التي يتمثل جزء منها في كشف زيف عالمنا ومواجهة قسوته، ونقد السلطة.