قليلة هي تلك الروايات التي تجذب الملخصات المكتوبة على أغلفتها انتباهنا. وهذا بالضبط ما حصل معي عند قراءة رواية "رحلات في حجرة الكتابة" (منشورات المتوسط، 2018/ ترجمة سامر أبو هواش) للكاتب الأمريكي بول أوستر، التي لفتت انتباهي الكلمات المكتوبة على غلافها ما إن وقعت عيني عليها، واستعدت على إثرها كلمات أخرى قرأتها في مكان آخر.
يظهر بول أوستر في المشهد الختامي من روايته كما لو أنه يرفع عن كاهله عبء المسؤولية الأخلاقية عن جرائم ارتكبتها شخصية من خَلقِه ورسمه.
تقول بعض كلمات الملخص: "في صنعة سردية متقنة، يترحّل بول أوستر في حجرة الكتابة ليُعالج مسألة المسؤولية الأخلاقية للكاتب تجاه شخصياته الخيالية". وقد عادت بي هذه الكلمات إلى حوار قرأته في رواية "مكر الكلمات" لياسمينة خضرا، حيث تطلب إحدى شخصياتها من كاتبها أن يدخلها إلى جنته عبر خلق أقدار أكثر رأفة ورحمة بها. تقول: "بما أنك الإله الذي خلقني، فهل يمكنني، أقلّه، التطلّع إلى جنتك؟"، فيرد عليها الكاتب بنبرة قاسية: "لا جهنم ولا جنة لدى الكتّاب".
يمكن القول إن رد الكاتب أعلاه يأتي في رواية "رحلات في حجرة الكتابة" كما لو كان إحدى ثيماتها الأساسية. فالرواية تناقش، كما ورد في ملخصها، مسألة المسؤولية الأخلاقية للكاتب تجاه شخصياته الخيالية.
تدور أحداث الرواية في حجرة غريبة يجلس فيها شيخ مسن عمره، بحسب الرواية، بين الستين والمائة. يُدعى الشيخ "السيد بلانك"، ويظهر في الرواية فاقدًا لذاكرته، يحاول معرفة مكانه، وما إذا كان سجينًا في هذه الحجرة أم لا.
تُروى أحداث الرواية على لسان راوٍ يظهر في الرواية كسارد يخاطب القارئ ويطلب منه الاشتراك في اللعبة السردية، بموازاة سرده لقصة السيد بلانك من جهة، وتوضيحه أسرار الغرفة التي يجلس فيها من جهة أخرى.
تخبرنا الرواية، على لسان الراوي، بأن الحجرة التي يتواجد فيها السيد بلانك هي حجرة خاضعة للمراقبة المشددة، إذ يوجد فيها كاميرا تقوم بالتقاط صور لكافة حركاته، ومذياع مدسوس في أحد الجدران يقوم بالتقاط كلّ صوت يصدره، ثم يعيد إنتاجه وحفظه عبر مسجلة رقمية عالية الحساسية.
تورد الرواية بأن السيد بلانك، ضمن إطار محاولاته لتذكر أو معرفة مكانه وأسرار الحجرة التي يوجد فيها، يلجأ إلى تأمّل مئات الصور الفوتوغرافية الملقاة على طاولته. وعندما يفشل في تذكر الأشخاص الموجودين فيها، يحاول قراءة أكوام الورق الموجودة عليها، تلك التي يتبيّن بأنها قصة لرجل يدعى سيغموند غراف، ويعيش في ما يسمى "الكونفدرالية". ومن هنا تبدأ أحداث الرواية بأخذ منحىً مختلفًا تجري أحداثها عنده في مكانين: حجرة السيد بلانك، وكونفدرالية سيغموند غراف.
يبدأ السيد بلانك بقراءة حكاية غراف، التي تبدو قراءته لها كما لو كانت وقتًا مستقطعًا بين زيارات عديدة لحجرته من أناس كثر لا يتذكر معظمهم. لكنه، رغم عدم تذكره لهؤلاء الأشخاص، إلا أنه يشعر بالذنب تجاههم جميعًا. وهو الشعور نفسه الذي يراوده تجاه الأطياف التي تطارده كلما أغلق عينيه، وهي أطياف لأناس كثر يهيأ له أنه عرفهم جميعًا في مكان وزمان ما، وأنه كان سببًا في تجنيدهم وإرسالهم في مهمات خطيرة أحدثت تغيرات جذرية في حياتهم، وغيرت مصائرهم إلى الأبد.
