لا نكاد نسلّم أنفسنا لرواية الكاتبة الليبية عائشة إبراهيم "صندوق الرمل" (منشورات المتوسط 2022) حتّى نجد أننا في قلب المعركة، وبالضبط في عين زارة، جنوبي مدينة طرابلس الليبية، وأوّل جندي نتعرَّف عليه هو ساندرو كومباريتي. وهذا الاسم الإيطالي اختارته الكاتبة من الجنود المتقاتلين، لكن ما هي إلَّا لحظات مِن الرماية حتى يُصاب برصاصة في كتفه الأيمن، تلك أُمنيّة أو إصابة حظّ كما سمّاها رفاقه، الذين تمنُّوا أن تصيبهم مثلها في غير المقتل، والسبب أنّ ذلك يُمكِّنهم من الرجوع إلى بلدهم الأم، إيطاليا، حيث الأهل والأصدقاء والمرح، بعيدًا عن صوت الرصاص.
كأن الروائية تريد أن تقول: انظروا ماذا فعلتْ إيطاليا بأجدادكم! وماذا عانى أجدادكم من أجل ليبيا التي تحترق كلّ يوم!
نُقِل ساندرو إلى نابولي على ظهر سفينة الجرحى، وبات يفكّر في مصيره المقبل، تمنى أن يعفيَه الطبيب من الرجوع إلى ليبيا بواسطة التوقيع الذي سيرسله إلى هيئة الأركان فجاء في الرد "علينا مراقبة التئام العظم أسبوعين آخرين".
إنّ الرشوة عبر العصور أو "القهوة" أو "التشيبة" كما يُطلق عليها في الجزائر، ظلّت وسيلة لقضاء الأمور المُستعصية لدى الإدارة وتحويلها إلى مَرنة، وفي بعض الأحيان تكون سببًا في إبطال الحق وإحقاق الباطل. لقد حاول ساندرو استمالة الطبيب بالمعجنات اللذيذة، لأنّ جنودًا أصيبوا في معركة "الدودوكانيز" على يد القوات التركية في بحر إيجا. أشاروا له أنّ الطبيب يمكن شراء توقيعه بخمسين ليرة فقط.
من الصفحتين الأوليتين ندرك أننا أمام رواية تاريخية، قُدّم لنا فيها الزمان والمكان بطريقة ذكية. عرَضت الروائية عائشة إبراهيم مقدّمة النّص وأطلعَتنا على الأحداث ملخّصَة، فذكرت النساء اللائي قُتلن طعنًا بحراب البنادق في مسجد بطرابلس ووصفتهن في مشهد يُدمي القلب، نلاحظ أثناء الحوار الأول الذي أداره المراسل الصحفي فاليرا مع ساندرو فِعلًا شنيعًا قام به الأخير، وهو اختطاف حليمة من بيتها وقتل أمها، وأصبح ضميره يؤنبه تأنيبًا، لكن فاليرا استسهل الأمر وهنّأه أنّ الصحافة القومية لا يهمها تلك الانتهاكات ولا عدد القتلى.
ونلاحظ أنّ تقنية الفلاش باك مُحكمة الاستعمال في بداية النّص، ربمّا هي مصيدة للقبض على القارئ المَلول.
لم تأتِ الكاتبة بـ"صندوق الرمل" من فراغ، لأنّ الكتابة في هذا المضمار تتطلب أبحاثًا وصبرًا، فعند ملاحظتنا لسنة 1911 على صفحات المتن ندرك ذلك، بالرغم من امتزاج الخيال بالوقائع، وكأن الروائية تريد أن تقول: انظروا ماذا فعلتْ إيطاليا بأجدادكم! وماذا عانى أجدادكم من أجل ليبيا التي تحترق كلّ يوم!
وبالرغم من الآلام والمعاناة أثناء الحروب في المستعمرات، إلَّا أنّه يوجد نوع من الفُرجة في الضفة الاخرى، وأحيانًا على أرض الصراع، فالرقص والغناء أهواء إنسانية، تُمارس في وقتها إذا توفرت لها الظروف.
جارسيندا مطربة ستُغنّي ليلة الثامن من أيلول/سبتمبر 1911 على مسرح بالبو في تورينو. تلهّف ساندرو لحضور السهرة، لكنّه لم يحظَ بمكان يسمح له بالجلوس بأريحية، فتلقّى لكمات من أفواج المتدافعين. كان يملك صورتها - أي جارسيندا- في مشهد حالم، وسرعان ما اختُطفت منه بالقوة.
قدّمت لنا الكاتبة شخوص النص كلّ في وقته المناسب، لنتعرف عليهم، ولنفهم الأدوار التي سيقومون بها خلال زمن الرواية، فكلّما تعلّقنا بالشخوص كلّما كان الوصول إلى حبكة الرواية والإحاطة بموضوعها أحسن.
