كانت الرواية السوفييتية الرسمية عن العلاقة بين الشعوب والدول المنضوية تحت الاتحاد السوفييتي تقدم لنا صورة زاهية تتجلى فيها الأخوة بين تلك الشعوب والدول في أبهى معانيها. وكانت المجلات الصادرة في تلك الأيام تعزز تلك الصورة وتجمّلها، حتى تجعلنا نشعر نحوهم بشيء من الحسد. ولربما كنّا نقرأ ما قاله لينين عن الأخوة بين الشعوب والأمم، ونظن أن الواقع السوفييتي يتطابق فعلًا مع كلام لينين في ذلك الخصوص، ثمّ نقرأ أدبًا سوفييتيًا، ونقرأ أسماء مؤلفيه؛ هذا ميخائيل شولوخوف الروسي، وهذا رسول حمزاتوف الداغستاني، وذاك جنكيز إيتماتوف القرغيزي، وذاك نودار دومبادزه الجيورجي، كلهم تحت راية واحدة، راية الأخوة السوفييتية.
كما لو أن رواية "حليب سوفييتي" تريد أن تقول إن النساء هنّ حاملات القصة، حاملات التاريخ
ولكن كان للحكاية وجه آخر؛ وجهٌ يقول إن العلاقة بين القوميات والشعوب المنضوية تحت راية الاتحاد السوفييتي لم تكن على تلك الدرجة من البهاء ولا على تلك الدرجة من الأخوية، أو حتى الصداقة. فتحت الصورة البراقة، كان هناك حقد وكراهية ورغبة في التخلص من سطوة "الأخ الأكبر" وكانت روسيا هي ذلك الأخ الأكبر الذي يرغب بقية الأخوة والأخوات في التحرر من قبضته الخانقة.
اقرأ/ي أيضًا: عندما يحزن الكاتب
إلى هذه الحكاية الأخرى تنتمي رواية "حليب سوفييتي". صحيح أن الرواية صدرت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي بربع قرن، ولكنها تعود إلى تلك الحقبة، لتكشف لنا روائيًا شيئًا من ذلك الوجه الآخر. بلساني امرأتين، أم وابنة، تحكي لنا الروائية نورا إكستينا قصة ثلاثة أجيال من النساء: الأم والابنة والجدة، وفي السياق تحكي قصص نساء أخريات، حيث النساء هنّ الأكثر حضورًا في الرواية، كما لو أن الرواية تريد أن تقول إن النساء هنّ حاملات القصة، حاملات التاريخ.
وفي هذه الحكاية الأخرى، لا يظهر السوفييت الروس أخوة وأصدقاء، بل محتلين وغرباء ووجوه سيطرة وقمع. فهم يأتون في "شاحنة ثقيلة مليئة بالجنود، يصرخون بلغة لا يفهمها والداي ... ويبدؤون بقطع أشجار التنّوب" كما تقول الأم في الرواية. وعندما يحاول والد الأم إنقاذ أشجار التنّوب، "يضربه الجنود حتى يدموه، ويرمونه في الشاحنة مع الأشجار المقطوعة". وتكون المشاعر التي تنمو ضدهم في السر شديدة المقت. "حملنا الأعلام في مسيرات شهر أيار/مايو وتشرين الثاني/نوفمبر تكريمًا للجيش الأحمر وللثورة وللشيوعية، بينما صلينا في المنزل، وانتظرنا الجيش الإنجليزي، ليأتي ويحرر لاتفيا من الحذاء العسكري الروسي". أما زوج الجدة، الذي يبقي على أفكاره ومشاعره طي الكتمان حتى يتمكن من العيش في تلك الحقبة، فيصرخ في لحظة غضب: "تلك الكلاب الروسية".
ربما لا يذهب المرء بعيدًا، أو لا يجافي الحقيقة، إذا قال إن النساء الثلاث في الرواية يرمزن إلى مراحل ثلاث من تاريخ بلد الكاتبة، لاتفيا. الجدّة: لاتفيا قبل الحقبة السوفييتية، الأم: لاتفيا في أثناء الحقبة السوفييتية، الابنة: لاتفيا ما بعد الحقبة السوفييتية.
تتصف الجدة بكثير من الصفات التي تؤهلها لتمثل الأصالة، الحكمة، روح البلد العميقة، ورسوخها واستمرارها. بالمقابل تتصف الأم بكثير من الصفات التي تؤهلها لتحمل صفات عدم الانتماء، القلق، الرغبة في التخلص من الحياة، الاضطراب الشديد. أما الابنة فروح المستقبل، روح لاتفيا بعد السوفييتية. ولدت الجدة قبل الحقبة السوفييتية، واستمرت بعدها. أما الأم فولدت يوم 22 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1944، وهو العام ذاته الذي تحررت فيه لاتفيا من النازية وعادت لتقع تحت "الاحتلال" السوفييتي. الاحتلال السوفييتي!! قد تبدو الكلمة صادمة، ولكن هكذا تسميه دراسات تاريخية كثيرة ومنظمات دولية عديدة، وهكذا تنظر إليه بعض شخصيات الرواية، على نحو مباشر أو غير مباشر، حتى تلك التي وجدت آلية للبقاء تحت الحكم السوفييتي. وتوفيت في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 1989، بداية تفكك الاتحاد السوفييتي وتحرك جمهوريات البلطيق السوفييتية نحو الاستقلال. وبالتأكيد ليس التاريخان محض صدفة. أما الابنة، فولدت في العام 1969، وإذا لم يكن لذلك دلالة خاصة في تاريخ لاتفيا، أو الاتحاد السوفييتي، فالأرجح أن تكون له صلة بموجة التمرد والثورة التي اجتاحت أوروبا في أواخر الستينيات.