تستكمل الرواية حكاية السيد بلانك لتُبيّن أن أحد زواره هو طبيب يدعى صموئيل فار، وأن هذا الطبيب يخبره بأن وجوده في هذه الحجرة هو جزء من رحلة علاجية يخضع لها، وأن قراءته لقصة غراف غير المكتملة هو جزء من العلاج الذي يتلقاه. كما يخبره أيضًا بأن قصة سيغموند غراف هي جزء من رواية لكاتب يدعى جون تراوز، ويطلب منه أن يحاول استكمال أحداثها ووضع نهاية لها من خلال ما يسميه "تمرينًا في المنطق التخييلي".
تُظهر الرواية السيد بلانك في خضم محاولاته المستميتة، والجادة، لاستكمال أحداث قصة غراف، وتُبيّن للقارئ كيفية خلقِه لمصير غراف في نهاية القصة، ثم تُقدّمه بينما يحدّث نفسه: "إذا أردت أن تروي قصة جيدة عليك أن لا تبدي أية رحمة".
يمكن أخذ عبارة بلانك السابقة والانطلاق منها في تأويل المشاهد الختامية للرواية، حيث تُظهر تلك المشاهد رجلًا يأتي لزيارة السيّد بلانك، وهو محاميه دانيال كوين الذي يتبيّن من خلال حديثه معه بأنه متورط بجرائم عديدة هي الإهمال والاعتداء الجنسي والتآمر والنصب والتقاعس والقدح والقتل.
بوسعنا تأويل حديث المحامي للسيد بلانك، بالقول إن تلك الجرائم هي جرائم اقترفها بحق الأشخاص الذين كان يقوم بتجنيدهم وإرسالهم في مهمات إلى أماكن خطيرة ومجهولة (عملائه بحسب الرواية). وهم الأشخاص نفسهم الذين كانوا يقومون بزيارته طوال فصول الرواية، كما أنهم أيضًا الأشخاص الذين كانت أطيافهم تطارده طوال الوقت، ويشعر بالذنب تجاههم.
ورغم عدم ذكر الرواية لذلك بشكل صريح، إلا أنه يمكن القول إن السيد بلانك الموجود في الحجرة، ويعاني من اختلال في ذاكرته، هو كاتب من نوع ما. وإن الأشخاص الذين قاموا بزيارته على طول الرواية (وسموا عملائه) وحضروا في مخيلته كأطياف تطارده؛ ليسوا سوى شخصيات روائية أو قصصية هو من ابتدعها وقام بابتكار ملامحها، وطريقة تفكيرها، بشكل جاء كما لو كان يُحدِّد لها مهماها، ويرسم لها حدود مصائرها.
ضمن السياق نفسه، يمكن القول إن بول أوستر الذي كان حريصًا طوال فصول الرواية على الحضور كسارد يخاطب القارئ ويطلب منه التفاعل مع أحداث الرواية، يحضر في مشهدها الختامي بصفته كاتبًا متحكمًا في مصير السيد بلانك، حيث يُظهره جالسًا أمام مخطوطة أخرى يتجهز لقراءتها، وهي مخطوطة تحمل نفس عنوان الرواية، "رحلات في حجرة الكتابة"، ولها المقدمة نفسها أيضًا.
تناقش رواية "رحلات في حجرة الكتابة" للأمريكي بول أوستر المسؤولية الأخلاقية للكاتب تجاه شخصياته الخيالية
يظهر أوستر في المشهد الختامي كأنّه يُحاكِم السيد بلانك على الجرائم التي اقترفها بحقّ عملائه/ شخصياته، حيث يعترف بأنه ينوي تركه في الحجرة: "أنوي تركه حيث هو، الحجرة هي عالمه الآن، وكلما طال العلاج، تقبّل أكثر الكرم الكامن في ما فُعِل لأجله، السيد بلانك مسنّ وواهن، ولكن، ما دام في الحجرة ذات النافذة المقفلة والباب الموصد، فلن يموت أبدًا، ولن يختفي أبدًا، ولن يكون سوى الكلمات التي أكتبها على صفحته".
ويبدو أوستر في كلماته هذه كما لو أنه يرفع عن كاهله عبء المسؤولية الأخلاقية عن جرائم ارتكبتها شخصية من خَلقِه ورسمه. كما لو أنه يقول للسيد بلانك: صحيحٌ أنك وليد فكري، لكنني لست مسؤولًا عن الفظاعات التي ارتكبتها، وسأحاكمك بأن أبقيك حبيس جحيم حجرتك إلى الأبد!