وكان لا بدّ أن يقتحم النص أحد أركان الثالوث المحرّم، فكانت السياسة لاعبة دورها، وهي نقطة مهمّة تلفتُ الانتباه وتوضّح الحالة الاجتماعية الخارجة عن محتوى النص لكنّها مؤثرة فيه بطريقة أو بأخرى.
إنّ المكان الراسخ في ذهن القارئ هو السجن، جرتْ فيه أحداث سنأتي عليها ونحن نطلُّ على الرواية إذ ليس بإمكاننا رؤية كل شيء؛ لأننا شعرنا بتكثيف النص خلال القراءة، ولعلّ عائشة على دراية لِمَ فعلت ذلك!
تكشف لنا الروائية غموض العنوان الذي يكون قد أرقّنا بعد مُضي 36 صفحة فتقول على لسان أحد الشخصيات وهو مراسل صحيفة أفانتي: "طرابلس كما قال عنها السيناتور غايتانو سالفيميني ليست إلّا صندوقًا من الرمل عديم الفائدة، ليس فيها ما يستحق المغامرة، إنكم تدفعون بالشباب إلى المحرقة ليسقطوا على أسوارها كما سقط جنود النمسا أمام نافذتك".
ستبقى الرواية التاريخية كاشفة لجرائم الاستعمار، مُحرجة لأجياله، مساهمة في إعادة بناء الوعي الجمعي لدى الشعوب التائقة إلى الحرية
تبدو الرواية موجّهة إلى الإيطاليين قبل العرب، وموجهة للعرب أيضًا ليعلموا أنّ في المستعمر جنودًا ينأون عن فعل الشر، فالجندي الذي لا يدافع عن حق يصبح كالآلة المشتغلة بالكهرباء.
إنّ المستعمِر إذا أراد الغزو فإنه يقيس قوّته بقوة البلد المستعمَر، فإذا ما رآه ضعيفًا فإنه يُجهز عليه وعينه على موارد البلد ومقدراتها، والحلقة الضعيفة المتضررة الجنود والأبرياء.
وكأن الإيطاليين يثأرون من سلطات النمسا التي أعدمت جنودهم في حرب التحرير في وادي بلفيوري، بل تجاوزوهم وحشية. أجبروا النساء الليبيات على المشي فوق جثث أزواجهن وآبائهن بعد تنفيذ الإعدام. يدفعوهن بأعقاب البنادق وهن يتمرغن على الأرض رافضات، ثم يطلقون عليهن النار جميعًا.
وفي شارع سيدي حمودة نشاهد حليمة وشقيقها حمد تجرعا المأساة في السرداب وتمنت أن يعود جنينًا لتخبئه في رحمها، ولا يخرج أبدًا إلى هذه الحياة التي ظُلمت فيها. وجنود الكاربينيري يرمون الجثث في البحر وهناك امرأة تصرخ تترجاهم أن لا يرموا أباها قائلة: "حرام عليكم هو لم يَمت بعد".
ولنعد للهوية فنقول: لا تكاد تخلو رواية حديثة من قضية الهوية، وإن كان زمن الأحداث قديمًا إلا أنّ عائشة طرحتها بقوة، لِما فيها من قيم، ومقومات لو فُهمتْ لدى العربي لحلّق بعيدًا. "فالهوية العربية مشبوهة ومثيرة للشك ومريبة مثل جميع الشعوب المتخلفة حين تواجه واقعًا جديدًا. إن عقل العربي لا يستوعب أسس الحضارة والإنسانية، لا يلقي نظرة على إمكانيات التقدم ولا يستطيع أن يتخيل آثار نظام جديد على الازدهار المستقبلي للبلاد".
عمومًا الرواية محكمة البناء، متعددة الشخوص، سرد شيق ولغة رشيقة بليغة، حتّى أنه يجب على المتلقي الإمعان ليقبض خيوطها، ما يدلّ على أن الروائية أرادت قول الكثير، ووجدت نفسها مُلزمة بعرض الأهم والمفيد من الأحداث لتُرسّخ فكرتها في ذهن القارئ، بحيث نستشعر السرعة في السرد والانتقال بين الأمكنة بسلاسة، دون أن يتفكك المبنى. بحيث تعرّف القارئ على بعض مدن ليبيا وشوارعها وشواطئها، طبرق، مصراتة، درنة، معسكر أبومليانة، ساحة العقرب، شاطئ بنغازي، جامع سيدي شائب العين.. كما تعرّفنا على العديد من الأماكن في إيطاليا.
لو أُخِذت هذه الرواية على محمل الجد، فستكون إضافة مثمرة في الحقل الثقافي العربي من جهة، وتشجيعًا للكتابة في مجال الرواية التاريخية من جهة أخرى.
ستبقى الرواية التاريخية كاشفة لجرائم الاستعمار، مُحرجة لأجياله، مساهمة في إعادة بناء الوعي الجمعي لدى الشعوب التائقة إلى الحرية.