في لاتفيا السوفييتية، سادت عقيدة الحزب الواحد، والرأي الواحد، ومُنع الدين وكل ما يخرج على هذا الرأي الواحد، حتى لو كان رواية أو قصيدة أو نشاطًا أدبيًا
ماتت الأم، لكن الجدة والابنة استمرتا. لاتفيا ما قبل السوفييت تستمر، ولا تفيا ما بعد السوفييت تستمر، ولاتفيا السوفييتية تموت، فيها عطب شديد يجعل استمرارها مستحيلًا، مع كل مواهبها وطاقاتها وإنسانيتها. وإنها لذات دلالة كبيرة أن الأم رفضت أن ترضع ابنتها حليبها، لأنها تراه "حليبًا سوفييتيًا" فاسدًا قائلة: "لم أرغب في إرضاع حليبي لطفلتي، حتى لا ترضع حقارتي معه".
اقرأ/ي أيضًا: ألبرتو مانغويل.. لا ندخل الكتاب نفسه مرتين
في لاتفيا السوفييتية، سادت عقيدة الحزب الواحد، والرأي الواحد، ومُنع الدين وكل ما يخرج على هذا الرأي الواحد، حتى لو كان رواية أو قصيدة أو نشاطًا أدبيًا. وهكذا صار اللجوء إلى تلك الممنوعات نوعًا من التمرد على السلطة السوفييتية، روايات تُقرأ في السر، زيارة الكنائس المهجورة في السر، علاقات في السر. تشير الرواية إشارات متعددة إلى رواية بلا غلاف، تقرأها الأم، وتعود إلى قراءتها مرة تلو المرة، تلك الرواية هي "1984" لجورج أورويل، مع أنها تشير إليها على نحو موارب، ولا تذكر اسم المؤلف، ولا تذكر الاسم الكامل لبطل الرواية، ولكن أي قارئ سبقت له قراءة "1984" سيعرف أنها المقصودة.
ويصبح الدين، أو الكنيسة، هو الآخر طقس تمرد على العقيدة الرسمية. زيارة كنائس مهجورة، أو إقامة طقوس دينية بسيطة، أو قراءة الكتاب المقدس. ولعل الرمز الديني الأكبر في الرواية هو المجموعة الثقافية التي انضمت إليها الابنة برعاية المعلم "بلمز". فالمجموعة تضم اثني عشر تلميذًا، وهو عدد تلامذة المسيح. والمعلم "بلمز" يأخذ تلاميذه في دروب مختلفة عن دروب المدرسة الرسمية، على النحو الذي أخذ المسيح تلامذته في دروب مختلفة. ومثلما كان بين تلامذة المسيح من وشى به، كذلك كان بين تلاميذ المعلم "بلمز" من يكتب التقارير لمديرة المدرسة التي ترسلها بدورها للمخابرات الروسية، وأجبر تلاميذه على "تجريمه" وتلقى عقابه الذي من حسن حظه أنه لم يصل حد الصلب. وإذا كان الدين تعبيرًا عن التمرد، فإن استخدام رمز "إسماعيل" قد يحمل معنى إضافيًا؛ ذلك أن إسماعيل هو ابن النبي إبراهيم من جاريته وليس من زوجته، وكأنه بهذا ابن من الدرجة الثانية، وهو ما سينعكس عليه معاناةً بعد حمل زوجة إبراهيم وولادتها. فالجمهوريات السوفييتية يأتين في المرتبة الثانية، وكأنهن بنات الجارية، بينما "الأخ الأكبر" الروسي، ابن الزوجة الشرعية.
ليست هذه قراءة تحليلية للرواية، بل مجرّد إلقاء أضواء على جوانب منها تركّز على الوجه الآخر من كل رواية رسمية للتاريخ.
رواية "حليب سوفييتي"، المؤلفة: نورا أكستينا، صدرت باللغة اللاتفية في عام 2016. وتُرجمت إلى الإنجليزية. وعن الإنجليزية ترجمتها إلى العربية ضحوك رقية، وصدرت عن دار ممدوح عدوان في العام 2019.
اقرأ/ي أيضًا:
رواية "حقل البرتقال".. الحرب القذرة بين ثقافة القتل وفكرة التضحية