يُحلق نص وحيد غانم "الحلو الهارب إلى مصيره" (منشورات الجمل 2016) بالقارئ من قارعة الطريق إلى أماكن مظلمة تستتر بالأخلاق العالية، وقد تطرق إلى أشياءٍ مسكوت عنها في بواطن المجتمع العراقي، وحتى في الأدب العراقي قليل من تحدث عنها بخطوطها العريضة.
تأخذ رواية "الحلو الهارب إلى مصيره" قارئها إلى أشياءٍ مسكوت عنها في بواطن المجتمع العراقي
تميز وحيد غانم بذكاء في اتخاذ سحرية مختلفة، دخل لعبة الرواية، وعمل على اشتغال دقيق في ضرب أشياء مقدسة داخل بنية المجتمع مثل الدين والسياسة والجنس، وكان يعطي كل شخص دفعة من أحد الركائز الثلاث.
اقرأ/ي أيضًا: نصائح فسوافا شمبورسكا: حاول أن تحملق من الشباك في يأس
كان الروائي يظهر بذاءة التسميات مثل عباس الأعور "في سن السادسة عشرة غادر عباس بيت أمه الممرضة في البتاوين من دون رجعة، عبر دجلة صوب الكرخ وتعرف آنذاك على فتى يكبره بسنتين، جره صباح كوني إلى عوالم حرة، عفوية، تناول الأقراص المخدرة والآرتين المهلوس، وغرقا في التدخين والشراب، تسلح كوني بمدية لا تفارقه، وقلده عباس، وفي الليل كان كوني يتأمل سلاحه بفخر حالما باقتناء مسدس وقتل الناس. كان فتى أبيض دقيق الشفتين. عيناه مدورتان وفي النهار تبدوان كبصمتين شاحبتين، لم يعرف أصل عباس بغداديًا أو من مكان آخر".
يدخلك العمل إلى أشياء مثيرة أو مغلقة عن ناحية الكتابة في الأدب العراقي، إذ دخل الروائي العليم يفسر تلك الشخصيات المهمشة في المجتمع، ويتطرق لأسماء مثيرة أو لألقاب ترمز إلى الشقاوات أو الأشخاص الذين يعبثون في الحياة مثل عباس الأعور الذي لعب دورًا مهمًا في العمل والتنقل؛ فتلك الشخصية من حالة رثة إلى أكثر رثاثة، وكان السيد ومهنا يبرزان وجه بغداد التي يصفها وحيد غانم بعاصمة الأقدار السوداء في تلك الأيام الحالكة بعد سنة 2003 من قتل وخطف واغتيالات ومليشيات: "بعد سنة على احتلال الأمريكان بغداد فاحت رائحتهم. شك السيد أن في البلد من هو حي الضمير ولم تتلوث يداه، بحسب تجربته مع مربي الديوك ومدربيها الغشاشين فإن سنوات العوز والموت لم تدع أحدًا نزيهًا. بغداد تفوح برائحة الموت والفساد، ولا غرابة أن أناسًا مثله نعموا بهذه الرائحة، إنها لعنة ومكسب في وقت واحد".
كانت لديه كاميرا ليلتقط الصورعن طريق المشاهد والوقفات داخل العمل السردي في مدينة بغداد القديمة وحالتها مثل منطقة الشيخ عمر، والكفاح، والعلاوي، والبتاوين.. وغيرهن من المناطق التي تعج بالفقر، كان أسلوبه بالكتابة متميزًا بالجمالية، وكانت الشخصيات تتنامى داخل بنية الرواية، ويزداد اشتباك الأحداث، من المقاطع التي صورها عن بغداد، إذ يقول: "غرقت بغداد في الفوضى، فيما بدا أنه من الصعب على المدينة، وكأنها سفينة قديمة جانحة في سراب العالم، الخروج من وحلها خلال أمد قصير، مع أن الحياة الكئيبة تستمر في زواياها، لكنَّ بغداد في المقابل تمثل كنزًا لفظته دجلة للسيد وأمثاله، بظلامها المستعر ونهارها الوحشي. حمل الشباب الأسلحة وطافوا على غير هدى، وقد نالوا فرصة مجنونة لإثبات رجولتهم، وهوياتهم، ورغباتهم. فجأة زالت مخاوفهم القديمة وانكشف المنظر أمامهم، عاريًا، مغريًا، دمويًا".
يصف وحيد غانم بغداد بعاصمة الأقدار السوداء، في الأيام الحالكة بعد سنة 2003، لما فيها من قتل وخطف واغتيالات ومليشيات
وقد اعتمد على ثيمة المثلية بشخصية مهنا، وغيرها من الشخصيات التي تحدث عنها وحيد غانم، وأبدع الكاتب في مجال تصويرها بأسلوبه الرشيق المفعم، ولغته التي تخللتها الألفاظ العامية في بعض الحوارات.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الفتاح كيليطو وضرورية الندم الفكري
أما شخصية السيد فكانت قريبة لما يجري في هذه الأيام بتصوير الأشياء وتطويرها من شخص عديم الفائدة، التي تتحول تدريجيًا من عالم إلى آخر داخل شكل الرواية من "مطيرجي" سجين إلى السيد المبجل الذي يتحكم بسطوة الأشخاص والسلاح، والذي سيستعملهن لمجابهة كل من يكون مخالفًا معه في عملياته الخاصة، وكان يتطرق إلى الشيوعية والحكم البائد (البعث)، والنظام الحالي، ويعطي كل شخص لونه السياسي في الرواية، من ثم يصور حالة الانفلات التي ظهرت عليها العاصمة بعد الاحتلال الأمريكي: "كان من السهل الحصول على السلاح في بغداد، كل أنواع الأسلحة متوفرة، أسلحة الجيش السابق وأخرى أمريكية وروسية وإيرانية ومن كل منشأ، بغداد مشجب متخم بالبارود للحالمين بحرق العالم القديم، بإمكان السيد أن يكلف جبار طلقة أو قاسم الشرطي أو أحد أعوانه بتدبر البنادق والمسدسات والرمانات والقاذفات، لم يكن يحتاج المأمور بصورة فعلية، عدا أنه كان ينسج شبكة مصالح واحتمالات بعيدة".
مع ظهور مهنا يبدأ الروائي في أول كلمة مثيرًا وغامضًا، وكيف تدرج إلى منطقة "اللوطة" يتوغل الكاتب في كشف تلك الشخصية حتى يعرف أنه من عائلة بصرية عريقة، ويذله هذا الأعور الذي لبس أكثر من وجه على مدة العقود الأربعة، عمل في بداية الأمر داخل الأجهزة السرية في حطم الدكتاتور، وكان يشير وهو في السجن إلى أنه أما يعمل في جانب فرق التشكيل للاغتيالات أو أن مصيره الإعدام ككل الذين سبقوه، وكان يشير إلى عمليات القتل بتصوير بارع، ومن ثم أصبح أحد أفراد الشرطة في النظام الجديد بعد سنة 2003 عن طريق مقايضة مع شخصية سيد علي مقابل ذلك الديك الأعور الذي خطف عين الجندي الأمريكي، قد تكون شخصية سيد علي في الرواية نفسها التي تحكمنا الآن، وهي التي تحولت من شخصية تافهة في المجتمع الى قيادة أشخاص وأتباع عن طريق تلك الأموال التي خلقت التسلط. هذه الشخصية أثارتني جدًا في تصويرها الدقيق وكيف تتأقلم مع الوضع المجتمعي، وكيف تقرب الناس من هذا الداعية بالحفظ.. والتي مثلها الروائي بقوله: "لم يشعر بالخطر، فهو لن يموت الآن، لأن أمثاله يعيشون طويلًا بفضل قذارتهم، كأنما تحميهم قوة شيطانية".
في رواية "الحلو الهارب إلى مصيره"، تبدو الشهوة والموت متلازمان دومًا في بغداد، عاصمة الليالي القديمة
في النهاية صور الموت والرعب داخل هذا الحلبة المعتمة بالتسلط والقتل، إلا أنني أحببت كلماته عن الموت، إذ يقول: "فالموت غالبًا ما يبدو في النهاية كمزحة عتيقة بلا طعم". كان التصوير عاليًا بدقة حاذقة هو يركب الكلمات على مواقعهم كما يقول: "السكر يطفئ العيون كما يطفئها الموت". إجادة الموت في هذه الأحياء أو المناطق أمر وارد، كانت تفتقر هذه المناطق للعدالة الإنسانية أو الإلهية، كان ما يثيرهم الجنس الذي تذهب إليه كل الشخصيات داخل العمل الروائي بطريقة مختلفة، منهم مجبر بسبب الفقر، ومنهم يذهب إلى اللذة.. بين الصفحات يقول: "الشهوة والموت متلازمان دومًا في عاصمة الليالي القديمة".
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: ليلة القتلة
قد تكون هذه الكلمات هي التي حددت بؤرة الرواية الأساسية التي بنيت أفكارها على وفقها.
اقرأ/ي أيضًا: